على رغم اتهام العالم العربي والإسلامي، والسني منه على وجه التحديد، من قبل الغرب بالمسؤولية عن تشضي ظاهرة «الجهاد» الديني وإعادة بعث الروح في الجماعات على أساس ديني ترى أوروبا أنها لم تعرف كيف تخلصت منها في القرون الوسطى، إلا ان ظاهرة الجهاد السني الذي أنتج نموذج القاعدة وأخواتها، وتشظى على شكل مجموعات وخلايا نائمة وفاعلة في عدد من البلدان العربية والغربية، أضحى نموذجاً متجاوزاً، إن جاز لنا التعبير. لم تعد الدعوة إلى إعلاء راية الإسلام، وأهم واجباته ومرتكزاته وفق منظور الجماعات الجهادية المقاتلة، قاصرة على أجنحة داخل التيارات السلفية المتشددة التي تخلت عن البراغماتية والحذر الذي اتبعته على مدار عقود، إذ تبلور نموذج مغاير لتلك الظاهرة يرتبط بالتنظيمات الشيعية في كل من لبنان، والعراق، وسورية، واليمن وأخيراً في أفغانستان، ما يشير إلى أن المنطقة متجهة نحو مرحلة جديدة من عسكرة الاصطفافات الطائفية. تمثل ظاهرة «المجاهدين الشيعة» امتداداً للانقسامات المذهبية والصراعات الأهلية المرتبطة بتوازنات القوى الإقليمية، لا سيما في لبنانوالعراق واليمن، حيث ارتبطت نشأة «حزب الله» وتفرعاتها الإقليمية بالتأثير الفكري والعقائدي للثورة الإيرانية عام 1979، وتعود بدايات النشاط العسكري للحزب إلى غزو إسرائيل للبنان عام 1982، ونسف مقر القوات الأميركية والفرنسية في عام 1983، ما جعل منه بطلاً قومياً وإسلامياً في الوقت عينه، استمر بعدها في مداعبة المشاعر بشعار تحرير فلسطين ودعم تيارات المقاومة الفلسطينية، على الرغم من كون ما كانت تتحصل عليه هذه التيارات من دعم مادي لا يكاد يقارن بما كان يحصل عليه الحزب لمجرد انتمائه المذهبي وتابعيته إلى إيران، بيد ان أحداث 7 أيار (مايو) 2008 التي حاصر خلالها الحزب وحلفاؤه بيروت كما فعلت «إسرائيل»، كشفت أن سلاح الحزب لا يقتصر دوره على المقاومة، وإنما قد يستخدم لأغراضٍ سياسية داخلية. في العراق، تعود نشأة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية و «فيلق بدر» التابع له إلى عام 1983، إلا أن نشاط التنظيمات الجهادية في العراق ارتبط بالحرب على العراق عام 2003 وما تبعها من موجات متصاعدة من العنف الطائفي بلغت ذروتها بين عامي 2006 و2008، كما تشكلت تنظيمات «جيش المهدي» التابع للتيار الصدري، و «عصائب أهل الحق» المنشقة عنه، وحظيت بدعم من «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، وهو الدعم ذاته الذي يتلقاه الحوثيون في اليمن منذ بداية الصراع في صعدة عام 2004. لكن اللحظة التاريخية الحاسمة التي نزعت القناع عن كل هذا التجييش والنمط العسكري الذي اتبعته المجموعات الشيعية الموالية لإيران، كانت لحظة احتدام الصراع في سورية وتفجر الحراك الاحتجاجي المناوئ لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، فتعاظمت محاولات المحور الشيعي الذي تتصدره إيران، لإعادة إنتاج نموذج «المجاهدين الشيعة» العابرين للحدود، بهدف مواجهة تحديات التحولات الإقليمية، أو الإفادة من الفرص المصاحبة لثورات الربيع العربي. ففي منتصف شباط (فبراير) من العام الجاري ، أعلن واثق البطاط، أمين حزب الله العراقي عن تشكيل «جيش المختار»، وتبنيه هجمات صاروخية على منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة وتفجيرات بسيارات مفخخة في بغداد، وإطلاقه تهديدات لقيادات السنة والأكراد في العراق، واستهدافه مصالح دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية. وفي لبنان، لم يكتف حزب الله اللبناني بالإعلان عن قصف مواقع الجيش الحر داخل سورية، ودعم نظام بشار الأسد، وتلويح أمينه العام حسن نصر الله في خطابه في 27 شباط، بإعادة تكرار سيناريو «7 أيار 2008» الذي تضمن محاصرة الحزب للعاصمة، واستعراض السلاح في مواجهة الخصوم السياسيين، لا سيما عقب تهديدات الشيخ السلفي أحمد الأسير وما جرى من تصفية له والتلويح بالعصا الغليظة في وجه كل من يفكر في انتقاد سياسات الحزب الداخلية أو الخارجية. لقد تحولت سورية الى»نقطة جذب» للمجاهدين الشيعة من العراقولبنانوأفغانستان واليمن وإيران، وتزامن ذلك مع تقارير نشرت عن إشراف الحرس الثوري الإيراني على تكوين كتائب مقاتلة يقدر عددها بنحو 50 ألف مقاتل من الميليشيات الشيعية العراقية لدعم نظام الأسد، فاكتسبت المواجهات المسلحة في سورية بُعداً عقائدياً مذهبياً، انعكس في فتوى أحد القيادات الدينية في إيران باعتبار سوريا المحافظة الإيرانية رقم «35»، والتأكيد أنها أهم من إقليم «الأحواز» ذي الأغلبية العربية، لأن فقدانها يعني سقوط طهران. سياسياً، أدت ظاهرة «المجاهدين الشيعة» إلى «عسكرة الانقسامات الطائفية» في سورية ولبنانوالعراق واليمن، مع تكوين ميليشيات خارجة عن سيطرة الدولة، ما أسفر عن احتدام الصراعات الداخلية، وتزايد احتمالات توظيف القوة العسكرية لحسم الصراعات السياسية، وتعزيز النزعات الانفصالية، ما يهدد دول المنطقة برمتها في ظل التوظيف المذهبي المقيت للصراعات السياسية وادعاء حماية الأقليات المذهبية في البلدان العربية. تفكك الدولة الوطنية ومقوماتها المجتمعية واحد من أبرز انعكاسات تورط المجموعات الشيعية أو المجاهدين الشيعة بالصراعات الإقليمية، فحتى اللاجئون الأفغان من أقلية الهزارة انخرطوا في الأزمة السورية مقابل مئات الدولارات شهرياً، فيما يرهق الدعم المادي لأسر القتلى في لبنان كاهل حزب الله مع دفعه مبالغ تتراوح من 50-100 ألف دولار للفرد، وتمظهر على شكل تقنين للدعم المالي للمؤسسات الإعلامية والإنسانية التابعة له في المجتمع اللبناني. اللافت في الموقف الدولي الرافض لعسكرة أي مجموعات على أساس مذهبي أو ديني، إصراره على وسم الجماعات السنية المحسوبة على القاعدة وبناتها وأخواتها بالإرهاب، ورفض وضع أي مجموعة من المجموعات الشيعية المتناسلة في ذات القائمة، ما قد يولد موجة من الاحتقان في العالم العربي والإسلامي قد تفسر على أنه دعم غير مباشر لمجموعات متشددة على حساب أخرى، وينذر بانفجار أمني وشيك في دول ترى الإرهاب بعين واحدة، ولا تنظر إلى الفعل في حد ذاته بصرف النظر عن هوية مرتكبه.