ثمة أمران يلفتان الانتباه في العدد الثامن من المجلة الفصلية الانكليزية "بانيبال" Banipal التي تعنى بترجمة اعمال من الادب العربي الحديث الى الانكليزية تصدرها من لندن مارغريت اوبانك، الاول وجود محور في عنوان "عشرة شعراء عراقيين"، والثاني وجود نماذج ابداعية لأكثر من شاعرة او كاتبة عربية. ولا شك ان اندراج الامرين يكسبان العدد ميزة معينة، فالمرأة وشعراء العراق، خصوصاً الهائمين منهم في صقاع الدنيا خارج بلدهم، هم من بين الاكثر انجراحاً ومكابدة لعوالم الالم في دنيا العرب. وبأي حال، عطايا العدد تتمثل ايضاً في محور عن الروائي والشاعر المغربي طاهر بن جلون، الى مقالة قصيرة لمحمود درويش بعنوان "ترجمة الشعر" كتبها الشاعر اساساً كمقدمة لأنطولوجيا جديدة لشعره مترجمة الى الفرنسية، فضلاً عن وجود ثلاث قصائد للرسامة والشاعرة إيتل عدنان. بداية نبدأ من المطرح الشائك والاكثر تحدياً وإلحاحاً هذه الايام، ترجمة الشعر. يقول محمود درويش في مقدمة انطولوجيا شعره المترجم الى الفرنسية، "ليس المترجم صاحب مركب ينقل على متنه المعنى، بل ناسج لشبكة العلاقات الجديدة لتلك الكلمات، وهو ليس رسام الجزء الساطع للمعنى، بل المراقب لظلال ذاك المعنى وما قد توحي به". ويتابع درويش، "إذاً يجد المترجم نفسه في موقع الشاعر الموازي، وقد تحرر من اللغة الأم، وهو ذاك القادر على جعل اللغة المضيفة تكابد مصيراً مشابهاً لذاك الذي اخضع صاحب القصيدة لغته له". ويضيف درويش "ضمن هذا الحيز من التحرر من النص الاصلي يقترف المترجم الخيانة الجميلة والحتمية التي تحمي لغة الشاعر من ثقل قوميتها او جنسيتها، في نفس الوقت التي تحميها من الانمحاء داخل لغة المترجم. كما ويجد المترجم بل الشعر المترجم نفسه مضطراً الى الحفاظ على المزايا العالمية الانتماء للعمل مثلما يحافظ على جذور ذلك العمل الخاصة، المُعبّر عنها في تركيب لغوي آخر ونظام خاص بها من الدلالات". وهذه الثنائية، حسبما يرى درويش، هي التي تولد السحر الخاص للشعر من خلال الترجمة، و"الشعر المترجم ينمي طاقة كل لغة على تجديد اساليبها وتراكيبها لدى اصغائها الى تجربة لغة اخرى". وتغدو القصيدة المترجمة، وفي المآل الاخير، "غير مملوكة من مؤلفها فقط، بل تخص المترجم ايضاً، الذي يغدو شاعرها ايضاً كما هو حال ناظمها". اما محور طاهر بن جلون فيقدم له صديق الكاتب الاديب الفرنسي الشهير جان ماري لكليزيو الذي يرى الى ابن جلون كشاعر، روائى، وقاص وفيلسوف، بن جلون، بالنسبة لكليزيو هو الرجل الاكثر اهتماماً بالزمن، "الزمن الذي يمر، الزمن الذي يحثنا ويشغلنا". وابن جلون كشاعر جزء من ذلك المسار "الذي يوحد الشعر الاندلسي بالعالم العربي المعاصر". ويعتبر لكليزيو ان صديقه بن جلون "واحد من الكتّاب النادرين في اللغة الفرنسية القادرين على ان يعبّروا عن انفسهم بنفس القوة والمصداقية في الشعر كما في الرواية". وتتوالى في العدد الكلمات عن بن جلون، فمن ستيفان ويدنر الى المعطي قبّال، وجيمس كيركاب وصولاً الى مارغريت فارنيس، تتسلط الاضواء على نتاجات ذاك الفرنكوفوني الذي لا يعتبر الفرنكوفونية مثابة "الكلمة المختارة في شكل جيد". الفرنسيون، كما يرى بن جلون في مقابلة نقلتها "بانيبال" عن "المغازين ليترير"، يقصدون بالفرنكوفوني السود والعرب والسويسريين والكنديين"، وليس الفرنسيين ابداً. ويُسأل بن جلون اذا كانت كتاباته قدمت شيئاً للأدب الفرنسي ليجيب قائلاً، "لا استطيع الاجابة من دون الالتفات الى كل اولئك العرب الذين يكتبون بالفرنسية، فأنا دارٍ بقيمة ما قدمته بنفسي للأدب الفرنسي، لكني اعرف ان كاتب ياسين، الجزائري، ومحمد خير الدين، المغربي، وجورج شحادة، اللبناني، قد اثروا ايضاً على تلك اللغة بطريقة بديعة جداً، اولاً، لأنهم شعراء كبار. وكونهم شعراء كبار لهم الحق لجعل اللغة الفرنسية مخشوشنة". وينتهي محور بن جلون بمراجعة مي غصوب ل"هارودا" بعد مضي ثلاثين سنة على ولادة العمل فترى غصوب في هارودا الأم والحبيبة ذات الخطاب المتعدد. اما رواية "الفساد" فتعرض لها منى زكي سابرة للفقر المهين لانسانية الفرد، ومسلطة الضوء على تآكل القيم. وبخصوص كتابات النساء فإنها وان لم تنوجد في المجلة في محور خاص، الا انها حاضرة بين اوراق العدد هنا وهناك، تستوقفنا مثلاً ثلاث قصائد للرسامة والشاعرة إيتل عدنان تحمل عنوان "الأرق 1" "الأرق 2" و"الأرق 3". تحمل القصائد، المكتوبة اساساً بالانكليزية، في طياتها الطابع المتقطع المتداعي للأفكار إبان حال الأرق، نقتطف من القصيدة الاولى: "الاشجار تنمو على/ المزاعم. سيقان متباعدة/ على الشرشف/ تحت السيطرة/ ملتبس. حب خاص ب الافكار". وإلى جانب اشعار ايتل عدنان ثمة 12 قصيدة لهدى عبلان مترجمة من ديوانها "محاولة لتذكّر ما حدث"، يتميّز بعضها بالالماح الغني مثل قصيدة "قصاصات": "عندما غادر/ لم يتبق لي منه/ سوى ذاتي". كما وهناك مقطع مترجم من رواية "دنيازاد" لمي تلمساني يتميز بلغة نابضة رشيقة. اما مشاركة الشاعرة اللبنانية صباح زوين فتمثلت في قصيدتين مترجمتين تحكيان غربة واستلاب الانسان في المكان والزمان". ويبرز في محور عشرة شعراء عراقيين اسماء مثل سركون بولص وعبدالكريم الجنابي، وصادق الصايغ، وهاشم شفيق، وصلاح نيازي، ومنعم الفقير، فضلاً عن آمال جبوري ودليلة رياض وعدنان محسن وفضل سلطاني. تحكي القصائد العراقية الوجع الانساني ضمن عوالم أقرب احياناً الى الغرائبية المدعومة بجرعة جمالية واضحة. وتحضر الأنا مجروحة ساخرة ومتنقلة في جنبات الحاضر لتقول احياناً ذاك الحاضر باشارات ورموز الماضي. نقتطف من احدى قصائد بولص الست التي قام بترجمتها بنفسه مقطعاً من قصيدة "جثة": "مثلوا بالجثة/ حتى انبلج النهار تعبان/ وصاح الديك غاضباً/ غرزوا كلاّباتهم في لحم الجثة/ جلدوها بأسلاك كهربائية/ علقوها رأساً على عقب بمروحة السقف لساعات وساعات". عدد "بانيبال" الثامن غني، وان كان بالامكان تنويعه اكثر مع ورود مساهمات من بلدان عربية اخرى. لكن تبقى اهمية هذه المجلة كنافذة للابداع العربي تطل من خلالها كتاباتنا على رحاب العالم بلغة باتت هي المسيطرة في زمن العولمة.