تكثر لدى الاوساط المتذمرة من استئثار الحزبين الرئيسيين في الولاياتالمتحدة بالعملية السياسية على اختلاف مستوياتها، شكوى مفادها ان هذين الحزبين، اي الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري، هما وجهان لعملة واحدة بحسب مصادر تمويل هذين الحزبين، سواء منها الارصدة المخصصة لهما من خزينة الدولة او التبرعات التي يغدقها عليهما قطاع الاعمال، هي غالباً واحدة، والشرائح الاجتماعية التي يسعيان الى استقطابها هي نفسها ولا سيما في العقدين الماضيين اللذين شهدا منافسة على "الوسط" الاجتماعي الاقتصادي. بل ان هذين الحزبين متماثلان في البنية التنظيمية وفي الاشكال الخطابية، وفي الاولويات التي يدرجانها في برنامجيهما السياسيين. وعلى رغم ان هذه الشكوى تنضوي على قدر من الصحة، فإن الفارق بين الحزبين لا يقتصر على الشكليات، وان اجتمع الديموقراطيون والجمهوريون على قواسم مشتركة في معظم طروحاتهم. فالمسائل الرئيسية التي يدرجها البرنامج الجمهوري هي تخفيف العبء الضريبي، وتحسين أوضاع التربية والتعليم، وتعديل برنامج الانعاش الاجتماعي، ومراجعة النظام العدلي، وتطوير انظمة الرعاية الصحية والاجتماعية، ومعالجة الشؤون البيئية، وإصلاح النظام السياسي، وتعزيز المكانة الدولية للولايات المتحدة. فمسألة العبء الضريبي هي حجر الاساس في البرنامج الاقتصادي الجمهوري. ومن البديهي، في اطار تفصيل هذا البرنامج ان يصر الجمهوريين على ان الازدهار الذي تشهده الولاياتالمتحدة يعود الى المواقف المبدئية للاكثرية الجمهورية في الكونغرس، والتي نجحت في ضبط الإنفاق، وصولاً الى الانتقال بالموازنات من العجز الى الفائض. ويلحظ البرنامج الجمهوري في هذا السياق ان التخلص من العجز جاء في أعقاب سيطرة الجمهوريين على الكونغرس بمجلسيه، للمرة الاولى منذ 40 عاماً. بل يتضمن البرنامج قراءة للتاريخ الاقتصادي المعاصر يعتبر ان الثورة التقنية والمعلوماتية التي حققت الانتقال الى "الاقتصاد الجديد"، هي نتيجة مباشرة لنهج خفض الضرائب وتشجيع الاستثمارات والمبادرات في قطاع الاعمال، والذي اعتمده الرئيس الاسبق رونالد ريغان وسلفه جورج بوش الاب. اذ ادى هذا النهج الى تجمع ارصدة الاستثمارات التي جعلت تحقيق الثورة في التقنيات ممكناً. وهذه القراءة هي في الواقع خلاصة التصور المبدئي الجمهوري لطبيعة الدورة الاقتصادية. إذ يعتبر الجمهوريون ان الزخم الاقتصادي يتحقق بامتناع الدولة عن التدخل المباشر، وباتاحتها المجال امام المبدعين والمستثمرين للتصرف الحر بما يؤدي الى إيجاد الفرص والمنتجات التي يستفيد منها المجتمع بأكمله، وذلك في مقابل التصور الديموقراطي الذي يعتبر ان للدولة دوراً في تحفيز الابداع والاستثمار وضبطهما على حد سواء. وانطلاقاً من القناعة الجمهورية ان مصلحة المجتمع تتطلب اوسع الحرية لاصحاب رؤوس الاموال، فان البرنامج السياسي للحزب الجمهوري يطالب بعدم اعتماد النسبية في تحقيق العبء الضريبي، بل بإعادة الفائض الى المواطنين وفق ما سددوه من ضرائب، بنسبة واحدة، وتدور اقتراحات الجمهوريين في موضوع تخفيف العبء الضريبي حول محور واحد هو تسهيل تراكم رأس المال، كوسيلة يمكن للمجتمع عبرها من ايجاد الحلول لما يعاني منه من مشكلات. وبما ان المبادرة الفردية المستفيدة من رؤوس الأموال المتراكمة هي المحرك للتقدم الاجتماعي في وجهة النظر الجمهورية، فإن الجمهوريين يشددون على ضرورة الدفاع عن الشركات الصغيرة وتجنيبها قدر الامكن الاعباء التنظيمية والادارية التي تفرضها عليها الاجهزة الحكرمية. وهنا يكمن موضع خلاف آخر في الاهتمام والتوجه الخطابي بين الحزبين، إذ غالباً ما يشهر الديموقراطيون اهتمامهم بصون حقوق المواطن في مكان عمله إزاء رب العمل الذي يميل الى الحد منها، فيما يعنى الجمهوريون بحقوق المواطن بصفته رب عمل ازاء الدولة التي تكبل هذه الحقوق. جهل الطالب الاميركي ويحاول الجمهوريون التوفيق بين مطالبة الدولة بالانكفاء لافساح المجال امام المبادرة الفردية في كافة المجالات من جهة، وبين الدور المرتقب من الدولة على أكثر من صعيد لدى المواطن الاميركي، ولا سيما في مجال التعليم، من جهة اخرى. اذ على رغم انتشار المدارس الخاصة، فان الدور الاول في التعليم في المجتمع الاميركي هو للمدارس الرسمية. وثمة اجماع في الولاياتالمتحدة ان التعليم يعاني من ازمة تتجلى في انخفاض مستوى الطالب الاميركي بالمقارنة مع زملائه من مختلف الدول، وفي انسحاب الطلاب من المدارس والتخلي عن الدراسة، وفي الحال الامنية المتردية في الكثير من المدارس. وفيما يسعى الديموقراطيون الى معالجة هذه الازمة عبر وضع الحلول التفصيلية لها، فان وجهة النظر الجمهورية تدعو الى تحفيز المدارس الى تحسين اوضاعها من الخارج، عبر تهديدها بتخفيض مخصصاتها المالية وصولاً الى اغلاقها. والوسيلة التي يحبذها جورج بوش الابن هي "القسائم الدراسية" التي تمنح الاهلين رصيداً مالياً لتسجيل أطفالهم في المدارس الخاصة، على ان يقتطع هذا الرصيد بشكل مباشر او غير مباشر من مخصصات المدارس الرسمية. ويدرج الجمهوريون هذه الوسيلة في إطار الاقرار بحرية المواطن بالتصرف، فيما يعتبر الديموقراطيون ان الهدف منها تقويض منظومة التعليم الرسمي. الانعاش الاجتماعي ويلجأ الجمهوريون الى مبدأ تقليص دور الدولة في معالجتهم لمسألة برنامج الانعاش الاجتماعي. يذكر هنا ان هذا البرنامج يقدم المساعدات المالية والعينية لمن يفي بشروط الاستحقاق من الفقراء والمعوقين والنساء والاطفال الذين لا معيل لهم. الا ان العقود الماضية شهدت التجاوزات في هذا البرنامج الذي استمر بالتضخم. وقد عمدت حكومة الرئيس كلينتون وحكومات الولايات المختلفة الى تطبيق اصلاحات ألزمت القادرين من المستفيدين بالعمل وصولاً الى التحرر من الحاجة الى هذا البرنامج. ويعتبر الجمهوريون ان الاصلاحات التي تحققت جاءت نتيجة مبادرتهم، ويدرجون المزيد منها في برنامجهم، وتتميز اقتراحاتهم عن تلك التي يعتمدها الديموقراطيون باشتمالها على جانب اخلاقي يدعو الى تثقيف الناشئة حول ضرورة الامتناع عن الحمل خارج إطار الزوجية، والى تجنب الطلاق، والتزام القيم التقليدية. وهذا الجانب الاخلاقي التقليدي في التوجه الجمهوري يتجلى كذلك في التصدي لفكرة الزواج المثلي. وفي رفض مقولة التعرض بين فصل الدين عن الدولة وإبراز الرمور الدينية او السماح للاندية الدينية بالنشاط في المدارس. ولكن البرنامج الجمهوري، يسارع الى التأكيد ان هذا الالتزام التقليدي يسير يداً بيد مع الإصرار المتجدد على فتح الحزب الجمهوري امام جميع الفئات العرقية والدينية بما في ذلك المهاجرون الوافدون الجدد. فالبرنامج الجمهوري يسعى إذاً الى تأكيد التباين بين وجهة النظر الحزبية بقيادة جورج بوش الابن وبين التيار المحافظ ذي الميول الانعزالية، والذي يعبر عنه المعلّق الصحافي باتريك بوكانان، في رفضه للمهاجرين وتململه من التعددية الثقافية. وهذا التباين في الواقع ليس شكلياً، بل ان التوجه الجمهوري المحبذ للإبداع والاستثمار يرحب بقدوم اصحاب الكفاءات ورؤوس الاموال. اما في موضوع الاجرام، وفي مقابل المطالبة الديموقراطية بالحد من انتشار الاسلحة النارية، يتهم الجمهوريون حكومة الرئيس كلينتون بإهمال تطبيق الانظمة المرعية، بل بالفساد والضلوع بالتجاوزات التي افقدت القوانين فعاليتها، ويقتصر برنامجهم على الدعوة الى تصحيح ما أفسده كلينتون، على حد تعبيرهم، وعلى خطوات تنشيط النظام العدلي وتشديد طابع العقوبة على المجرمين، من دون اي ذكر لمسألة انتشار الاسلحة النارية وإساءة استعمالها، على رغم أنها مسألة تحظى باهتمام شعبي واسع النطاق. وهذا الموقف الجمهوري يكسب الاتهام الديموقراطي للجمهوريين بأنهم اسرى المصالح الخاصة للجهات التي تدعمهم قدراً من الصدقية. فالمنطلق المبدئي للموقف الجمهوري قد يكون بالفعل تفضيل الحد من تدخل الدولة في موضوع الاسحلة، كما في غيره. ولكن وضع انتشار الاسلحة النارية والذي يبلغ حد الأزمة، يتطلب معالجة واقعية تتجاوز المبادئ النظرية. فالريبة تحوم حول دوافع امتناع الحزب الجمهوري عن هذه المعالجة. وكما التعليم كذلك برنامج الضمان الاجتماعي وبرنامج العناية الصحية للمتقاعدين، إذ يمكن اعتبارهما جزءاً من العقد الاجتماعي بين المواطن الاميركي ودولته. فعلى رغم تعارض هذين البرنامجين من حيث المبدأ مع مفهوم الحد من دور الدولة الذي يعتنقه الجمهوريون، فان جورج بوش الابن وسائر الجمهوريين، في سعيهم الى طمأنة المتقاعدين الذي يشكلون وزناً انتخابياً مهماً، يؤكدون في برنامجهم السياسي ان الضمان الاجتماعي والعناية الصحية "التزام نهائي". يذكر هنا ان صندوق الضمان الاجتماعي يقدم للمتقاعدين وبعض الفئات الاخرى مخصصات شهرية، تتوافر الارصدة لها من المساهمات التي تجبى مع الضرائب من كافة العاملين المنتجين، ومن الفائض المتراكم في هذا الصندوق. ومع توقع ارتفاع اعداد المتقاعدين بالمقارنة مع العاملين نتيجة لاقتراب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، اكثر الاجيال الاميركية عدداً، من التقاعد، فإن صندوق الضمان الاجتماعي قد يواجه أزمة، لا سيما ان الحكومات المتعاقبة قد لجأت الى الاستدانة من الفائض المتراكم فيه. وعلى رغم ان التوقعات الحالية تشير الى فائض في موازنة الدولة يسمح بتسديد هذه الديون وبتأخير إفلاس صندوق الضمان الاجتماعي، فان إصلاح نظام الضمان الاجتماعي ما زال مطلوباً. وفيما خطة الاصلاح التي تقدم بها الديموقراطيون تبقي توجيه الاموال التي يشرف عليها برنامج الضمان الاجتماعي في يد إدارته، فإن الاقتراح الذي يعتمده جورج بوش الابن وحزبه يدعو الى تمكين الأفراد من اختيار شكل الاستثمار لمساهماتهم. ويعتبر الديموقراطون ان اقتراح بوش هذا من شأنه تقويض برنامج الضمان الاجتماعي عبر استنزاف اكثر من نصف الارصدة منه. دور البرامج الحكومية ويسعى بوش وحزبه الى التوفيق بين توقع المواطن الاميركي استمرار البرامج الحكومية وبين القناعة الجمهورية حول ضرورة تقليصها او الغائها. فالجمهوريون يعتبرون ان دور الدولة في موضوع العناية الصحية والتأمين الصحي العام هو الاشراف الرقابي لا التنفيذ العملي. اما الديموقراطيون، فيعتبرون ان الحديث الجمهوري عن إشراف رقابي هو مجرد غطاء لسعي مبطّن الى تكريس براءة الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية في الموضوع الصحي، ويصرون على ان الدور الذي يريدونه لها هو الادارة التوجيهية، لا التنفيذية، فالحزبان متفقان خطابياً على ان مسؤولية التنفيذ يجب ان تبقى بيد القطاع الخاص، فيما يرى الجمهوريون ان دور الدولة هو التمكين والاشراف، بينما يطالب الديموقراطيون بدور اكبر لها. ويتضمن البرنامج الجمهوري الخطوط العريضة لاهداف المشروع التنظيمي للتأمين الصحي، مع تأكيد من بوش ان كافة المواطنين الاميركيين، على اختلاف مستويات دخلهم، سوف يحصلون على عناية صحية رفيعة المستوى، في حال جرى تطبيق مشروعه. ولكن الكيفيات العملية لهذا التطبيق ليست واضحة. والواقع ان المجهود الجمهوري في هذا الصدد، على اتساع المساحة المخصصة له في البرنامج، عرضة ان يتهمه الديموقراطون بأنه اعد للاستهلاك الاعلامي وحسب، في مواجهة النية الديموقراطية بتطبيق مشروع تأمين صحي ذي مضمون، وذلك للتجاوب الشعبي الواسع النطاق مع مقولة الحاجة الى برنامج عناية صحية عام. وما ينطبق على موضوع العناية الصحية ينطبق ايضاً على المسألة البيئية التي يدرجها البرنامج الجمهوري ضمن الاولويات. فالجمهوريون يعتمدون خطابياً الحد الاقصى في الاهداف، ولكن التفاصيل العملية تبقى غائبة، في حين ان تأكيدهم على ضرورة الموازنة بين الحاجات الاقتصادية للبلاد والمحافظة على البيئة يتضمن نقاطاً تفصيلية تتعارض مع توجهات دعاة المحافظة على البيئة، بما فيها توفير الاراضي المشاع للشركات الخاصة في سبيل استثمارها، ولاستخراج النفط منها. وفي موضوع النفط خصوصاً، والطاقة عموماً، كما في موضوعي النقل والتجارة يتضمن البرنامج الجمهوري جملة من الانتقادات حول اداء حكومة الرئيس كلينتون. اما العلاج الجمهوري المقترح لمعالجة سوء الاداء، فهو تقليص الاجهزة الحكومية واختصار القوانين الفاعلة. ويعتبر البرنامج الجمهوري ان مجهود التقليص والاختصار هذا هو صلب عملية إصلاح النظام السياسي. ويعدد في هذا السياق الانجازات التي حققها الجمهوريون في الكونغرس وفي حكومات الولايات، كما يسرد في المقابل مجموعة من القوانين الاعتباطية القائمة مطالباً باخضاعها للمراجعة او الالغاء، واعتماد المنطق السليم في صياغة القوانين. ولكن هذا الزخم في التنفيذ لا يشمل نظام التمويل الانتخابي، بل الاقتراحات بشأنه ترد خجولة ومختصرة. وفي حين ان كُلاً من الحزبين الجمهوري والديموقراطي قد لا يكون على استعداد لتطبيق اصلاح جذري لنظام التمويل الانتخابي، فإن الديموقراطيين قد رسموا خطة تفصيلية لم يتقدم الجمهوريون بمقابل لها، ما قد يعرضهم للانتقاد في مسألة اخرى تحظى بشعبية واسعة. الصين نقطة خلاف وبعد الدعوة الى تعزيز اوضاع القوات المسلحة، والنقد اللاذع لممارسة حكومة الرئيس كلينتون في هذا المضمار، يدعو البرنامج الجمهوري الى التزام نهج وسطي يتجنب الانعزالية من دون ان يتورط بالتدخل العسكري المنهك. ثم يفصل العلاقات الدولية من وجهة النظر الجمهورية. وعلى رغم ازمة الاعتراض في كل فقرة على اسلوب الرئيس كلينتون وحكومته، فان السياسة الخارجية التي يرسمها الجمهوريون لا تختلف عن تلك التي اعتمدها الديموقراطيون الا في موضوع الصين، اذ يطالب الجمهوريون باعتبارها خصماً حالياً لا عدواً سابقاً، ويدعون الى التشدد في العلاقة معها، وفي موضوع ربط المساعدات الخارجية بالامتثال لأهداف السياسة الاميركية. التحالف مع اسرائيل اما في مسألة الشرق الاوسط، فاسرائيل هي طبعاً جوهر الموضوع والتحالف معها مبدئي ودائم، وضمان امنها ضرورة أولية، والتأكيد على تفوقها النوعي التزام لا رجوع عنه، ونقل السفارة الاميركية الى القدس بصفتها عاصمة لها امر يتعهد بوش ان يباشر في تنفيذه فور توليه سدة الرئاسة، وتطوير العلاقة مع جيرانها مشروطة بالسلام معها. اذاً فالبرنامج السياسي الانتخابي للحزب الجمهوري يكشف عن تباين مبدئي مع الحزب الديموقراطي، في الاصرار الجمهوري على اعتبار تقليص دور الدولة السبيل الى الاصلاح والتطوير، ولكنه يشير كذلك الى تقارب عملي في وجهات النظر على اكثر من صعيد، والى اتفاق ضمني حول المسائل الاساسية التي تواجهها الولاياتالمتحدة.