ما هو القاسم المشترك بين الحساسية الشعرية في اللغتين العربية والألمانية؟ وهل يمكن العثور على نقاط ابداع مشتركة بين الحضارتين؟ كيف نفهم الأنا والآخر من خلال علاقة التواصل بين الثقافتين العربية والألمانية؟ هذه الأسئلة طرحها أكثر من 100 شاعر عربي وأوروبي يتحدثون الألمانية في صنعاء في مؤتمر الشعر العربي - الألماني الذي أقيم وسط زخم واهتمام رسمي وشعبي يمني وحضور عربي لافت. الحوار بين الشعراء بدأ ولكنه في ما يبدو لن ينتهي إذ تشكلت عشرات من الأسئلة الجديدة في محاولات للفهم والتعبير طالت رسالة الشعر ودوره في القرن الحادي والعشرين. في حفل الافتتاح انتقلت عدوى الشعر الى رئيس الوزراء اليمني عبدالكريم الإرياني الذي استشهد بأبيات لامرئ القيس الكندي اليمني كما قدمه مذيع الحفل على أنه شاعر علاّمة، فتحدث عن خصوصية الشاعر المتفردة وغاص في تاريخ الشعر العربي ووصفه أنه سفر تاريخ الأمة. وفي كلمته أكد وزير الثقافة والسياحة عبدالملك منصور على مقولات للشاعر الألماني غوته مثلت دعوة صريحة الى الحوار بين الشرق والغرب حين رأى انهما كم شعري واحد، ويلتقيان في الإنسانية، معتبراً ان الشعر جسر من الجمال يبدأ فتتسع دائرته لتشمل العاشقين جميعاً. من جانبه شدد رئيس جامعة صنعاء وشاعر اليمن المعروف عبدالعزيز المقالح على أهمية المؤتمر في فتح بارقة الأمل في التواصل العربي العالمي وتعميق الحوار الإبداعي بين الشرق والغرب، هذين الوجهين المضيئين لكوكب واحد جمعت بين أبنائه منذ آلاف السنين كلمة الله الواحد وصوت الشعر الذي تتمازج فيه الأزمنة وتذوب الحدود ويتأسس شكل آخر للإفصاح عن أشواق الإنسان وأحلامه. ويرى المقالح ان الشعر بوصفه محمولاً ثقافياً وجسراً للعلاقة الحميمة بين الشعوب ينسج دلالاته ومعناه وفقاً لنظام لغوي خاص يجعل من الصعب في كثير من الحالات متابعة محمولاته، ولكنه مع ذلك يبقى قادراً على أن يخلق هالة من الضوء تستطيع هتك الحجب وتمزيق الحواجز. ويقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع ان مؤتمر صنعاء يسهم الى حد بعيد في تصويب العلاقة بين الأنا العربي والآخر الغربي، هذه العلاقة التي كانت قائمة دائماً على التغليب أو الاستتباع أو الشعور الدائم بالنقص من الطرف الأول وعلى الاستعلاء وتكريس النموذج وتعميمه من الطرف الثاني. ويستطرد المقالح: جئنا الآن لكي نقول أن ما ينسحب على السياسة أو الاقتصاد أو الغلبة العسكرية والتكنولوجية لا ينسحب بالضرورة على الثقافة والفن، وأن مساحة المتخيل عندنا تتولى تصحيح الخلل وردم الهوة عبر رؤية شعرية الى العالم تستطيع أن تعود دائماً الى ينبوعها وأن تتغذى من السحري والمحلوم به ومن غير المنجز. وقد جاء اختيار اليمن لمثل هذا اللقاء في مكانه تماماً لأننا في هذا المكان بالذات نقف فوق أرض الشعر ونستعيد بداهة العلاقة بالعالم والأشياء ونسند ظهورنا الى شمس لم يجر استنفادها. وقدمت الناقدة الألمانية كاترينا هيلجروبر مداخلة حول الحساسية الشعرية بين الأدبين العربي والألماني قالت فيها ان الثقافتين العربية والألمانية تبدوان لأول وهلة متباعدتين، ولكن يمكن تغيير ذلك من خلال التفاتة كبيرة الى الوراء تعلن عن نفسها بوضوح عبر الأفعال المتفردة الرائدة مثل ترجمة فردريك روكرت للمختارات العربية "حماسة أبي تمام" ولدى إفرايم ليسنج الذي قرأ في ناتان الحكيم ان الأديان السماوية الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية لها موطئ قدم متساوٍ في الحقوق. وأفاضت هيلجروبر ان الرومانتيكية الألمانية عرفت الشرق منذ مجيء "المغامرات العربية" لكارل مايس التي جرت في رأسه فقط في بيته في ساخسن وكذلك غوته الذي أسف لأنه لم يكن قد ولد في بلاد الشرق. وتستشهد الناقدة الألمانية بالمشترك والمتداخل بين الثقافتين العربية والألمانية برواية "الربع الخالي" التي كتبها ميشيل روز كمسافر عربي في تقليد أوروبي طويل بدأ مع كارستن نيبوز عام 1774. وطرح الشاعر اللبناني جودت فخرالدين في مداخلته أسئلة حول امكان وجود علاقة بين الشعر العربي والألماني على رغم وجود الكثير من الفروق بينهما في جميع المستويات وبخاصة في المستوى اللغوي النحوي الذي لا تملك الترجمة حياله سوى التعامي أو التجاهل. وينتقد فخرالدين عمليات ترجمة الشعر التي قد تؤدي دوراً سلبياً حين تمسخ ما تنقله من لغة الى أخرى وحين تتعامل مع النصوص الشعرية كوثائق أو مجرد أفكار. ويجزم فخرالدين أن الشاعر الألماني غوته قدم مثالاً فريداً في اقامة علاقة التفاعل بين الأدب العربي والألماني وقدم أيضاً دليلاً على ان قيام ظواهر ثقافية كبيرة - مثل ظاهرته - هو السبيل الأجدى لقيام الصلات الفاعلة والمثمرة بين الآداب العالمية على اختلافها. لقد نظر غوته الى الآداب العالمية وكأنها أدب واحد وفي أساس نظرته هذه نزعته الإنسانية التي تترفع عن كل انتماء ضيق عرقياً أو جغرافياً دينياً، وقاده شغفه بالمعرفة الى محاولة الاطلاع على كل ما كان معروفاً في عصره ومن ذلك آداب الشرق وبخاصة الشعر العربي الذي أعجب بالقديم منه. ويخلص فخرالدين الى القول أن كتابات غوته على أنواعها تنطوي على مخزون ثقافي عميق وواسع ولكنه لا يظهر بمظاهر من التنظير الجاف بل يتوارى خلف صياغات مفعمة بالنور والحيوية، وان ظاهرة ثقافية كالتي جسّدها غوته مثال مشرق على خصب التفاعل بين الثقافات المختلفة. ويعبر المستشرق الألماني شتيفان فايدنير في تعليق له بالمؤتمر عن اعتقاده بوجود القليل فقط من أوجه التماس بين الشعر العربي والألماني المعاصر. ويقول: حين كان الشعر العربي يتلقى الحداثة الغربية فمن الطبيعي أن تكون هناك نقاط لقاء بينهما. ولو وضعنا بعضاً من التيارات الفلسفية جانباً لوصلنا الى نتيجة مفادها أن تأثر الشعر العربي بالغرب اقتصر على التأثير الفرنسي والإنكليزي الذي تجلت بصماته في الشعر العربي المعاصر وهو المسؤول عن نقطة التماس. ويرى فايدنير ان التلقي العربي للأدب الألماني اقتصر بشكل رئيسي على المسرح متجسداً بشخص بريشت وعلى النثر بشخص كافكا. وتعرف الجمهور العربي على هؤلاء الكتاب من خلال الترجمات التي نقلت من الفرنسية، أما الشعر الألماني فهو موجود في العربية ولكن بشكل فوضوي وبترجمات مشكوك في دقتها، وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على تراكل، ريلكه وهولدرلين. ومنذ زمن قصير بدأت أيضاً أسماء مثل باول سيلان تعرف في العالم العربي. ويصف فايدنير الترجمات المتوافرة بالركاكة ولا يمكن من خلالها معرفة العوالم الحقيقية لهؤلاء الكتّاب والشعراء وينطبق هذا الأمر بالطبع على الكتّاب العرب الذين بدأت أعمالهم تترجم الى اللغة الألمانية مثل أدونيس ومحمود درويش وغيرهما. ويخلص الناقد الألماني الى ان أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء سوء التلقي المتبادل ليس فقط الافتقار الى من ينقل الثقافة أو عدم توافر المؤسسات الداعمة لذلك، وانما أيضاً الفرق الشاسع في مفهوم وجوهر الشعر نفسه وما هو الشعري وما هو نقيضه. أما الشاعر والناقد الألماني هارالد هارتونج فيؤكد ان غوته عمق مصطلح الأدب العالمي ونادى به كما نصح في كتابه "ديوان الغرب والشرق" من يود فهم شاعر فليذهب الى بلاد الشاعر وهذا معناه ان الشاعر لا يُفهم الا في اطار ثقافته المحلية وليس في شكل خيالي توليفي من الثقافة. ومع ذلك فهو يقر بوجود قواسم ابداعية مشتركة بين الشعر العربي والألماني من خلال الترجمات والأمسيات الشعرية ولقاءات الكتّاب، أما في ما يتعلق بنقل الشعر العربي الى الألمانية فإننا ما زلنا في بداية الطريق ولكن البداية أصبحت ممهدة. ويرى هارتونج ان الشعراء الألمان يمكن أن يتعلموا من زملائهم العرب الجرأة في التطرق لموضوعين كبيرين وهما الحب والموت أي الجرأة في التحدث عنهما بجدية وليس بشكل عابر، وثانيهما العودة الى لغة أكثر موسيقية من دون أن يعني ذلك ان الذائقة الألمانية لا ترى في الشعر العربي غير الموسيقى.