يلاحظ المتتبع لصراع الأدوار في القارة الافريقية، منذ انتهاء الحرب الباردة، ظهور ما يسمى بمناطق النفوذ في تلك القارة، بعد أن أصبحت مقسمة بين الدول الرئيسية فيها كل في منطقتها. ففي منطقة غرب أفريقيا تضطلع نيجيريا بالدور الرئيسي اقتصادياً من خلال منطقة "الايكواس"، وسياسياً وأمنياً من خلال قوة حفظ السلام الافريقية التي تتولى قيادتها، وتدخلها في سييراليون وليبيريا خير دليل على ذلك. وفي شرق ووسط افريقيا - حيث توجد منطقة التجارة التفضيلية لدول شرق وجنوب افريقيا، والتي تحولت الى سوق مشتركة معروفة باسم "كوميا" - تقوم كينيا بالدور الأكبر. أما في منطقة الجنوب الافريقي فإن جنوب افريقيا تتمتع فيها بنفوذ كبير خصوصاً منذ انتهاء نظام التمييز العنصري واجراء أول انتخابات ديموقراطية غير تمييزية في 1994، هذا فضلاً عن الارتباط الوثيق بين اقتصاديات دول الجنوب الافريقي باقتصاد جنوب افريقيا المتقدم. وجنوب افريقيا لم تسع إلى ممارسة دور الأخ الأكبر سياسياً في القارة الافريقية، حيث أشار نائب رئيسها في أوائل شباط فبراير 1998 إلى أن الحديث عن بلاده كقوة عظمى في القارة لا يزال بعيداً. وإن كان لفت الانتباه إلى سعي بلاده إلى تحقيق ذلك الهدف بحكم امتلاكها لأقوى اقتصاد في القارة، هذا علاوة على كونها الدولة الأفريقية الأكثر ديموقراطية أيضاً. وذلك كله يظهر من خلال استعداد بلاده للإسهام في جهود التسوية السلمية للمنازعات في مختلف انحاء أفريقيا مثلما حدث إبان الأزمة الزائيرية بين الرئيس السابق موبوتو سيسي سيكو والرئيس الحالي لوران كابيلا، بل في الأزمة السودانية كذلك، اذ ليس خافياً ان جنوب افريقيا عرضت الوساطة بين الحكومة والمعارضة في هذا البلد. ومعروف أن جنوب افريقيا تستحوذ على أكثر من 7،35 في المئة من إجمالي حجم التجارة البينية الافريقية، إذ قُدرت صادراتها إلى دول القارة في 1991 بنحو 34،1 بليون دولار، في وقت بلغت الصادرات المصرية الى دول القارة في 1996 نحو 70 مليون دولار فقط. أما في منطقة القرن الأفريقي فإن المنافسة كانت أشد بين الدول الرئيسية خصوصاً من قبل كل من السودان واثيوبيا. فالسودان سعى في أعقاب انهيار نظامي منغيستو في اثيوبيا وسياد بري في الصومال، إلى أن يقوم بدور الشقيق الأكبر أو الأول بين متساوين في المنطقة. ولكن الدول المانحة وفي مقدمها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أخذت بتهيئة اثيوبيا ومساندتها للقيام بهذا الدور نفسه، وذلك عبر تقديم معونات مالية واقتصادية كبيرة إلى أديس أبابا لدعم عمليات بناء هيكل الدولة الجديدة. بل الأهم من ذلك ما قامت به الولاياتالمتحدة من جهد للحيلولة دون انهيار الدولة الاثيوبية مثلما حدث في الصومال، إذ أنها قامت، وبناء على طلب من الحكومة الاثيوبية، بمعالجة مشكلة المليشيات المسلحة وكذلك القوات المسلحة النظامية التي أصبحت بلا دور بعد سقوط نظام منغيستو، وذلك عبر تنظيم هذه الميليشيات والقوات بما يرضي كل الاطراف الاثيوبية، على أن تتولى المعونات الاميركية دفع المرتبات والمخصصات الشهرية لها وتدريبها عسكرياً. وبذلك تم نزع فتيل الحرب الأهلية من اثيوبيا. وتمثلت أولى ملامح تهيئة اثيوبيا للقيام بالدور الرئيسي في منطقة القرن الافريقي في انعقاد مؤتمر قمة الانسانية في أديس أبابا في نيسان ابريل 1992 تحت رعاية الأممالمتحدة بحضور الدول المانحة وكل دول المنطقة، في حين لم تُوجه الدعوة إلى مصر، وكان من نتيجة هذا المؤتمر اعطاء اثيوبيا مركزاً أدبياً هو الأول بين مستاوين، إذ تولى الرئيس الاثيوبي رئاسة اللجنة العليا لشؤون القرن الأفريقي التي قام المؤتمر بتشكيلها لتسوية النزاع الصومالي، على أن تكون هذه اللجنة أداة الاتصال بين الدول المانحة والأممالمتحدة من ناحية وبين منطقة القرن الافريقي من ناحية أخرى في ما يتعلق بالمشكلة الصومالية. وجاء هذا الدعم لاثيوبيا وبخاصة بعد الانسحاب الاميركي من الصومال، منسجماً مع الرغبة في الحيلولة دون استثمار القوى العربية والإسلامية، خصوصاً مصر بالاضافة إلى ايران، الفراغ في الصومال، بما يهدد المصالح الأميركية والغربية في المنطقة، ويتصل بذلك الاقتراح الاميركي في 1996 بإنشاء قوة أفريقية متعددة الجنسيات تحت إشراف واشنطن. ومن هنا قابلت بعض دول القرن الافريقي، خصوصاً اثيوبيا وإريتريا، الجهود المصرية لتسوية الأزمة الصومالية، بنوع من الفتور وعدم الترحيب. إذ شكك رئيس اريتريا في تصريحات عدة له، في قدرات الدور المصري، مشيراً الى اعتماد مصر على 70 في المئة من غذائها على المعونات الخارجية، ومحملاً السياسة المصرية مسؤولية التوترات الموجودة في المنطقة. واعتبر كذلك أن مصر تعمل على إثارة القلاقل في دول المنطقة بما يحقق مصالحها، وذلك وفقاً لأحد تصريحاته تلك. يتضح إذن من فحص خريطة توزيع الأدوار في القارة الافريقية أن مصر كانت خارج هذا الصراع، فيما الرغبة الدولية تلاقت مع الرغبة الاقليمية في تهميش الدور المصري. بل تلاقت الرغبتان ايضاً مع تراجع الاهتمام المصري نفسه بالقارة الافريقية، وهذا ما كشف عنه الموقف المصري إزاء الأزمات في السودان، الصومال، رواندا وبوروندي والكونغو الديموقراطية زائير سابقاً، حتى أن وزير الخارجية المصري السيد عمرو موسى في حديثه الى "الحياة" في 12/3/1995 تجاهل الإشارة إلى الدائرة الافريقية كإحدى الدوائر الأساسية للسياسة الخارجية المصرية. فهو أشار إلى أن المنطلق الأساسي للسياسات الخارجية المصرية هو منطلق عربي وإقليمي ومتوسطي. ودعّم هذا التهميش تزايد انكشاف القارة الافريقية أمام القوى الدولية، إذ أصبحت القارة تسمى ب "رجل العالم المريض"، كما تزايد التنافس الدولي خصوصاً من جانب الولاياتالمتحدة وفرنسا على النفوذ فيها. ويذكر في هذا الصدد أن وزير التجارة الاميركي أشار في أيار مايو 1995 خلال مؤتمر القمة الافريقية - الاميركية الثالث في داكار إلى أن "الولاياتالمتحدة تركت افريقيا فترة طويلة جداً لفرنسا ولكنها من الآن وصاعداً ستبدي مقاومة كبيرة حيال شركاء القارة التقليديين ... لقد تركنا للأوروبيين سوقاً محتملة يسكنها نحو 700 مليون شخص لفترة طويلة، علماً أن هذه السوق الافريقية تزخر بفرص مماثلة لتلك التي كانت متوفرة في اميركا اللاتينية قبل عشر سنوات، وفي آسيا قبل 15 سنة". وعبّر أحد المراقبين الاوروبيين عن هذا النفوذ الاميركي في افريقيا بقوله: "إن المخططين والسياسيين الأوروبيين اتجهوا في الفترة الأخيرة الى ترك الشركات الأميركية المتعددة الجنسية تقرر الأمور السياسية للقارة الافريقية". ولكن ذلك الموقف المصري بدأ في التغير ايجابياً منذ النصف الثاني من 1997 تجاه منطقتي القرن الافريقي وحوض النيل، حيث كثفت القاهرة مساعيها لتسوية الأزمة الصومالية، واستضافت في هذا الشأن اجتماعات عدة لقادة الفصائل المتناحرة الذين أبدوا رغبة كبيرة في قيام مصر بدورها المنشود في تسوية هذه الأزمة. ولا تزال الجهود المصرية مستمرة في هذا الشأن. كما بدأت مصر اعادة تقويم موقفها من الأزمة السودانية خصوصاً مع دخول هذه الأزمة مرحلة حاسمة، باتحاد المعارضة السودانية الشمالية والجنوبية ضد نظام البشير - الترابي الحاكم، وتصاعد أعمال الحرب الأهلية في السودان، وبخاصة في ظل عدم قدرة طرف على تحقيق انتصار حاسم على الطرف الآخر. بل يتزايد تشابك خطوط هذه الأزمة وتعقيدها يوماً بعد يوم، نظراً لتفاعل خيوطها المحلية والاقليمية والدولية مع بعضها البعض. فالسودان يعيش محلياً في أزمة طاحنة اقتصادية واجتماعية وسياسية، ويعاني اقليمياً من حال توتر مستمر مع جيرانه الذين يتهمونه بدعم وايواء جماعات العنف السياسي والارهاب مثلما هو الحال بالنسبة لمصر، وجماعات الانفصال المسلح كما هو الحال بالنسبة لباقي جيران السودان مثل اثيوبيا واريتريا واوغندا. ودولياً يعاني السودان من عزلة بسبب احتكاكه بسياسة أميركا والدول الغربية في المنطقة. وقد شخّص السيد الصادق المهدي رئيس وزراء السودان السابق، الوضع الحالي في بلاده بقوله: "إن سياسات الحكم القائم أوجدت وضعاً منفّراً لمجموعات وطنية سودانية مهمة، بحيث أنه لم تكن أية جماعة تطالب بحق تقرير المصير قبل العام 1989. أما الآن فيمكن أن نقول إنه لا توجد مجموعة سودانية جنوبية لا تطالب بحق تقرير المصير. ولقد صار هذا المطلب جزءاً من الواقع السياسي السوداني يسنده أمران آخران وهما: أ- للمرة الأولى في تاريخ السودان الحديث يوجد لمطلب تقرير المصير سند إقليمي ودولي كبير. ب- أن الجزء الأكبر من الإقليم المعني بتقرير المصير الآن خارج إدارة الدولة السودانية، فهو منفصل عن الدولة بحكم الأمر الواقع وتسيطر عليه إدارة معادية للنظام في الخرطوم". إزاء هذا الحال أدركت مصر أن استمرار الأوضاع على هذا النحو في السودان يشكّل تهديداً حقيقياً للأمن القومي المصري، خصوصاً في ما يتعلق بتهديد الأمن المائي لمصر إذ لم تتوان اثيوبيا عن ترديد رفضها اتفاقات مياه النيل بين مصر ودول حوض النيل، بل هاجمت وسائل الإعلام الاثيوبية مشاريع الاستصلاح المصرية في سيناء وتوشكى، متهمة مصر بأن توصيل فروع من النيل لهذه المناطق يعد خرقاً لاتفاقات مياه النيل التي وقعتها القاهرة. علاوة على ذلك فإن الحكومة الاثيوبية لم تتوان أيضاً عن استغلال ورقة المياه كورقة ضغط سياسي مع الحكومة المصرية متهمة مصر بأنها وراء الاتهامات الموجهة لاثيوبيا ببناء سدود على روافد نهر النيل، بالتعاون مع اسرائيل، لإظهارها كعدو يسعى إلى إلحاق الضرر بالعالم العربي. ومما هو معلوم أن السياسة السودانية منذ أوائل التسعينات اندفعت تجاه اثيوبيا في التعاون المائي بدرجة وصلت في 1993 إلى مستوى التحالف المائي، نظراً للاهتمام السوداني بتدفق وضبط مياه النيل الأزرق ونهر عطبرة. ولو كان هذا التعاون استمر بينهما لأدى إلى تهديد للسياسة المائية المصرية، خصوصاً مع إنكسار التحالف المائي بين مصر والسودان. فبدأت السياسة المصرية، بالتالي، في إعادة تجميع خيوط الأزمة السودانية. وفي هذا الإطار شهدت القاهرة لقاءات سياسية عدة بين القيادة المصرية وعناصر المعارضة السودانية. فزار جون قرنق مصر للمرة الأولى علناً في كانون الاول ديسمبر الماضي ملبياً دعوة الرئيس مبارك. كما التقت القيادة المصرية كلاً من الصادق المهدي وعثمان الميرغني، أكبر قادة المعارضة الشمالية لحكومة البشير، في وقت تقاربت مصر مع نظام الخرطوم، وفتح الحوار بين الدولتين خصوصاً في المسائل الأمنية. وزار مدير الاستخبارات المصرية السيد عمر سليمان السودان والتقى الرئيس البشير، ما مهّد لمزيد من التقارب بغية الوصول الى صيغة مناسبة لتسوية الأزمة السودانية وإعادة الاستقرار الى هذا البلد حتى يمكنه الدخول الى القرن الحادي والعشرين، مستنداً إلى توجه إيجابي مع جيرانه، وذلك وفق تعبير الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس المصري للشؤون السياسية الذي أكد أن مصلحة بلاده هي في أن يظل الشعب السوداني متماسكاً. ويحظى هذا المسلك المصري الجديد تجاه أزمتي الصومال والسودان بتأييد كبير من قبل الأوساط الفكرية المصرية التي انتقدت كثيراً الموقف المصري تجاه أحداث الدولتين في السنوات الأولى من التسعينات، وكذلك من قبل القوى المحلية في هاتين الدولتين. ولا شك في أن قيام مصر بدورها المنشود في أزمتي الصومال والسودان، يعتبر الخطوة الأولى في الطريق الصحيح نحو إعادة صوغ الدور المصري في القارة الافريقية، بما يحقق المصالح المصرية المشروعة في هذه القارة ويكون رسالة واضحة لمحاولات البعض تهميشَ ذلك الدور وتجاهلَ تلك المصالح.