كما كان متوقعاً صنعت الفنانة بينا باوش الحدث في الدورة الرابعة والخمسين لمهرجان افينيون العالمي الى جانب "برتاباس" الرجل الذي يراقص الخيول على أنغام موسيقى الشعوب. وببرمجة باوش وبرتاباس يكون المهرجان المسرحي الفرنسي العالمي نظّم أحد أجمل أنواع التكريم لأسطورتين فنيتين حيتين. وباوش التي قدمت على خشبة مسرح قصر البابوات الشهير عرضها الراقص الجديد "غاسل زجاجات النوافذ" ليست فنانة عادية في كل المعايير وعلى الصعيدين الفني والشخصي. وسبق لها أن سحرت الجمهور المسرحي في أفينيون برائعتين هما "مقهى مولر" و"صقر الربيع" عام 1977. واللافت أن عرضها المذكور الجديد الذي أعدته في مسرح "ترانستياتر ويبرال" قد أعيد مدة ثلاثة أسابيع في هونغ كونغ قبل أن يحط في عاصمة المسرح الفرنسي والأوروبي والعالمي افينيون. وعلى غرار ما عودتنا عليه الفنانة الألمانية الكبيرة جسد عرضها الجديد القائم أساساً على الحركة والرقص كلغتين غير فنيتين فحسب - إطلالة متميزة على العالم المعاصر وحالاته التراجيكوميدية، في حلة كاشفة عن روح شاعرية تنطق بتجاوب مثير مع مجريات واقع مر ممزوج بالوجع والآلام الفسيفسائية. وهكذا تكون باوش قد عمقت مسارها الفني التعبيري الذي انطلقت في ترسيخه منذ مطلع الثمانينات من خلال أسفارها المتعددة عبر مدن العالم المختلفة. في كل مرحلة تسجل باوش مع أعضاء فرقتها يوميات أسفارها "حسب قلبها" كما تقول. وفي كل مرة تخرج بحصيلة تكريمية تعد وسيلة وخزاناً ووعاء لتصور مسرحي وكوريغرافي تحديداً. وخلافاً لما يتصور "أسرى الفهم السطحي السريع"... لا ترسم بينا باوش المدن المزارة ولا تصنعها، بل تحاول الكشف عن ديكوراتها الداخلية وتشخيص إغراءات خفية وغير مباشرة بحثاً عن أصالة الأنظار الموجهة نحو أطراف صغيرة من العالم. "وهي الأطراف القادرة - في اعتقادها - على تمثيل عالمنا". في كل مدينة تقتلع باوش تناقضات الوجود المعاصر وتصطاد أنواع الغدر وأحلام الحب ومختلف أصناف التلذذ بالهلوسة وأشكال القبح والقسوة والخداع والحيل والحب. وباختصار تلتقط ما يضمن ملح الحياة. هذا الملح يجسد في أكثر الأحيان إحساس الفنانة الكبيرة بأوجاع الحاضر في علاقته بالجراح العميقة التي أتت مع الرجال والنساء في عالم أضحى فيه الشرخ طويلاً وعريضاً بين الآمال المستحيلة للغالبية وحاجتهم للحب المفقود والرعاية المطلوبة والواجبة بين السخافة والشفقة وبين الطموح والحزن وأخيراً بين الوحدة والاجتماع. ولعل إبرازها للشرخ الأخير يعد أهم الميزات التي تطبع روح أعمالها المسرحية الراقصة. وكما يقول الشاعر روبارتو خواروز: "فإن بين الوحدة وفرقة ترانستياتر ويبرلتال حركة تعبيرية ليست من صنع أحد لكنها تنتهي بمشاركة جميع أفرادها". ولعل المتمعن في مسار أعمالها لا يجد صعوبة في اكتشاف مختلف مقاربات باوش للوحدة مجسدة سعيها ومطالبتها المبطنة في أشكال فنية الى حياة جماعية يضمن فيها الإحساس بالآخر: "عن طريق قلوب تخفق بالأساس" على حد تعبيرها. وانطلاقاً من العام 1979 ربطت الفنانة الألمانية الكبيرة باوش علاقة حميمية مع الجمهور الباريسي ومع جمهور مسرح المدينة "تحديداً" الذي ما زال يستضيفها بانتظام في سياق خصوصية أو فرادة العروض الفنية التي يقدمها. ففي العام المذكور احتضن عرضيها "اللحية الزرقاء" و"الذنوب السبعة الرئيسية". واستطاعت باوش خلال عشرين سنة أن تنتزع إعجاب الفرنسيين. وفي كل مرة ظهرت وفية لحساسيتها الفنية والمسرحية والإنسانية ومجددة نَفَسَها الإبداعي الذي لا يعرف الحدود تماماً كما فعلت في العروض التي استضافها مهرجان افينيون العالمي. وها هي اليوم تكرس مرة أخرى فرادتها وتحدث الإجماع عند نقاد المسرح في أول ليلة مسرحية في المهرجان، وكالعادة أقنعت الجمهور وقدمت عملها الجديد "غاسل زجاجات النوافذ" متجولة عبر مدن عالمية عدة في ثوب كله شفافية فنية ورقيّ جمالي وإحساس روحي بمتناقضات أو مفارقات أو حدود عالم يبحث عن السعادة من دون جدوى. ولأن الذاكرة - والطفولة تحديداً - تعد المصدر الإبداعي الذي لا ينضب... عادت باوش الى طفولتها وأخرجت ما بقي مترسباً في وعيها ولا وعيها مستنطقة أسرار تربية بريئة تعرضت للخرق المباح الأمر الذي شوهها وفوت عليها فرصة الظهور العادي. إنها الطفولة الضائعة في ظروف تاريخية قاهرة باوش من مواليد 1945 في ألمانيا، كما أنها الطفولة المرجعية في كل الأحوال ما دامت تكشف ما ضاع من طفولة كل واحد منا بشكل أو بآخر. وسبق أن عبرت باوش عن هذا الضياع في عملها "دونزون" مسرحيتها الثالثة والعشرين. في مسرحية "فيكتور" 1996 حطت باوش روحها في روما وباليرمو وصقلية، وبعيداً عن كل تعامل فلكلوري وغرائبي غرقت في خبايا الأجواء الغامضة والخفية والمتسترة وفجرت لغة الجسد معبرة دائماً وأبداً عن الذاكرة الضائعة والحنين الى الصفاء والنقاء، ومقدمة ترسانة من التوابل الفنية إيقاعات وحركات راقصة من صلب ثقافة وحضارة الجنون. وبعد مدريد ولشبونة وفيينا وهونغ كونغ وبيونس آيرس وروما توقفت باوش أخيراً وليس آخراً في بودابست العاصمة المجرية على ضفاف الدانوب النهر الجميل الأزرق الذي طاله التلوث. ترى متى تصل الى الجزائر القادرة على منحها قدرة التعبير على "مُحال واقع" نتصوره مجسداً لأفظع أنواع الذاكرة الجريحة والطفولة الضائعة!!