النظرة التي قدمها المخرج البريطاني ساي انفيلد عام 1969 عن المركيز دي ساد في فيلمه "دي ساد" اتكلت على المعطيات السائدة: "المركيز كان غولاً في التنظير الجنسي ولديه قدرة ملحوظة على اثارة الحواس مع الامتناع عنها في الوقت نفسه. ربما انطلاقاً من هذه الدلالة استمد علماء النفس تشخيصهم لدى ساد 1793 - 1814 وساعدوا في تعميم اسمه على منوال التعذيب النفسي والجسدي على نحو ما نشاهده في الأفلام، من مثل ذلك السجّان التركي الذي يعذب الأميركي "البريء" في "اكسبرس منتصف الليل" الان باركر - 1978، أو رتشارد ويدمارك في دور الشرير الذي يرمي بالسيدة المقعدة من أعلى السلم بكرسيها وهو يضحك في "قبلة الموت" هنري هاثاواي- 1947، او مثل النازي لورنس أوليفييه وهو يقلع أسنان دستين هوفمان بلا مخدر في "رجل الماراثون" جون شليسنغر- 1975. "دي ساد" كان انتاجاً ألمانياً - أميركياً عن رجل لا يؤمن بالأخلاقيات والمثل العليا، منحل، خسيس، قام به كاير دوليا. لكن الفيلم يمنح شخصيته تلك شيئاً من التبرير عندما يتولى إلقاء التبعية على تأثير عمه الشرير فيه، حين كان صغيراً اذ كان كثير الضرب والتعنيف، سيئ الخلق والعشرة. اهتمام الفيلم الأساسي، على رغم ما سبق، لم يكمن في تحليل دي ساد نفسياً واستيعاب حياته بيوغرافياً - ولو أن هناك شيئاً من هذا - بل في استغلال اسمه وما اصطبغ عليه من دلالات لتقديم فيلم خلاعي الى حد يرضي غير الذواقة. وهو يبقى احدى المحاولات القليلة جداً التي عرفتها السينما لنقل حياة المركيز الشهير. فجأة يلد العام 2000 فيلمين عنه: "ساد" لبنوا جاكو و"ريشات" لفيليب كوفمان. كلاهما يدعو الى الإعجاب في نواحٍ شتى، لكنهما يلتويان تحت ضربين مختلفين من المعالجة. "ساد" و "ساد": الشخص والشخصية "ساد" كان أحد الأفلام التي تقدمت من جيل جاكوب، المدير السابق لمهرجان "كان"، بهدف انتخابه كاشتراك فرنسي في المسابقة. عندما مر جاكوب على الفرصة، توجه الفيلم الى مهرجان تورنتو، من طريق مونتريال وفانيسيا، حيث أمه جمهور كبير يدفعه الفضول الى التعرف الى الترجمة "الفيلمية" لتلك الشخصية المعقدة. والفيلمان اللذان يشتركان في القاء الضوء على شخصية المركيز دي ساد في مرحلة واحدة قبيل الثورة الفرنسية وخلالها يختلفان في تشخيص الشخصية الى حد ملحوظ. يلتقيان في تصوير السنوات الأخيرة من حياته في المصح - السجن الذي نقل اليه بسبب كتاباته، لكنهما يتباعدان في ما حدث له هناك، وكيف واجه منتقديه ومواقفه ولوّن تصرفاته. اي نسخة تُصدق؟ لا يهم لأن كليهما ينفي أن يكون سيرة ذاتية واقعية او حقيقية. كلاهما يعمل بحسب خطة واحدة: الفرنسية أقل تعقيداً من الأخرى وإن ليست أقل تحدياً للمفاهيم السائدة عنه. "ساد" الفرنسي مقتبس عن رواية لسيرج براملي، كتب السيناريو له جاك فيشي وبرنار مينوريه. ومشكلة الفيلم تبدأ من رسم شخصية بطله، ولا أعلم مدى تطابق الرسم السينمائي عن الرواية التي لم أقرأها أو اختلافها. لكن الفيلم ينم عن محاولة لتقديم صورة رجل لا يخلو من الصفات الطيبة مع قليل من أمارات التناقض مع السائد الإجتماعي. انه شخصية متوازنة التصرفات وطيبة الخصال ولديها طرق تجذب اليها الجنس الآخر على رغم صراحته ووضوح مواقفه. هذه الصورة هي مانع أساسي في إثارة الجدال لدى المشاهدين، فإذا كان ساد على كل تلك الصفات المناقضة كثيراً لما اشتهر عنه، لمَ اتهم بالإنحراف الأخلاقي الى هذا الحد إذاً؟ الجواب ليس في متناول الفيلم على رغم ان دانيل أوتاي يقوم هنا بدور دي ساد على أحسن وجه ضمن معطيات الصورة المرسومة له. في "ريشات"، الفيلم الأميركي الذي نقله الكاتب دوغ رايت عن مسرحيته، يبدو دي ساد شخصية أكثر تضارباً في المواقف واكثر تطرفاً من تلك التي في "ساد" - جاكو. دي ساد هنا عبارة عن شرائح سميكة من المواقف المتجانسة حيناً، والمتناقضة حيناً آخر، في جنونها وحدتها. وعلى رغم هذا، ليست هناك نية لدى هذا الفيلم في إدانة دي ساد، ولو على حساب إدانة كتاباته التي وصفت حينها بالعهر والفساد، والتي لا تنفرد اليوم بهذين الوصفين، لكنها لا تزال مميزة بأسلوب صاحبها الأدبي. الممثل الاسترالي جفري راش يجسد صورة مختلفة في الملامح كما في الأداء لدي ساد عن تلك التي يقدمها أوتاي. ما يبحث عنه "ريشات" في هذا الشأن ينطلق من الرغبة في الدفاع عن الحريات وإدانة منع سبل التعبير، وبالتالي فالنظرة التي يلقيها الفيلم على موضوعه تنطلق من فهم عصري آني لا خلاف كثيراً عليه، غير معترفة بأي ظرف أحاط بذلك العصر، او قابلة لأي وجهة نظر لأي شخصية خالفت دي ساد في مواقفه وكتاباته. "ريشات"، لهذا السبب، ضمن أسباب أخرى، أكثر أهمية في تناوله الشخصية من "ساد". فهو يلبي حاجة المشاهد الى معايشة شخصية متناقضة وحادة من دون داع لتصويرها طيبة او ضحية او يمنحها مبررات خارج حقها في التعبير عن نفسها. وهو يدور في المصح الذي وضع فيه ويصور كيف استطاع أن يواصل كتاباته الإثارية على رغم سلسلة من الضغوط والموانع التي ووجه بها وحوصر. في "ساد" تنتقل الأحداث في مواقع مختلفة وتضعه في صدارة الفيلم، لكن لدى "ريشات" الإدراك لأهمية تعميم الطروحات، فلا ينكمش الفيلم في حدود تقديم جزء من حياة دي ساد وكتاباته. في هذا الحيز، فإن الموقف المضاد للرقابة على الفكر هو احد تلك الطروحات. الأخرى تتعامل وشخصية الراهب الشاب كولمبيير الأميركي واكين فينكس الذي يدير المصح والذي عليه أن يتعامل مع شرور الزمن الثورة الفرنسية، قطع الرؤوس وشرور الإنسان هذه ممثلة بشخصية قاسية يؤديها البريطاني مايكل كين بطلاقة او حتى براءته شخصية مادلين التي تؤديها كيت وينزلت. العنف الوارد القصة مفعمة بالمواقف، وفيليب كوفمان الذي التقيته الى عشاء في لندن، يقول إنه ذهل حين قرأ سيناريو رايت وأدرك أنه المشروع الذي كان يبحث عنه ليعود الى السينما به لاحقاً ينفي أنه كان منقطعاً اذ كان يتابع أعمالاً ومشاريع سينمائية بصفات أخرى. ومقارنة القصة الواردة هنا بتلك التي ينقلها على نحو بيوغرافي أساساً الفيلم الفرنسي تفيد تميز "ريشات": من اللقطة الأولى فيه، هناك نية لإظهار مفهوم ما للسادية. امرأة تقاد الى المقصلة. هي خائفة مرتعدة والسفاح البدين ينظر اليها بلذة. يفحص المقصلة. لقطات لآلتها الحادة التي في رأس المقصلة. لقطات أخرى للفتاة وقد حشر رأسها في المكان المناسب، ثم لقطة من علٍ للآلة وهي تهوي على العنق. من النافذة يتطلع دي ساد، ويشيح الراهب كولمبيير بوجهه ممتعضاً. لكنه مشهد يقول شيئين: أولاً أن العنف وليد ظروفه السياسية وثانياً أن دي ساد كان شاهداً شبه بريء اذ لم يشترك في تلك الأعمال المريعة التي واكبت الثورة الفرنسية. انه يكتب ومادلين تهرب كتاباته الى فارس غامض يقترب من السياج المحيط بالمصح ولا يدخله. يأخذ النص وينطلق به حيث ينتهي الى النشر والتداول. ونسخة منه تنتهي الى يدي الدكتور روير كولار كين الذي تعينه الحكومة لكي يضع حداً لكتابات دي ساد. مشهد التعريف بكولار دال في حد ذاته. فقد ابتكر كولار طريقة للتعذيب: كرسي يجلس عليه الشخص المراد تعذيبه ويربط به ثم يقلب به لتغطيس رأسه بالماء. مرة أخرى يحدد الفيلم مصدر العنف في الذات، فإذا بدي ساد بريءٌ منه. المواجهة الأولى بين كولار ودي ساد كانت أكبر مما يشتهي اي منهما، لكنها لم تكن مواجهة يمكن تجنبها بين رجل آلى على نفسه ردع دي ساد، وآخر آلى على نفسه الاستمرار في الكتابة مهما كلف الأمر، بل يبدأ بكتابة مسرحية تقدم على منصة المصح بحضور كولار وزوجته سيمون الأصغر سناً بكثير منه اميليا وورنر. كولار لم يكن يتوقع أن يجرؤ دي ساد على تقديم مسرحية عاهرة بوجوده، لكن دي ساد قصد ذلك وكولار الذي صرف زوجته سريعاً، وبقي وحده، بوجه ممتعض، تابع فصولاً جنسية الدلالات ممثلة من مجانين المصح. لاحقاً، تصل نسخة من رواية دي ساد الى سيمون نفسها. وفي مشهد طريف الوقع، نرى زوجها الذي يحارب دي ساد مستلقياً الى جانبها وهي تقرأ كتاباً بدا عليه أدبياً، ولكن داخل الكتاب، كتاب دي ساد البعيد عن صنوف الأدب اخلاقياً. تقود المواجهة الى حرب يشنها الطرف القادر على الحركة والمتحرر في الزمان على دي ساد الممنوع من الخروج من غرفته، ولو أن ذلك لا يمنعه من حرية التفكير ولا حتى من حرية الكتابة. عندما تسحب ريشه وأوراقه يستخدم أغطيته ولحافاته وملابسه. وعندما تسحب تلك يكتب على الحائط بدمه. التصوير السينمائي للمطالبة بحرية التفكير لم يكن مشبعاً في السينما على هذا النحو من قبل. تراجيديا لكن هذه المطالبة تصطدم، عاجلاً أم آجلاً، بالموقف الأخلاقي الذي في ذوات معظمنا. هنا مشكلة الفيلم الأكيدة، فهو في نهاية المطاف يدافع عن شخص منحرف ضد مجتمع يقاوم الإنحراف، ويفعل ذلك بسلاح اليوم، اي متدخلاً لمصلحة الطرف الأول بمفهوم الزمن العصري. فوق ذلك، يضيف الى هذا الصراع غير المحايد طبقة أخرى: دي ساد هنا كما في النسخة الفرنسية هرطقي كافر لا يؤمن بوجود الله تعالى، وهو يواجه في موقفه هذا الحكم ممثلاً بكولار والدين ممثلاً بالراهب كولمبيير . كولمبيير واقع في حب مادلين العذراء وينزلت المعجبة بدي ساد وتقوم على خدمته كموظفة في ذلك المصح. لكنه يتحكم بعواطفه الى أن تنهار أمامه كل المثاليات والمبادئ التي دعا اليها وواجه بها دي ساد محاولاً إقناعه بنبذ كتاباته. وانهيارها يتم على مراحل، لكنه ينفجر في سلسلة أحداث تراجيدية في نصف الساعة الأخير. انهزامه أمام نداء الجسد وتبعاً للظروف التي تدفعه الى ذلك، مجسد في الفيلم على أساس أنه المصير الصحيح. كولمبيير يفيق وقد أصبح رجلاً مدافعاً عن الحرية الشخصية وفي نهاية الفيلم سجيناً عوض دي ساد الذي يفرج عنه لكنه يموت بعد سنوات قليلة في 3/12/1814 بسبب عجز رئتيه عن التنفس. في المقابل، ليست هناك إدانة لمبدأ الإلحاد حتى في نطاق فلسفي، اذ يتبنى الفيلم مبدأ الحرية الفكرية في مقابل الحَجْر على الفكر، وفي هذا الهدف يصبح كل شيء آخر أمراً نسبياً. هذا ما لن يرتاح اليه كثر من المشاهدين الذين ربما كانوا سيرضون ولو بقليل من اعتراف دي ساد بذنوبه. وهو ما لا يبرر، على اي حال، الوجهة "الكرتونية" التي انحدر اليها الفيلم في مشاهده الأخيرة، في ما يتعلق بتصوير شخصية كولار على نحو أحادي مدان لمجرد الإدانة. الأصعب طبعاً أن يصور على نحو متوازن، حيث تتفاعل مواقف متناقضة، ولو انتصرت تلك التي يعمد الفيلم الى تصويرها وتقديمها. النهاية نفسها تصوير لبيروقراطية التفكير الغربي: كولمبيير في السجن يهرب كتاباته كما كان يفعل دي ساد وكولار يطبع وينشر كتب دي ساد لكي يجني من ورائها الثروة الكبيرة التي تصبح هي كل عالمه. هذا بعدما خسر زوجته التي تفتحت ثقافتها الجنسية، فهربت مع العامل الذي جاء منزل كولار لتصميم بعض ديكوراته وتنفيذها. في خضم ساعتين مشغولتين بتفاصيل بصرية ثرية وهي ميزة نجدها في نسخة جاكو ايضاً انما على نسيج من الأحداث متعدد الأماكن نطالع فلسفة دي ساد اذا صحت الكلمة المتمثلة في رفضه كبت حريته في التعبير، معتبراً أن التقييد معاد للطبيعة البشرية، وهو كوجودي لا يؤمن بالله اعتبر أن الإنسان هو الطبيعة وأن الغريزة الجنسية هي صفة، عليها أن تعامل من دون مواربة. لعل دي ساد كان يؤمن بذلك فعلاً، او ربما كان سعيداً بالضجة التي أثيرت من حوله، لكن الفيلم، في مطلق الأحوال، لا يرى ضرورة لأن يتلو اياً من كتاباته ولو من باب التدليل على ناصية الأدب فيها. نقطة حين ذكرتها للمخرج أجاب أنه لم يرها مهمة. "ريشات" يقدم المركيز دي ساد في أشهُر حياته الأخيرة ما بعد مقتل زوجته الذي نشهده وإياه في مطلع الفيلم. واذ يفعل ذلك، يحصر الأحداث في ذلك المصح، ما يمنحه صورة هندسية مختلفة عن تلك التي في "ساد" - جاكو، من حيث التصوير يذهب ضد الطبيعة في الإضاءة وضد الزخرفة ايضاً. مع مدير تصويره روجيه ستولفرز اختار ديكورات وألواناً تميل الى الرمادي لإظهار وحشة المكان والأخضر قبل ذلك لإظهار ارتباط الفترة التاريخية بفن الرسم الذي نشاهد لوحات له منتشرة في غرفة دي ساد الخاصة. وكل ذلك التفنن عليه أن يتلاءم ورغبة الفيلم في مزج ما هو واقعي وحقيقي، بما هو خيالي... من دون أن تقوى الصورة على الموضوع، وتحتل الخلفية المقدمة. وفي هذا واحد من أفضل انجازات الفيلم الفنية.