تحسرت في الخرطوم على ما انتهى اليه اعلان دمشق والقاضي بتشكيل الجبهة الوطنية المتحدة من متاهة تماثل ما كتبته عن متاهة مؤتمر اسمرا في عام 1995، فبذات الكيفية التي وأد بها المعارضون المعارضة، وأد النظام السوداني إعلان دمشق، وربما تطال المسؤولية آخرين منا، الله أعلم بهم. لكني مع ذلك متفائل غير متشائم، فديناميكية التغيير من الداخل آخذة بلب النظام، يقودها ويدفعها من داخل النظام عقلاء وأكاديميون ومثقفون تجاوزوا شكليات واشكاليات الولاء التقليدي لنمط الجبهة الاسلامية واستفاقوا على مآسي السنوات العجاف، فتأثير هؤلاء من داخل النظام يأتي بأكبر من تأثير المعارضة الداخلية والخارجية معاً، غير ان لديهم آلياتهم الخاصة بهم، فما لا يستطيعونه تصريحاً يلقون به تلميحاً. وقيمة أسمرا وقيمة السيد الصادق المهدي وقيمة العميد عبدالعزيز خالد وقيمة بعض الاشقاء العرب أنهم بدأوا بإدراك ذلك. فليس العميد عبدالعزيز خالد، قائد قوات التحالف بالرجل الذي تغريه السيدة اولبرايت لمجرد قولها بالخيار العسكري لاسقاط النظام السوداني، فيما اذا فشلت الخيارات الاخرى؟ فالعميد عبدالعزيز، وحاورته، اثر عودته من لقاء السيدة اولبرايت في كمبالا عاصمة يوغندة لا يفوته ان يدرك ان موجبات هذا الخيار الأخير تتطلب الآتي: أولاً: الدعم الاقتصادي والعسكري لجبهات المساندة المفترضة في يوغندة واريتريا نفسها، ليتأهلا كخليفة لحماية تقدم المعارضة عسكرياً في العمق السوداني. واجهضت السيدة اولبرايت خيارها العسكري بنفسها حين حددت معونتها العسكرية لهذه الأقطار بثلاثين مليون دولار فقط لا غير، وهذا مبلغ يصرفه النظام السوداني شهرياً على التعبئة العسكرية لقواته المتمركزة على حدود السودان فكيف بمن يريد اعداد جبهة اسناد بحفنة من دولارات اولبرايت؟ وكيف بمن يريد التقدم في العمق السوداني نفسه؟ ثانياً: ان السيدة أولبرايت تطلق وعودها وتهديداتها انطلاقاً من دول الكومنولث الافريقية، وهذه حليفة لبريطانيا ومنطقة نفوذ لها، ولم تشر اولبرايت قط أنها نسقت في هذا الموقف مع حكومة العمال البريطانية، بل وجدت أولبرايت معارضة واضحة من نيلسون مانديلا والمؤتمر الافريقي، وتدرك اولبرايت تأثير مانديلا في مؤتمر الكومنولث الأخير وما نتج عن مواقفه من آثار ايجابية - ولو جزئية - على مستوى العقوبات المفروضة على ليبيا. فما فعلته اولبرايت، وهي تطلق تهديداتها ضد النظام السوداني من موقع الكومنولث الافريقي انها تختبر فقط الموقف البريطاني ودول الكومنولث في افريقيا من السياسة الاميركية في افريقيا بأكثر من مواجهتها للنظام السوداني بالكيفية التي افترضها بها بعض المعارضين السودانيين والنظام السوداني نفسه. بل ان اولبرايت كانت تتحسس قضية اخرى وهي المتعلقة بمواقف المجموعة الافريقية - الفرنسية من الدور الاميركي في منطقة البحيرات العظمى، اذ تخشى نمو محور فرانكفوني مضاد وتتوجس خيفة من رواندا بالذات. اما السودان فقد كان بالون اختبار. ناقشت هذه المسألة في الخرطوم مع الخبير البريطاني في شؤون افريقيا والقرن الافريقي بالذات البروفسور وود وارد الذي استضافه مركز الدراسات الاستراتيجية في الخرطوم بتاريخ 18/12/1997، وحاول ان يصف موقف اولبرايت من السودان بأنه يتراوح بين عقدة التدخل العسكري الفاشل في الصومال حتى لا يكرر الفشل في السودان، وبين عقدة الامتناع عن التدخل في رواندا ومنطقة البحيرات الأمر الذي حجّم الدور الاميركي، وأقر بروفسور وود بأن اميركا لا تملك أي تصور الآن لما ينبغي عليها ان تفعله. فعدت بالبروفسور الى ما طرحته من تعقيدات حول الموقف الاميركي. كان ذلك النقاش الذي اعقب محاضرة البروفسور وود عاصفاً وحضره جمع من اساتذة وطلاب جامعة الخرطوم، وكذلك وزير الدولة في الخارجية مصطفى عثمان اسماعيل، وأمين المؤتمر الوطني غازي صلاح الدين، وجمع من قيادات الدولة، وسيطرت حالات التساؤل حول المغزى من زيارة اولبرايت ونوعية البلدان التي زارتها وتوقيتها، ولم يهمل أكثرهم ملاحظاتي حول منطقة الكومنولث وان الزيارة بالون اختبار لأغراض اخرى، اذ لا يجب ان تثير "تشنج" النظام السوداني. ملاحظاتي نفسها نقلتها في اسمرا، التي لم تزرها اولبرايت، لآخرين. ولا أدري ما يمكن ان يكون قد قيم به مبارك الفاضل المهدي بعد لقائه هو الآخر لاولبرايت في كمبالا مغزى هذه الزيارة للسيد الصادق المهدي، غير ان أحاديث الصادق المهدي الأخيرة في القاهرة بعد عودته من اسمرا وتأكيده على ضرورات المصالحة مع النظام بضوابط معينة، توضح انه لم يتفاعل كثيراً مع وعود اولبرايت. واستطيع القول بأن موقف العميد عبدالعزيز خالد في ما يختص بتقييم زيارة اولبرايت لا يختلف كثيراً عن موقف الصادق المهدي، لكن مع اختلاف الرجلين حول المصالحة مع النظام. يماثل الصادق المهدي موقف اولبرايت من زوايا متعددة فهو يصف مناشطه بأنها سياسية وديبلوماسية وعسكرية، فهو آخذ بكل الخيارات، غير ان محاورة المهدي - وجها لوجه، لكن من دون مواجهة - تكشف دائماً عن ما لا يريد ان يكشفه. فمشكلة الصادق كرجل يستهويه التنظير والتفكير والكتابة، أنه يفكر بصوت عالٍ حين يناقش، فيتسرب تفكيره الى لسانه، ولهذا يبدو متناقضاً عند كثيرين حين ينطلق ظاهره لسانه وباطنه تفكيره في آن. ما بين المهدي وعبدالعزيز خالد، وعلى رغم اختلاف تركيبة الرجلين - نقاط محورية مشتركة، فكلاهما يعطي لجهود الانفراج السياسي الداخلي قيمة معينة، وكلاهما يرى ان ما مارساه ويمارسانه من ضغوط خارجية على النظام اسهم بشكل رئيسي في توليد الانفراج السياسي، فالأمر لا يعود لمبادرات الداخل فقط، وكلاهما يرى ان ما يتحرك ضمنه المبادرون داخل السودان الآن هو أقل بكثير مما يفترض ان يكونوا حصلوا عليه. وما يجمع بين الرجلين ايضاً وهذا هو المهم، أولاً: ألا تستخدم مبادرات الداخل من قبل النظام ضد المعارضة في الخارج، وتلميع صورته على حساب سلبياته. ثانياً: ان يخطو المبادرون في الداخل باتجاه الوفاق مع اخوانهم في الخارج اسوة بما حققوه مع النظام في الداخل وان يبحثوا في آلية التواصل. ان بدايات هذا التصور تقود حتماً - بعد التأني في تفعيلها - الى تبادل العلاقة بين مبادري الداخل ومعارضي الخارج، غير ان تبادل العلاقة سيمتد للبحث في قضايا جوهرية. فالمبادرون في الداخل يرفضون أي خيار عسكري يأخذ به معارضو الخارج، فإلى أي مدى يكون الانفراج السياسي الحقيقي في الداخل، وإلغاء النظام للمرسوم الثاني المقيد لحرية التعبير والتنظيم والحركة والاعتراف بمشروعية "الجبهة الوطنية المتحدة" ضمانة كافية لمعارضي الخارج للانسحاب بأسلحتهم ومعسكراتهم من الأشرطة الحدودية على مدى القوس الحدودي الجغرافي من قرورة الى فنرا؟ هذا أمر - أعتقد - ان بالامكان مناقشته، غير ان ان المشكلة الأكثر تعقيداً تكمن في الشروط التي يفرضها معارضو الخارج على "الجبهة الوطنية المتحدة"، في حال قيامها، فمن بين هذه الشروط "إقرار التعددية السياسية المطلقة" و"قيام حكومة قومية انتقالية" و"اجراء انتخابات برلمانية"، غير اني اعتبر كل ذلك من قبيل السقف الأعلى للشروط المسبقة التي لا يمليها إلا منتصر على مهزوم، في حين ان المعارضة في الخارج ليست منتصرة، والنظام ليس مهزوماً. يضاف الى كل ذلك حدوث متغير مهم في علاقات السودان الاقليمية بأهم جارين، وهما مصر واثيوبيا، فما بين النظام السوداني واثيوبيا تحققت الهدنة بانتظار ضبط الحدود. وما بين النظام السوداني ومصر، شرع البلدان باتخاذ آليات جديدة لتكييف العلاقة بينهما وتوجيهها نحو الوفاق. علماً بأن للموقفين المصري والاثيوبي تأثيرهما على دول "ايغاد"، اثيوبيا، وعلى الدول العربية، مصرياً. ولا يتبقى من جملة المعضلات التي يواجهها النظام السوداني اقليمياً سوى الموقفين الاريتري واليوغندي، وعلاقاتهما بالمعارضة السودانية في الخارج. فاريتريا لم تعد ترى ثمة وجود لقطيعة دائمة، وقد قدفت بالكرة كلها في ملعب النظام السوداني. وتقديراتي ان النظام السوداني جاد جداً وبأكثر مما يتصور البعض لإنهاء مصادر التوتر بينه وبين اريتريا، وان الغد لناظره قريب. أما النظام اليوغندي فلم يعد يلمس تحركاً مضاداً له من أراضي جنوب السودان، وينظر بحذر شديد لاتفاق السلام الذي تم بين الفصائل الجنوبية وحكومة السودان في نيسان ابريل 1997، آخذاً في تقديره - بطريقة تحليله الخاصة للأمور - ان ذلك الاتفاق أنهى الحرب فعلاً في الجنوب، لكن بين الشمال والجنوب، لتندلع حرب جنوبية - جنوبية تواجه فيها قوات قرنق قوات مشار وهذا صومال جديد، وتوتسي هوتسي جديدة. فهل يتفق مشار الذي يطرح الانفصال ضمن خيارات الاستفتاء بعد أربع سنوات، مع قرنق الذي يطرح الكونفيديرالية بعد ان يئس من شعار "السودان الجديد الموحد والعلماني"، ليؤسسا سوياً "دولة أزانيا" في الجنوب؟ فيرتاح الشمال وترتاح يوغنده. لكن من سيتحمل عبء هذه الدويلة الافريقية "المغلقة" اقتصادياً وأمنياً؟ وما هو مصير الملايين من نازحيها في شمال السودان، ولاجئيها في يوغنده وكينيا والكونغو وافريقيا الوسطى؟ إن الهم يوغندي، كما هو سوداني، وكما هو عالمي ايضاً، ولن يجد الرئيس اليوغندي موسيفيني فيما اذا "تجنوبت" الحرب في الجنوب، ونشطت الصراعات القبلية الدامية، أو كوّن الجنوب دولته المستقلة، سوى اعادة فتح ملفات يوغندة مع الخرطوم. فإذا كانت الأوضاع الاقليمية تتجه لمصلحة النظام السوداني فهل يتخذ النظام من ذلك "تكريساً لأحاديثه أم يواصل مسيرة الانفراج؟ واذا كانت عين هذه الأوضاع الاقليمية تتجه لغير صالح المعارضة الخارجية فهل تستجيب لمنطق الجبهة الوطنية المتحدة في الداخل؟ والإجابة في الحالتين انه مهما كانت ظروف الانفراج الاقليمي لمصلحة النظام فإنه لا يستطيع التراجع عن الانفراج الداخلي لأن الشأن هنا "سوداني بحت" يتعلق بمأزق النظام الداخلي مهما تحقق له من انفراج اقليمي وعربي ودولي، فالالتفاف الشعبي حول مشروع "الجبهة الوطنية المتحدة" وبالمواصفات السياسية والتنظيمية التي ذكرناها هو مخرج الجميع، ولعل اسمرا ستشهد إعلاناً على غرار إعلان دمشق يكون أكثر واقعية وبديلاً عن قرارات التجمع.