يمكننا القول ان محادثات كامب ديفيد فشلت بسبب الخلافات على القدس واللاجئين أو المياه، لكن السبب الحقيقي والخفي هو ان القيادة الاسرائيلية لم تجهز ناخبيها ومجتمعها للسلام. والآن على النخبة السياسية الاسرائيلية ان تتخذ الخطوة الشجاعة المنشودة وتصرح بوضوح: لقد أخذنا أرضهم، وعلينا الآن ان نعيدها. لا توجد أية وسيلة أخرى للتوصل الى اتفاق دائم. معظم اليهود الاسرائيليون يعلمون جيداً ان الأراضي المحتلة ليست لهم، ولكن لم يجرؤ أي من زعمائهم السياسيين على التصريح علناً بذلك. ان المطالب والاستحقاقات الفلسطينية المتعلقة بالأرض هي من أكبر الممنوعات التابو في النقاش المجتمعي العام في اسرائيل، ويتجنب الحديث فيها حتى أكثر الزعماء ليبيرالية خوفاً من ردة الفعل الانتخابية. وتشكل تجربتي الشخصية مثالاً جيداً على ذلك، اذ قدمت عائلتي الى اسرائيل من الولاياتالمتحدة في السبعينات، واستأجرت بيتاً عربياً يطل على بلدة القدس القديمة. علمنا بالطبع ان ملكية البيت تعود أصلاً الى فلسطينيين، لكننا تفادينا التطرق الى هذا الموضوع في مناقشاتنا العائلية، بل آثرنا بدلاً من ذلك ان نتحدث عن المنظر الرائع من شرفة المنزل ومعالمه المعمارية الرائعة الرونق ومحيطه الجميل الخلاب. وعندما وصلت سن البلوغ، كان أول بيت استأجره بنفسي في عين كارم، وهي قرية فلسطينية سابقاً تقع على مشارف القدس، وبخلاف الكثير من القرى الفلسطينية الأخرى لم تدمر عين كارم بعد حرب 1948، بل أصبحت منطقة مرغوب فيها السكن خصوصاً من قبل المثقفين اليهود بسبب جمالها الذي يستذكر التاريخ القديم. ومع ان الكثير من جيراني في عين كارم كانوا من اليسار السياسي الاسرائيلي، الا أننا نادراً ما تكلمنا عن الأصول الفلسطينية للبلدة، بل تحدثنا عن حظنا السعيد في الحصول على نخبة البيوت والأملاك في المنطقة، خصوصاً في ظل ضىق السوق العقاري الاسرائيلي. إنني اعتقد بأن عدم استعداد اسرائيل للاعتراف بالاستحقاقات الفلسطينيةينبع من شعورها بالخجل والعار حيال حرب 1948، هذا الخجل الذي لا يمكن نقاشه علناً، إذ طرد الجنود الاسرائيليون خلال هذه الحرب، حوالى سبعمئة وخمسين ألف فلسطيني من ديارهم وممتلكاتهم، أو على الأقل "شجعوهم" بالقوة على الفرار. ومن خلال اجراءات نعرفها اليوم انها اجراءات "تطهير عرقي" أحكمت اسرائيل القبضة على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية وحرمت على الفلسطينيين حقهم في العودة اليها. وبعد عام 1948، ازدهرت الدولة الاسرائيلية الجديدة على أنقاض المجتمع الفلسطيني، ودمرت ومحيت حوالى أربعمئة قرية وأعطيت أراضي هذه القرى لتعاونيات زراعية يهودية، وتسلمت آلاف العائلات اليهودية مفاتيح البيوت والدور الفلسطينية في حيفا ويافا والقدس، مستغلة بذلك أراضي وممتلكات مثمرة أصبحت في ما بعد ذات قيمة عالية جداً. وتتراوح التقديرات لقيمة الخسائر الفلسطينية أثناء الحرب ما بين مئة ومئة وخمسين مليار دولار، بسعر الدولار اليوم، وهي ثروة صُبت في الاقتصاد الاسرائيلي على اشكال أراض وبيوت وآليات ومعدات زراعية وما الى ذلك. واستمرت اسرائيل في النمو من قوة الى قوة بعد حرب 1948، وهي تبني على ما تتحكم به من الأراضي الفلسطينية وتقدر بحوالى 78 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية. ومع ان اليهود كانوا يتملكون أصلاً سبعة في المئة فقط من الأراضي التي خصصت للدولة اليهودية في قرار الاممالمتحدة بالتقسيم، إلا انها أصبحت تتحكم بأكثر من 90 في المئة من هذه الأراضي بعد انتهاء الحرب. وفي الوقت نفسه، أجبر الفلسطينيون على الاكتفاء بمعونات الاممالمتحدة ومخيمات اللاجئين. الاسرائيليون يعرفون تمام المعرفة انه لم يكن بإمكان بلدهم ان يعيش كدولة "ديموقراطية" و"يهودية" في آن إلا بطرد الفلسطينيين عام 1948. من دون ذلك، أي ان لم يطردوا، لكانوا بالتأكيد سيتحدون الطابع اليهودي للدولة، ولاضطرت الدولة الى الحفاظ على هويتها الاحادية اليهودية فقط بحرمان الفلسطينيين من حقوقهم في الديموقراطية. لا يتوقع كثيرون من الفلسطينيين ان يعودوا بالفعل الى ديار ما قبل 1948، وهم يعلمون تماماً أن قرى أهاليهم وآبائهم وأجدادهم قد محيت من الوجود. ويقدر الخبراء في موضوع اللاجئين ان معظمهم سيبقى في أماكن سكنه أو قد ينتقل الى الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن ما يريده الفلسطينيون هو السيادة على ما بقي من فلسطين، وهذا ليس بالمطلب الكبير، اذ اننا نتحدث عن حوالى 22 في المئة فقط مما كان ملكهم أصلاً. إن ما أفضله شخصياً هو ان يعود اللاجئون الى اسرائيل/ فلسطين كلها، وان توحد اسرائيل والأراضي المحتلة لتصبح دولة واحدة، ديموقراطية وعلمانية. ولكن من غير المحتمل ان يكون هذا ممكناً في المستقبل المنظور، لذلك ربما علينا ان نوجه الانظار نحو بناء دولة فلسطينية حيوية وقادرة على الاستمرار. على السيد باراك في الأشهر المقبلة ان يستجمع قواه وشجاعته للتصريح علناً بما يعرفه جميع الاسرائيليين ضمناً، وهو ان الأراضي المحتلة ليست ملكاً لاسرائيل، ومع ان اليمين الاسرائيلي سيجيب بالتأكيد بغضب واستنكار شديدين، إلا ان صراحة رئيس الوزراء ستكون أخيراً كسرت "التابو" حول الموضوع، وفتحت الابواب لنقاش حيوي وواقعي ما بين يهود اسرائيل. الانسحاب الاسرائيلي هو الوسيلة الوحيدة للحصول على دعم فلسطيني حقيقي لاتفاق سلام. ومع ان اسرائيل قد تستطيع في نهاية الأمر ان تجبر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على قبول صيغة انسحاب جزئي، الا انها لا تستطيع ان تجبر ملايين الفلسطينيين على الموافقة على مثل هذه الصيغة، ولا يمكن ان يدوم أي اتفاق من دون الحصول على الدعم الشعبي له. لقد عاش الاسرائيليون طوال 52 عاماً وهم يتجنبون موضوع الفلسطينيين واللاجئين والأرض، وقد آن الأوان لمواجهة الحقيقة والواقع مباشرة. الأراضي المحتلة ليست لهم. * استاذ مساعد في جامعة جون هوبكنز بالتيمور، الولاياتالمتحدة.