لربما تكون الفضيلة الوحيدة للحملة التي شنتها صحيفة "الشعب" المصرية على رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" أنها نبهتنا ثانية الى جمال هذه الرواية التي مر على صدور طبعتها الأولى سبعة عشر عاماً، وكادت على رغم طبعاتها الأربع السابقة أن تقع طي النسيان. فهي لأسباب سياسية في الغالب جوهلت نقدياً ولم تلق من الاهتمام ما لاقته رواية حيدر حيدر السابقة "الزمن الموحش" 1973 التي لفتت انتباه النقاد حين صدورها وعُدّت انطلاقة جديدة للرواية العربية بعد هزيمة حزيران يونيو. أما "وليمة لأعشاب البحر" فكتب عنها القليل وشنت عليها حملات صغيرة انطلاقاً من القضيتين الرئيستين اللتين تعالجهما الرواية: انشقاق الحزب الشيوعي العراقي في نهاية الستينات على نفسه والحرب الدامية التي تعرض لها المنشقون على أيدي التيار القومي في الحياة السياسية العراقية، وانهيار الثورة الجزائرية وما آلت إليه من تدمير ذاتي بعد انقلاب بومدين على بن بللا. كانت السياسة إذاً هي محور النقاش الذي دار خلال السنوات الماضية حول "وليمة لأعشاب البحر"، ولم يجر الحديث كثيراً، على حد علمي ومتابعتي، عن الرواية بوصفها عملاً فنياً يتخذ من أسلوب تيار الوعي ومزج أصوات المتكلمين في الرواية بصوت الراوي كأن تتداخل الأصوات ويتوصل القارئ الى أن العطب الداخلي في التجربتين الموصوفتين هو نفسه. ركز النقد العربي كلامه، سواء وقت صدور الرواية أو حين شنت الحملة عليها وجرى شجبها وتكفير صاحبها، على مضمون العمل الروائي والأفكار التي تنطوي عليها الشخصيات، وأهمل النقد في سياق هذه التوضيحات الكلام على الفن في هذه الرواية. لكن من الضروري القول إن "وليمة لأعشاب البحر" هي من بين الروايات العربية الممتعة بنسيج أحداثها وشخصياتها وقدرتها على تمثيل عوالمها ولغتها المدهشة التي تقترب من لغة الشعر العالية في نص يستخدم آليات الإبداع الشعري، ويمزج في الوقت نفسه بين التحليل النفسي والقراءة المقارنة للتاريخ والتحليل الماركسي. تعمل "وليمة لأعشاب البحر" على استخدام التداعيات وأسلوب تيار الوعي مازجة حوار الشخصيات بتعليقات الراوي وتداعياته واستدعائه للحظات التي تتقاطع مع الحوار أو تمثل خلفية مساندة له أو ما يمثل نقيضاً لهذا الحوار. ويوفر حيدر حيدر، عبر هذا الاختيار الأسلوبي، حلاً روائياً لحضور الماضي الدامي لشخصيتي مهدي جواد ومهيار الباهلي في الحاضر المضطرب المعقد. إن الحاضر وأحداثه يذكران على الدوام بحرب الأهوار مما يفتح جراح الماضي على وسعها ويثير شهية الشخصيات للمقارنة بين حاضر الجزائر "المفتوح" على حرب أهلية مقبلة بين دعاة أسلمة الجزائر والسلطة الحاكمة، كما تتنبأ الرواية منذ بداية الثمانينات، وماضي العراق الدامي بين القوميين والشيوعيين. وبغية تمثيل الماضي العراقي يقدم حيدر حيدر فصولاً مدهشة عن حرب الأهوار التي انتهت الى خسارة الشيوعيين العراقيين من جماعة الصف اللينيني الذين انشقوا عن الحزب الذي تحالف مع البعثيين. ولكي يبتعد الروائي عن السرد الوثائقي البارد، الذي قد يوقعه في جملة أخطاء تاريخية ويجره الى تسطيح العواطف، لجأ الى ابداع رؤيا تختلط فيها الأصوات باصطناع الأساطير وتعظيم الصور البطولية لمقاتلي الأهوار، بالمشهد النباتي المدهش لمنطقة الأهوار، حتى يبدو للقارئ أنه يشهد بداية العالم. وهو يصنع بذلك نقيضاً للموت المقبل الذي سيسحق جميع ثوار الأهوار فلا يبقى منهم إلا أشخاص قليلون يعيش منهم مهدي جواد ومهيار الباهلي ليرويا عن المذبحة ويجترا ذكرياتها المرة وألمها الذي يشرخ العظم منهما. في تلك الأرض المنفصلة عن جسد الأرض العراقية، كما تصورها "وليمة لأعشاب البحر"، يموت الحلم، وفي الجزائر التي اغتصبها العسكر يهوي الأمل بتضميد جراح الماضي. ولكن إذا كان الفضاء النباتي، من سرخسيات وأشنات ونباتات من القصب والأعشاب العالية، يتخلل جسد الطبيعة البكر غير المأهولة في أهوار العراق، فإن البحر في المشهد الجزائري في الرواية هو العنصر الطبيعي الذي يحضر على الدوام في الوصف وفي الاستعارات التي تصور الفضاء المفتوح الممتد الشاسع الذي يغسل النفس من أحزانها وآلامها. طبيعة الأهوار توفر الرحم والملاذ، وحماية الطبيعة لأبنائها، فيما يوفر البحر بلسم الجراح وأفق الانطلاق الى الداخل المكسور. يستخدم حيدر حيدر الرؤيا كذلك، في فصل "ظهور اللوياثان"، الذي يصف انبثاق الزعيم المستبد. ويوفر الروائي باستعراضه هذا العالم النباتي الوحشي، ثم عرضه أطوار تحول اللوياثان الى كائن حيواني متوحش مختلط الدم والنوع. إن فصلي "الأهوار" و"ظهور اللوياثان" هما بالفعل من أجمل فصول الرواية التي أعادتها مقالة محمد عباس، وتظاهرات طلاب جامعة الأزهر، الى مقدم المشهد الروائي العربي الراهن لكي تُقرأ بعيون جديدة بعد سبعة عشر عاماً من صدور طبعتها الأولى!