"أحياء لا يرون الشمس" ربما تكون هذه العبارة المأخوذة من عنوان قصة لأحد الكتّاب الحلبيين الأكثر ملاءمة لوضع أولئك الذين يعملون في أسواق حلب القديمة، والتي تسمى سوق "المدينة". انهم ينهضون الى عملهم مع الصباح ويعودون منه بعد صلاة العشاء، حين تبدأ الحوانيت بإغلاق أبوابها في انتظار يوم جديد. ... تعتبر مدينة حلب من أعرق وأقدم المدن في العالم التي لا تزال قائمة الى الآن. وقد ساعد على بقائها بناؤها من الحجارة القاسية القادرة على مقاومة عوامل الطبيعة والزمن. وهي تحتفظ بطابعها الشرقي الأصيل منذ القرن الثالث عشر وحتى الآن، وتعود بداياتها الى الألف الثالثة قبل الميلاد. الأسواق الأثرية، هي أطول أسواق مسقوفة في العالم، يقدّر طولها ب7 كم، وهي أفضل أنموذج للأسواق المشابهة والمتميزة بالبنية العمرانية نفسها، والتي تتفرّد في كونها مركزاً للمدن القديمة في العالم الإسلامي. وأسواق المدينة بالنسبة للحلبيين، تشكل المركز القديم في مدينة حلب ضمن الأسوار. وتضم في أسواقها وخاناتها الفعاليات الاقتصادية الأساسية. وهي تمتد بين باب انطاكية غرباً ومدخل سوق الزرب شرقاً بطول 750 متراً، وفي عرض 350 متراً، بين الشمال والجنوب، وهي على شكل شوارع وأسواق متوازية ومتعامدة، ضمّت 39 سوقاً، كل منها يبيع نوعاً معيناً من البضائع، كأن تغطي جميع احتياجات السكان والقادمين اليها من الحواضر المجاورة والغرباء والأجانب والسيّاح. وقامت بينها المساجد والمدارس والقساطل والقيساريات، في شكل فسيفسائي بديع، وهي تعتبر الى اليوم المركز الموجه لاقتصاد حلب عامة. وتميزت هذه الأسواق خلال العهد العثماني بكونها مركزاً لإقامة الجاليات الأجنبية. وقد قامت أقدم جاليات التجار الأجانب في حلب في تلك الخانات، ومن أمثال تجار البندقية والانكليز والفرنسيين والهولنديين، يشرفون على أعمالهم التجارية وتصريف بضائعهم، وهي في طريقها من الهند الى أوروبا. وتتألف الجالية التجارية الأجنبية من قنصل وعشرة تجار وقس ومستشار وطبيب وضابط يسمّى "جاويش" يسير أمام القنصل، وهو يحمل عصا ذات قبضة من الفضة، وتعمل تحت امرته مجموعة من الجنود الانكشارية. وكان القنصل هو الآخر يعمل في التجارة. ومما يدل على عظمة التجارة التي كان الأوروبيون يمارسونها في حلب، استئجار عدد كبير من الجمال لجلب البضائع من الاسكندرونة واليها، مما يعادل 90 ألفاً من الدوكات عملة ذهبية أوروبية في كل سنة. ومن المعروف ان حلب كانت منفتحة للتجار الأجانب. وكانت القوافل تأتيها بألفي جمل مع كل قافلة، مرتين أو ثلاثاً في السنة، منذ القرن الثاني عشر والثالث عشر، أما دمشق فكانت تعتبر مدينة مقدسة شلم شريف، يجتمع فيها الحجاج المتوجهون لزيارة الأماكن المقدسة في الحجاز، ويحظّر على أي أوروبي أن يدخلها بلباسه الخاص. وظل هذا المنع ساري المفعول حتى العام 1822، في عهد السلطان محمود الثاني، بينما كانت حلب وأسواقها مفتوحة للتجار كافة. وكان البنادقة أول من أقام في حلب. ففي عام 1605 كان يقطن في حلب، ما لا يقل عن 14 عائلة من البندقية، اضافة الى عائلة القنصل. وكانوا يستخدمون خمس أو ست سفن سنوياً. ويتراوح حجم تجارتهم بين مليون ومليون ونصف من الذهب ولهم خان خاص بهم، يسمى خان البنادقة. وكان خان الجمرك الذي بني في العام 1574، يضم الشركات التجارية الفرنسية والهولندية والانكليزية. ان الأسواق أو "البازارات" كما كانت تسمى، هي عبارة عن أبنية حجرية مرتفعة على شكل رواق طويل، معظمها ضيق جداً، وتكون مقوسة من الأعلى، أو مسقوفة بالخشب. وتصطف الحوانيت على الجانبين، وهي اما أن تكون مبنية داخل الجدار أو ناتئة عنه. وتغطى بمظلة خشبية فوق مصطبة يبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثة على طول الرواق. وتغلق ليلاً، بأبواب حديدية قابلة للثني، وتقفل بأقفال ومفاتيح خشبية. وكانت معظم الأزقة مزودة بأبواب يقوم عليها حراس، يستجوبون كل شخص لا يحمل فانوساً. وفي معظم البازارات القديمة تكون الحوانيت صغيرة جداً حتى يتعذّر على صاحب الخانوت أن يعرض بضاعته، أو أن يجلس هو وأحد ضيوفه في شكل مريح في الداخل. ويتعين على الشاوي أن يقف خارج الحانوت، وعندما تزدحم المحال المتقابلة، يتعذر على المار أن يشق طريقه عبر الزحام. ولا بد أن يصطدم بأحد الحمير لأنها لا تزال الوسيلة الوحيدة لنقل البضائع بين الأسواق، أو منها الى الخارج. وجميع الأسواق مظلم، ويتم اتقاء الشمس قدر الامكان للمحافظة على الرطوبة، لذلك تغسل بالماء مرتين أو ثلاثاً في اليوم خلال الصيف. وعندما يكون الطقس بارداً، يلتف أصحاب المحلات بالفراء ويستمدون الدفء من وعاء يشعل فيه الفحم. وفي مطلع هذا القرن وصف الغزّي أسواق حلب بقوله: "ومن محاسنها أيضاً كثرة أسواقها واتقان عمارتها وحسن ترتيبها، فترى سوقها الكبير المشتمل على زهاء خمسة عشر ألف دكان، قد سقف معظمه بالأقبية الحجرية، التي لكل مسافة بضعة أذرع منها نافذة للنور والهواء، فهو بارد في الصيف دافىء في الشتاء، ليس للشمس والمطر والعواصف اليه من سبيل، قد اشتمل هذا السوق العظيم على ثنايا ومنعطفات كل ثنية ومنعطف منها تباع فيه بضاعة معلومة، فترى لباعة الجوخ مثلاً سوقاً، ولباعة الحرير سوقاً، ولباعة مال القبان سوقاً، ولباعة مال الشام سوقاً، ولباعة مال اسطنبول سوقاً، وهكذا بقية البضائع المأكولة كاللحم والخضر والبقول، لكل نوع منها سوق أو خان يخصّه" ج1، ص83. ... ان أسواق "المدينة" حفظت في شكل خاص مميزات القرن السابع عشر الميلادي وتغطي مساحتها 16 هكتاراً، وجميع مبانيها مخصصة للفعاليات التجارية والصناعات والخدمات. وقد نظم مخططها في شكل شبكة من الطرق المتعامدة، وحدّد محورها الرئيس المستقيم ب"الشارع القديم" الذي يبدأ من باب انطاكية وينتهي في القلعة. ويتفرع هذا المحور الى أسواق متوازية مغطاة بالحجر، تشكل مجموعة متماسكة نشأت قرب المحور وتطورت وبني في وسطها خانات وقيسريات متعددة. وتنطلق مداخل أسواق المدينة من أبواب الأسوار: باب الجنائن، باب الفرج، باب النصر، باب قنسرين وتتوجه كلها الى الجامع الكبير حيث تتجمع الفعاليات التجارية الفنية في جنوبه منذ العصور الإسلامية الأولى. أما في العصور الزنكية والأيوبية، فقد تم التوسع في الموقع ذاته حيث تركزت الصناعات التقليدية في أحياء السكن القريبة من المدينة مثل: سوق الحدادين، سوق الزجاجين، سوق النحاسين، سويقة قسطل الحجارين. وفي العهد المملوكي قامت مبان أخرى، وظهر توسع ملحوظ في منطقة الفعاليات التجارية، عبر بناء الخانات الكبيرة. وألحقت بهذه الخانات أسواق بنيت في جوارها، أو أمام مداخلها، وكانت مغطاة بالأخشاب المحمولة على أقواس ترتكز على دعامات من حجر، ثم بنيت بعض أبنية الخدمات العامة كالحمامات والمساجد وغيرها. وتوسعت الأسواق في العهد العثماني توسعاً كبيراً، ووصلت الى أقصى اتساعها الذي ما زالت تحافظ عليه الى الآن. مع بداية القرن التاسع عشر أصبحت أسواق المدينة جميعها مختصة بتجارة الأقمشة والبضائع المستوردة من أوروبا ذات العلاقة بالتجارة الدولية كالتوابل والصرافة وتجارة الحبال وصناعة الألبسة واستيراد البضائع الترفيهية، وبيع السجاد والبسط. وكانت بضائع الزينة المستوردة، تباع في سوق اسطنبول، الذي يسمى أيضاً ب"سوق النسوان"، لأن زبائنه من النسوة فقط. أما الطرابيش الحمراء فكانت تستورد من النمسا وتباع في سوق الطرابيشية. وهناك سوقان كبيران يحملان اسم نوع الأحذية التقليدية التي تباع فيها، كما تباع فيهما جميع المواد الأولية التي هي من انتاج محلي: الجلود والخيطان والمواد اللاصقة سيريس. وفي سوق الصاغة يتم صنع وبيع وشراء الذهب والفضة والمجوهرات والأحجار الثمينة. فالمرأة الحلبية تهتم كثيراً بشراء الذهب، حتى أن المهر، والحلي جزء منه لدى المرأة المتزوجة ويعتبر ادخاراً وضمانة لها في حال الطلاق. ويقدم الخطيب الى خطيبته الحلي قبل الزواج كهدية تسمّى عندهم ب"المليك". أما في سوق العطارين، فتجد المرأة حاجاتها من أنواع العطور المستوردة والمركبة، والصابون المطيب، والنباتات الطيبة الرائحة التي تؤخذ في الطب الشعبي وأنواع التوابل. وهكذا الأسواق كل يوم، تضجّ بالحياة والحركة اليومية، طيلة ساعات النهار، الى ما بعد العشاء، يزورها الناس للشراء أو للفرجة، وباعتها يستقبلون الزبائن بوجوه باشة، يبيعونهم كل شيء يحتاجونه، من قطعة الصابون الى تجهيز العروس. وفي غمرة حركة البيع والشراء ينسون أنفسهم، لأنهم أحياء لا يرون الشمس.