رواية الحرب هي رواية تجعل من الموقف السياسي هماً أساسياً لها، وهو أمر يضاعف من أعباء الكاتب كفنان أو كمواطن، كمفكر أو كسياسي أو كمناضل وكأنه طرف مباشر في الصراع والحدث والقضية. وكتاب "الرواية والحرب" الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999 للناقد والروائي السوري نبيل سليمان كتاب تتجاذبه طريقتان للقراءة ما بين نهاية السبعينات ونهاية التسعينات، لأن التمهيد والفصول الأربعة الأولى كتبت منذ عشرين سنة ونشرت في الدوريات في حين أن الفصلين الأخيرين وملحق الفصلين الأول والثاني والخاتمة كتبت في نهاية التسعينات. وقد رأى نبيل سليمان أن من المخاطر التي تحف برواية الحرب: المرحلية واللهاث وراء الأحداث أي خطر الراهن والراهنية. أما عبد الكبير الخطيبي فقال في ما يخص الرواية المغربية: "ان تتبع العلاقة بين الأدب وبين التطورات السياسية يظهر لنا وكأن الرواية تلاحق واقعاً يفلت منها باستمرار. فهي عندما تحاول تملك الحاليات تتعرض لإضاعة خصائصها النوعية، والتحجُّر في الشهادة، أما إذا أرادت أن تجعل مسافة بينها وبين الحاليات فإنه ينبغي عليها أن تعرف كيف تحقق ذلك دون أن يتحول التاريخ لوحش يفترس الكاتب ولغته". غير أن غادة السمان التي كتبت "كوابيس بيروت" في لجة الحرب الأهلية اللبنانية تقول "ان ولادة هذه الرواية في لحظة الصخب والعنف لا يعني أنها غير مختمرة، كما أن اصدارها أو حتى كتابتها بعد عشرات السنين لا يعني بالضرورة أيضاً أنها اختمرت. ثم ان بعض الكتاب يتسترون بضرورة تخمير العمل الفني هرباً من اتخاذ موقف وتكون النتيجة اجهاضية". وكثيراً ما كانت الحروب الأهلية والوطنية نبعاً ثرّاً للأدب والفن كما في روائع باسترناك وشولوخوف واهرنمبورغ وهمنغواي ومالرو وكاتب ياسين ومحمد ديب. وهذا ما فعلته الصهيونية إذ استخدمت الرواية كجزء مهم في آلتها الدعائية واعتمدتها سلاحاً فعالاً في حربها ضد العرب حتى قال أحدهم: ان اسرائيل غزت الإنسان الأوروبي بالروايات التي هي بالتالي أفلام سينمائية وتلفزيونية ومسلسلات إذاعية، ومنها على سبيل المثال كتابات ليون أوريس صاحب الرواية الشهيرة الخروج التي تؤرخ للصهيونية بأسلوب تسجيلي منذ هرتزل وحتى المنعطف التراجيدي الجديد بعد حرب 1948 التي صار من موضوعاتها احتقار العربي، والفرار من جحيم النازية الى أرض الميعاد، وعصمة الصهيوني التي تعود في أصولها الأولى الى القول بشعب الله المختار. أما عن الروايات العربية التي يتناولها نبيل سليمان بعد حرب 1967 فنرى أن الرواية الأولى عن تلك الحرب هي رواية أمين العيوطي "الصمت والصدى" التي ضاهت بطموحها الفني رواية حليم بركات "عودة الطائر الى البحر". وقد تقدمت هاتان التجربتان رواية نجيب محفوظ "الحب تحت المطر" التي هي مجموعة حكايات تعكس في جملتها اختلالاً شاملاً في قيم الجيل الطالع في مصر والذي لم يكن يفتأ يردد "الحب أهم شيء في الدنيا"، وذلك لأن شباب مصر وعى تصدّع الأوضاع وعجزه عن التصدي للهزيمة، مما خلق ردود فعل شتى كان منها: اللهو والسخرية، أو الهجرة، أو العمل الفدائي. ثم تأتي رواية عبدالنبي حجازي "قارب الزمن الثقيل" لتصور أيام الهزيمة وبطل الخامس من حزيران الذي يصف نفسه قائلاً: أنا مرهق - تافه - متخاذل - سلبي - فارس من طين - بعوضة. غير أن هذا البطل المتهالك راحت صورته تتأسطر في "الأبتر" لممدوح عدوان، حيث أن ادريس العجوز رفض أن يغادر قريته المنصورة أيام حرب حزيران يونيو 1967 ليبقى وحيداً صلباً متين الجذور، مما أكسبه حالة فوق - إنسانية وجعله مثالاً بعيد المنال، أو مثالاً يطرح اشكالية الإيمان بالبطولة الفردية والشك بمقدرة الجماعة. أما عند خليل النعيمي في "الرجل الذي يأكل نفسه" فنقع على بطل من البورجوازية الصغيرة، ذي أصول ريفية - بدوية بدأ يغزو العالم ثقافياً من زرادشت الى نيتشه الى كامو لأنه يود أن يكون جزءاً من فاعلية الحاضر: هيغل، ماركس، ابن عربي، زنج البصرة، القرامطة وماركوز. هذه الملامح تشرع بالتبدل في النصف الثاني للرواية إذ يرى البطل أنه "في حزيران لم يهزم، أيٌّ منا لم يهزم، هزم التاريخ" واحترق البطل ووالده في الدار، وانتهى الجيلان. ومما يراه هاني الراهب في الكتابة "ان الرواية كبيرة، وكل شيء في حياتنا كبير" وهكذا هي "ألف ليلة وليلتان" التي تستمد تجارب الأمة العربية في نضالها الشامل. لأنه من السطحي جداً التوقف عند الخامس من حزيران واعتباره بالنسبة للأدب عام الفيل المعاصر. لقد كانت الهزيمة سارية في عروق الحياة اليومية. وما الخامس من حزيران غير تكثيف حاد لهذه الفجيعة. لأن الشعب العربي هو شعب بلا رسالة فكيف ينتصر؟ والبورجوازية الصغيرة التي كان يعوّل عليها هاني الراهب ليست سوى طبقة متفسخة مهزومة "والحكاية هي أن هؤلاء البورجوازيين الصغار المدعوين كتاباً ما فتئوا يشيدون بالطبقة العاملة، وعبر ذلك كله لا تعرف الطبقة العاملة أين وضعها ربها". هذه الطبقة تبحث في مكتبات الأمة عن دراسة لأوضاعها فتقع على كتاب عن الصراع الصيني السوفياتي والدعوة الى الحزب الثوري، لأن في المجتمع العربي هناك عمال وليس طبقة عاملة، فقراء وليس ثوريون، فالساحة العربية ملك للبورجوازية الصغيرة وللرجعية الكبيرة. فحين تنشب الحرب يتساءل العمال: أهي حرب عربية؟ أم أنه قد خطط لها في واشنطن؟ وتلحق برواية هاني الراهب روايتا سلمى الحفار الكزبري "البرتقال المرّ" وبديع حقي "أحلام الرصيف المجروح". فبطل رواية الكزبري يدرس في الولاياتالمتحدة الأميركية ويتمنى تجاوز الهزيمة بالعلم والتضامن والتخطيط. أما بطل بديع حقي ماسح الأحذية الفلسطيني، فيرى أن هناك أحذية خائفة، مترددة كطائر مذعور، وأحذية جريئة تلهج بخفق منتظم في سيرها، كانت تهفو الى أن تفضي الى تل أبيب، وتغزوها وتحرر الأرض المغتصبة. ومن حرب 5 حزيران 1967 ينتقل بنا نبيل سليمان الى حرب 1923 والى روايتي جمال الغيطاني "الرفاعي" ويوسف القعيد "الحرب في برّ مصر" ولعلهما تشكلان منعطفاً في تاريخ علاقة الرواية بالحرب، وتطوران تطويراً خلاّقاً ما استطاعت ان تحققه الخطوات المرتدة الى حرب 1970 في الأردن أم حرب 1948 في فلسطين أم حرب اليمن أم حرب الجزائر. ففي رواية الغيطاني تحتل المادة الوثائقية حيزاً كبيراً، بعكس رواية يوسف القعيد الذي أفاد من نموذج رباعية الاسكندرية وتجلياته العربية ليفجر أسئلة ما بعد تشرين الأول أكتوبر 1973 ما بين الإقطاعيين والعمدة. ثم كانت رواية "الجبل" لحنا مينه والتي حاول فيها تصوير استيلاء المقاتلين السوريين على مرصد جبل الشيخ أثناء حرب 1973. وعلى رغم حذر الكاتب الشديد مما يحف بعمله من مزالق المباشرة والخطابية، فإن الحذر لم يجد نفعاً. وهكذا فإن الحذر الذي توخاه حنا مينه في "الجبل" عاد ليتوخاه أحمد يوسف داوود في "دمشق الجميلة" حيث القدر يحرك الرواية أو قل هي المعجزة أو المفاجأة أو المصادفة، فإن الجهد المبذول في صناعة هذه الرواية يضيع هباء، وتظل مصادفات الرواية خارج دائرة قانون الضرورة لتنطوي تحت جناح القدر، وهذا ما أجهض جهد الكاتب لإضفاء طابع تراجيدي على أحداث روايته وخاتمتها. وإذا كانت رواية الحرب هي رواية الذكورة حتى الآن فها هي كوليت خوري في "دعوة الى القنيطرة" تقبل على موضوع الحرب، وغادة السمان تكتب "كوابيس بيروت" وقمر كيلاني تكتب "بستان الكرز". غير أن كوليت خوري تغرق في مجانية التعبير وتبذير الأسطر والطابع الإنشائي، فتشيد بناءها المتواضع من مجموعة من القصص المتداخلة، بحيث يبقى التفكك السمة الأهم القائمة بين أقسام الرواية، وذلك لأن كوليت خوري لم تستطع أن توفر من جو الحرب ما يتعدى الديكور الخارجي والهزيل. وتضاف الى رواية كوليت خوري رواية عبدالسلام العجيلي "أزاهير تشرين المدماة" حيث تحضر حكايات القتال ولكن على نحو مغرق في الدعاوية، فيبدو بناء الرواية مصطنعاً من الأساس لإصرار الكاتب على جمع كافة صنوف الأسلحة وكافة المعارك مما أجهض عنصر الإقناع. هذا وقد تكون رواية "أزاهير تشرين المدماة" مثالاً آخر من أمثلة اخفاق الرواية السورية في التصدي لحرب 1973، وهي بالنسبة لتاريخ العجيلي الفني الطويل والحافل تراجع مفاجىء وكبير، مثلها مثل رواية كوليت خوري، وكلاهما تنم عن الموقف البورجوازي من حرب 1973. ولما كان اصطناع الأحداث والقص هو ما أضعف بعض الروايات السورية فإن من أمثلة هذا الضعف ما نراه أيضاً في رواية عبدالرحيم الخطيب "يهطل المطر في تشرين" حيث لا يقع المرء على أثر للتخاذل أو للحظات الضعف الإنساني، وهذا ما يضفي على الشخصيات التصنع والبرودة، ويفتقر الى التأثير والإقناع، الى جانب قلقلة البناء الروائي وأدواته الفنية. فعبدالرحيم الخطيب يلخص أحياناً معارك بكاملها، باتت معروفة وثائقياً، بكلمات. وهو يغدق العبارات الإنشائية والدعائية، لكأنما يصنع فيلماً سينمائياً تجارياً رخيصاً. ومما يقوله نبيل سليمان في ملاحظاته الختامية: تلك هي علامات هذا الإنتاج الروائي المتصل بحرب 1973 في سورية: خبرة قليلة بالموضوع المعقد المعالج الذي هو موضوع الحرب، بناء فني شديد التواضع، وتقنية تقليدية بدائية في الغالب. على النقيض من ذلك رأينا النتاج الروائي المصري الغيطاني والقعيد المتعلق بحرب تشرين فكرياً وفنياً. وعلى النقيض أيضاً يبدو حل النتاج السوري الروائي والعربي المتعلق بحرب 1967 بحيث تنوعت وتقدمت التجارب الفنية التي كانت تصور المستقبل المضيء عبر العمل الفدائي خصوصاً، وقد كانت رؤيته شديدة الحضور. وأخيراً ينتقل نبيل سليمان من حربي 1967 و1973 الى الحرب اللبنانية والى رواية إسماعيل فهد إسماعيل "الشياح"، وهي رواية تقوم على الفلاش باك والميل الى السردية والتقريرية والوصف التفصيلي والسؤال الذي سيعاد طرحه في رواية غادة السمان "كوابيس بيروت": الى أين الذهاب إذا ما رحل الفلسطينيون من لبنان ما دامت دروب فلسطين مسدودة؟". وكأن إسماعيل فهد إسماعيل كما غادة السمان كلاهما ينتصر للمقاومة التي انتصرت لها رواية "بستان الكرز" لقمر كيلاني. فقمر كيلاني حيث حددت مفهومها للرواية قالت: "ليست الرواية تاريخاً ولا توثيقاً ولا تسجيلاً للواقع أي واقع. الرواية حياة تعاش أو يمكن أن تعاش. والرواية يجب أن تبنى على أرضية واسعة من نظرة كلية للحياة ومفاهيم الكون والمجتمع والعلاقات الإنسانية". على أن رواية قمر كيلاني ناءت تحت عبء المناقشات السياسية الطويلة مما عطل زخم الرواية، هذا الى جانب الاستطرادات التي تستسلم لها، مما واجهنا بعدد من القصص الثانوية على هامش العمل الأساس. ثم جاءت "كوابيس بيروت" لغادة السمان لتنم عن تطور جذري على المستوى التقني، وعن تحول يساري في المواقف والإيديولوجيا. فهذه الرواية من الأعمال المحرجة القليلة التي تضيق الفسحة ما بين العمل كإنجاز موضوعي مستقل وبين كاتبه "قد كان من الصعب جداً جرّي الى الإقرار بالعنف وسيلة لأي شيء، رغم معرفتي الأكيدة بأن التبدلات الجذرية في تاريخ الكرة الأرضية لم تتم إلا عبر العنف". هكذا صارت الراوية ترى أن العنف لا يفلسف، وإنما يمارس، لذا صارت تحب السلاح والرصاص المنهمر بلهجة انجيلية تغفر للجائعين خطاياهم. هذه الخيارات الاعتباطية لبعض قصص الحروب العربية يعود نبيل سليمان ليختمها بالحديث عن فلسطينية الرواية التي يعتبر غالي شكري من أوائل من التفت اليها، إذ خص الموضوع الفلسطيني بفصل في كتابه "كلمات من الجزيرة المهجورة" درس فيه "ستة أيام" لحليم بركات و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني. ولحق بغالي شكري حسام الخطيب الذي كان من أوائل من التفتوا الى هذا الموضوع في القصة والرواية السورية منذ هزيمة 1948 وحتى هزيمة 1967، وقد تنبه حسام الخطيب الى ظاهرة عدم تخصيص رواية سورية حتى نهاية 1967 للموضوع الفلسطيني، أو أي جانب من جوانبه السياسية أو الاجتماعية أو الإنسانية. وقد علل ذلك بالسببين الآتيين: - موقف الكتاب الماركسيين الذين كان لهم موقف خاص من القضية الفلسطينية. - موقف الكتاب المحدثين المنصرفين الى تقليد الموضوعات الغربية. وقد اختفت هاتان الظاهرتان بعد عام 1967 وبعد أن كتب بديع حقي "أحلام الرصيف المجروح" وأديب نحوي "عرس فلسطيني" وحيدر حيدر "الزمن الموحش" وهاني الراهب "شرخ في تاريخ طويل" وغادة السمان "بيروت 75" ومحمد ابراهيم العلي "المرابي" ونصر الشمالي "الأيام التالية" وخير الذهبي "طائر الأيام العجيبة". هنا ننهي قراءتنا بسؤال المؤلف: لِمَ اعتمد الاعتباطية والكيفية في اختيار رواياته؟ ولِمَ أوجز في تفاصيل بعضها ايجازاً بلغ حد الاختناق في حين أطال في البعض الآخر حتى التبسيط وبهتان الصور والألوان؟! ولِمَ توقف بالتاريخ حيث شاء ومن دون تبرير ومن ذلك ما وقف عنده من حرب لبنان وما أغفله من روايات الثمانينيات والتسعينيات وكأنه السيل الجارف الذي يود أن يسمر الزمان ويحفر في الذاكرة خوفاً من النسيان ومن التسامح الطفولي مع الذات؟! لقد جاء كتاب نبيل سليمان ليعرض لبعض ملامح الحروب العربية ولكننا لم ننتهِ منه لا الى نماذج انسانية تعتبر نماذج عليا ولا الى منهجية يمكن من خلالها أن نعيد كتابة تاريخنا المأساوي، بل نحن قرأنا عناوين متفرقة، وشخصيات مبعثرة لم يجمعها هم وجودي واحد كما لم يجمعها هم ايديولوجي واحد، وكأن كتاب "الرواية والحرب" هو كتاب سردي، لا موقف فيه لكاتبه!!