حتى قبل عامين، ما كان السودان تحت حكم ثورة الانقاذ، يحكم بأن يستوي على مقعد في مجلس الامن الدولي... بل كان الوارد ان يجلس مندوبه في الاممالمتحدة في كرسي "الاعتراف" او التحقيق في اروقة مجلس الامن ليجيب عن تساؤلات واتهامات في شأن انتهاكات بلاده المتكررة لحقوق الانسان، ولاستهانة نظامه بالديموقراطية، وربما لتكريسه الحرب وتصعيدها في جنوب البلاد، عوضاً عن جنوحه الى السلم. لكن المفاجأة التي فجّرها السودان تمثلت في مطالبة حكومته رسمياً برفع عقوبات الاممالمتحدة عنه، على اعتبار زوال مبرراتها، كما تمثلت في ترشيح مجموعة دول شرق افريقيا وبعدها المجموعة الافريقية في نيويورك، ثم منظمة الوحدة الافريقية في قمة "توغو" الاخيرة، السودان ليتبوأ مقعد القارة الافريقية في مجلس الامن الدولي، لعامين، في مطلع الالفية الثالثة. الواضح ان النظام السوداني تحرك بحسابات جديدة اخيراً، خصوصاً بعد إزالة ما يسميه النظام ازدواجية القرار. وهو ما يعني ازاحة زعيم الحركة الاسلامية في السودان، وربما في غيره، وعراب النظام منذ قيامه في 30 حزيران يونيو 1989 الشيخ حسن الترابي، ومن ثم تجميد دور "المنشية" وهي ضاحية راقية في الخرطوم العاصمة، حيث يسكن الترابي، ومنها كان يمسك بخيوط اللعبة السياسية والادارية والاقتصادية في البلاد، بينما كان القصر الجمهوري في المقابل، مجرد منفذ او معبر، ثم من خلاله رغبات "المنشية" ونزواتها، وتصدر في صورة قرارات! وباستبعاد الترابي من اللعبة السياسية الرسمية في النظام، تنفس كثر الصعداء، خصوصاً الذين يعرفون خطورة وجوده داخل النظام مثل اميركيا ومصر، والذين يخشون ايديولوجيته الرامية الى تصدير النموذج الاسلامي للحكم . ومن هؤلاء الجيران في اثيوبيا واريتريا واوغندا وكينيا وتشاد، ومنهم ايضاً المتحفظون مثل الجماهيرية الليبية وافريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية. وكان طبيعياً حيال هذه التداعيات، ان يتحرك النظام السوداني لترميم علاقاته مع جيرانه، بخاصة مصر، وان يستثمر وزير الخارجية السوداني الشاب مصطفى عثمان اسماعيل تلك الاجواء المواتية، فيخترق كل السياجات بمرونة وبرؤية واضحة. ونجح في سياسته المفتوحة فاستقطب مصر والجزائر واثيوبيا، وطمأن آخرين، بينهم اريتريا واوغندا، وكسب الكونغو الديموقراطية وتشاد وافريقيا الوسطى وحاول مع تونس. لكنه بالقطع اقنع بريطانيا وزارها بعد نجاحه في استعادة العلائق الديبلوماسية الى طبيعتها معها، واستخدم ايطاليا، وقبلها فرنسا لترويض مجموعة الاتحاد الاوروبي، او على الاقل تحييدها اضافة الى جذبه العين وبعض التمدد الآسيوية من بوابة الاستثمار في السودان في النفط والمعادن والشراكة في ميادين واعدة. واذا كان في صفوف المعارضة السودانية من يصف وزير خارجية النظام بانه "طفل معجزة"، واذا كان آخرون يصنفونه في خانة الموالاة، ان لم يكن، القرب القريب من الشيخ المزاح حسن الترابي، فالمؤكد ان د. مصطفى عثمان تعامل مع التطورات والاحداث بروح وطنية وقومية، اكثر منها انتمائية او ايديولوجية، على رغم اتهام بعض الديبلوماسيين في وزارة العلاقات الخارجية له بأنه يتعامل مع الذين داخل وزارته بأسلوب صاحب "المزرعة" الذي داس على كل المعايير والاعراف الديبلوماسية برجليه بدليل انه واجه العاملين فيها بأن كل شيء ممكن الاّ النقل الى الخارج، لأنه له، وهو يجزى به. واذا صح ذلك - على رغم انه شأن داخلي - يكون مؤشراً سلبياً، لان من الممكن ان يكون نجاح الوزير شمولياً، اي في الخارج كما في الداخل، وبذلك يؤكد اسطوريته كمعجزة!! وعلى رغم كل الاضداد، فمن حق الحكومة السودانية المطالبة برفع عقوبات الاممالمتحدة عنها، خصوصاً انها وجدت تعاطفاً واضحاً، حتى من الدول التي كانت سبباً في القرار عام 1995، او كان القرار بسببها مثل مصر واثيوبيا... ويبدو ان النظام السوداني تحرك في شكل فاعل، على الصعيدين الديبلوماسي والسياسي، بديل وقوف دول كثيرة معه الى درجة ان الولاياتالمتحدة الاميركية احرجت حقيقة، واكتفت بتأجيل النظر في الامر في مجلس الامن الدولي حتى تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وليس مرد الامر الى مجرد الاحراج لاميركا بمقدار ما هو اتصالات سرية وجانبية اجراها الجانب السوداني معها، لاقناعها بفتح صفحة جديدة معه، وكل المؤشرات تقول ان ذلك وارد. ولكن ما قصة مقعد افريقيا في مجلس الامن الدولي؟ قبل الاجابة عن السؤال، من المهم القول ان السودان يهمه في المقام الاول، رفع العقوبات الدولية التي فرضت عليه عام 1996، لكنه اكتشف ان خروج ناميبيا من مجلس الامن، كممثل لافريقيا يعني تلقائياً ملء المعقد بدولة من شرق افريقيا بحكم التداول، فلماذا لا يرشح نفسه الى المقعد، خصوصاً انه في المرة السابقة ساند ترشيح كينيا؟ والسودان على حق في التطلع الى المقعد العالمي لأن منافسيه هما جزيرة موريشيوس التي تحتل منصب الامين العام المساعد في امانة منظمة الوحدة الافريقية عن الاقليم الشرقي للقارة، واوغندا التي لا تخفي مساندتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومطالبتها برأس نظام الخرطوم. وبالفعل تنازلت اوغندا في النهاية لتواجه السودان، لكن الخطأ الذي وقع فيه رئيسها يوري موسيفيني، في قمة توغو الاخيرة، انه اثار في الجلسة المغلقة للرؤساء موضوع ترشيح السودان الى مقعد مجلس الامن الدولي، وكال الشتائم والتهم الى النظام السوداني واصفاً اياه ب"غير الانساني" و"الديكتاتوري" و"الشمولي" وبأنه "يسحق حقوق الانسان" و"لا يؤمن بالديموقراطية". وليته صمت لأن المؤتمر كان اتخذ قراره. وما لا يعلمه موسيفيني ان لجنة الترشيحات في المنظمة القارية التي تمثل الشمال الافريقي فيها الجماهيرية الليبية، ان الاخيرة ادت دوراً حاسماً في الانتصار للسودان. ولو علم لسكت عن الكلام المباح وغير المباح!! وللتاريخ، يبدو ان النظام السوداني لعب اوراقه السياسية والديبلوماسة للحصول على مقعد في مجلس الامن نيابة عن افريقيا، بروية وهدوء. ربما اخذ عليه البعض ليس "التطاول" بل "الطموح" لالغاء العقوبات الدولية عليه، مع تطلعه الى مقعد في مجلس الامن الدولي. لكن العارفين ببواطن الامور يؤكدون ان السودان انما طلب اثنتين ليحصل على واحدة، وإن حالفه الحظ، فلماذا لا يحصل على الحسنيين؟ فاذا وافقت اميركا او "ناورت" لارجاء طلب رفع العقوبات على السودان حتى تشرين الثاني المقبل فمعناه انها تتوقع حدوث تغيير جذري في السودان، من خلال المبادرات السياسية الدولية والاقليمية والمحلية، وفي حال وقوع ذلك، فالعقوبات سترفع تلقائياً. اما جلوس السودان على مقعد في مجلس الامن الدولي، وتحت مظلة النظام الحالي، فيعني "كابوساً" بالنسبة الى الاميركان، الا اذا تصالحت الادارة الاميركية مع النظام السوداني على طريقتها، وهو امر وارد بالاذعان للرغبة الدولية وتحول السودان ممثلاً لافريقيا في مجلس الامن. وعندها، ستعمل اميركا على تشجيع الخط الراهن في البلاد الرامي الى الوفاق والمصالحة. وعقبته الكأداء الجبهة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور العقيد جون قرنق. فهل تسمح اميركا لنظام الفريق عمر البشير بالجلوس في مجلس الامن، من دون شروط او ضمانات، ولو كان اول ممثل للسودان في المجلس شخصية مقبولة، مثل اللواء الفاتح محمد احمد عروة؟! * كاتب سوداني.