صدور رواية "خويا دحمان" للروائي بقطاش مرزاق في حزيران يونيو الماضي شكل مفاجأة في مستويين. فللمرة الأولى تصدر دار نشر كبيرة، هي "دار القصبة" رواية باللغة العربية. ثم أن بقطاش خرج بهذا الاصدار عن "صمته" الطويل الذي استغرق سنوات والذي جعل الوسط الأدبي يقول انه توقف عن الكتابة، حتى انه اعتزل الناس وأصبح يتحاشى الظهور في الأماكن العامة منذ أن تعرض لمحاولة اغتيال، لا يزال وجهه يحمل اثرها. وفي روايته الأخيرة التي تأتي بعد "طيور في الظهيرة"، "البزاة"، "عزوز الكبران" و"جراد البحر"، نجد بعض ثوابت العالم الروائي لبقطاش، لا سيما موضوع البحر، وذلك من خلال الشخصية الرئيسية "دحمان" الذي ارتبطت حياته بالبحر، شأنه في ذلك شأن أبيه. الا ان الموضوع الرئيسي للرواية هو التاريخ، تاريخ الجزائر مروياً من خلال ذكريات "دحمان"، الشخص البسيط، الشعبي، الحائز على الشهادة الابتدائية، والذي قضى حياته متنقلاً بين البحر وبين مدينة القصبة، في أعالي العاصمة، مع أخته الأرملة، في بيت عتيق يعود تاريخه الى ثلاثة قرون خلت، أي الى العهد التركي. ف"دحمان" وهو يسترجع ذكريات حياته، عبر مونولوج لا نهاية له، مستخدماً ضمير المخاطب، يجد نفسه يستعرض في آن واحد الأحداث والمراحل المختلفة التي مرّت بها الجزائر ابتداء من احتفال فرنسا بمرور مئة عام على احتلالها، في سنة 1930، سنة ولادة "دحمان" الى سنوات ما بعد الاستقلال، مروراً بالهبوط الأميركي على شمال افريقيا اثناء الحرب العالمية الثانية، وبحرب الهند - الصينية ثم بحرب التحرير. و"دحمان" يروي كل ذلك من خلال سرد تاريخه الشخصي: تاريخ والده المتوفى. هذه النزعة التأريخية تجعل من "خويا دحمان" رواية شديدة الواقعية، كما يتجلى ذلك مثلاً في استعمال تواريخ معروفة لارتباطها بالتاريخ الوطني مثل: 14 حزيران 1830، تموز يوليو 1962، 19 حزيران 1965، وغيرها. ويتجلى ايضاً في ذكر أسماء تاريخية: "ابن بلة"، "بومدين"، "عبدالناصر". لهذا السبب بدا حديثه عن مرحلة التسعينات من دون ذكر ما طبعها من عنف ودمار وموت أمراً غير مفهوم. فهل مارس بقطاش الذي يعد من أبرز الأسماء الروائية في الجزائر الرقابة على نفسه؟ ولمذا في هذه الحال؟ عن هذا السؤال اجاب: "الراهن سأتناوله في روايتي القادمة المعنونة "دم الغزال". رواية أوضح انها ستدور حول موضوع مقتل الرئيس بوضياف. "خويا دحمان" هي أيضاً رواية المرارة والخيبة، خيبة المواطن الجزائري الذي امتزجت حياته بتقلبات بلده، وتفاعل وجدانياً مع انتصاراته وانكساراته، حين يرى أحلامه تتحطم، ويلاحظ الرموز والقيادات التي يضعها في مرتبة القداسة، تنتهي الى تصفية بعضها البعض من أجل السلطة والجاه. حدثٌ آخر في الثقافة الجزائرية هو صدور مجموعة قصصية للسعيد بوطاجين، وهو اليوم من اهم كتاب القصة في الجزائر. وفي هذه المجموعة "وفاة الرجل الميت". كما في مجموعته الأولى "ما حدث لي غداً" لا يمكن إلا ان نتوقف عند لغته المتميزة. فعلى خلاف ما اعتدناه من النصوص السردية عامة، لا تقتصر لغة بوطاجين على أداء وظيفة تبليغ الحكاية، بل هي تجعل من نفسها موضوعاً وغاية، مشكلةً حدثاًً في حد ذاتها. إنها لغة متمردة، مجازفة، شاعرية ومفعمة بالتحدي والسخرية. بعض المقاطع لو حولت الى لوحات لأمكن ان ننسبها الى سلفادور دالي، كالمقطع التالي مثلاً: منعرجات وحوس وحصى... شوك في الحلق واللسان... خطأ في الرحم... سلاسل في الجمجمة... فم في الرمل... قرآن في قصر... سرطان في القلم... مسامير في الكبد... ونهر الحياة تمدّد على الرمل يبحث عن قطرة ماء تعيد اليه روحه البرية المتلألئة مثل الحياء". لكن اذا اعتبرنا السوريالية موازية للهروب من المعنى، كما يرى أندريه بروتون، فإن السعيد بوطاجين ليس أديباً سوريالياً. ولهذا نرى ان ثمة نقاداً يعتبرونه فيلسوفاً، أي باحثاً عن المعنى. لكن حتى ههنا في الحقيقة ليس السعيد بوطاجين فيلسوفاً إلا بذلك القدر الذي يجعل النص السردي يتضمن "رؤية حول العالم"، كما يرى جورج لوكاش. وبوطاجين نفسه عندما يشار اليه كفيلسوف يقول: "أنا لا أدعي ذلك". البحث عن انسانية مفقودة هو الهاجس الأساسي في عالم بوطاجين. انسانية لا نجدها الا عند الأشخاص الذين يعيشون على هامش المجتمع، مثل "عبد الوالو"، الذي في "صحبة نفسه كان يتجول وفي المساء يعود الى حومة بن طينة، يفترش الحشيش والجرائد ويتوسّد الكتب..."، وفي مقابل هذه الشخصيات الهامشية تبدو شخصيات "المركز"، كما لو ان وظائفها ومناصبها قد شوهت انسانيتها. الانسانية مفقودة أيضاً في المحيط العمراني الذي تتحرك فيه شخصيات "الهامش"، اي في تلك المدن التي "تتغذى من النعاس...". قصص بوطاجين لا تتأسس على الحكاية كعنصر تشويق بقدر ما تعتمد على جاذبية الشخصية وسحرها. شخصياته الرئيسية المستمدة من "الهامش"، والتي تحتل "المركز" داخل النص، غارقة في التشاؤم في كل الحالات، لكنها تحتفظ، حتى وهي تتخبط في أعماق اليأس والانهيار، بروح السخرية والتحكم. السخرية من نفسها، من شقائها، من محيطها، من شخصيات "المركز" من المجتمع الذي ترفض الاندماج فيه، ومن كل شيء. الوجه الآخر للنشاط الثقافي في الجزائر نقع عليه في الندوات والمؤتمرات. فمن 22 الى 24 من شهر تموز الماضي، انعتقدت ندوة دولية حول الحريات الفكرية في شمال افريقيا نظمها "مركز البحوث العربية"، بالقاهرة، بالتعاون مع "كوديسيريا" بالسنغال و"الجاحظية" بالجزائر. الندوة انعقدت في جو حار، في قلب العاصمة ووسط حي شعبي فلا ينفصل المؤتمرون عن الشعب والمجتمع، كما قال الروائي الطاهر وطار في كلمته الافتتاحية. المؤتمرون تحدثوا عن تجارب بلدانهم في مجال الحريات الفكرية الجزائر، تونس، المغرب، مصر والسودان، وكذلك عن القضايا الأخرى المتصلة بالحريات الفكرية عامة، وانتهوا الى الاجتماع على ان الحريات الفكرية في الوطن العربي ليست بخير. وفي محاولة تفسير هذه الظاهرة، تحدث المحاضرون عن العوامل التالية: 1- التكوين الطائفي للمجتمع العربي مما يحول دون ظهور الفرد المواطن بحيث يصبح الولاء مقصوراً على العشيرة والقبيلة. محمد المهدي بشري، حيدر ابراهيم علي. 2- انقسام مجتمعاتنا الى مجتمعين، واحد يسمي نفسه علمانياً والآخر سلفياً، يخاف الواحد من الآخر محسن مرزوق. 3- التعصب الديني الهادي التيمومي، عبلة الرويني. 4- عدم تملك المجتمعات العربية تاريخاً للنضال من اجل الحريات الفكرية، على عكس اوروبا التي عرفت الاصلاح الديني والثورة الفرنسية وعصر التنوير والثورة الصناعية. حيدر ابراهيم علي. 5- ضعف الأداء الفردي للمثقف العربي عبلة الرويني. 6- اعتماد التعليم على التلقين والحفظ مما خلق اجيالاً يغلب عليها التعصب والدوغماتية وضيق الأفق حيدر ابراهيم علي. 7- بقاء موضوع الحريات الفكرية شأناً نخبوياً مفصولاً عن الجماهير المنشغلة بشؤون حياتها اليومية. حيدر ابراهيم علي. الجزائر - ابراهيم سعدي