عُرفت مدينة حلب بالشهباء بعد الفتح الاسلامي. ويبدو ان المشهد البراق باللون الأبيض المشوب بالرمادي للمدينة، من مسافة بعيدة، يسوغ استخدام هذه الصفة. وقد لاحظ العلامة ريسك أن كلمة الشهباء تدل على لون أشهب مبرقش بالأبيض، لا بد ان يكون مستمداً من لون التربة والأبنية، وهذا ما ذكره مؤرخ حلب ابن الشحنة، اذ يقول: "إن البيوت ومعظم الأبنية العامة مبنية من حجر السلس". ويفصِّل ابن الشحنة في "مخطوطة التاريخ" بدقة أحياء حلب وجوامعها وقصورها وخاناتها وما الى ذلك. وتتميز المدينة القديمة ببنائها القوي المتماسك وبيوتها الكبيرة والنظيفة وأزقتها الأنيقة المرصوفة جيداً، وتوجد على جانبيها أرصفة واسعة للمشاة ترتفع نصف قدم عن أرض الزقاق. ويخصص القسم الأوسط للأشخاص الذين يمتطون الحيوانات بالاضافة الى الجمال وحيوانات الحمل الأخرى. وقد لاحظ بيري perry أن بعض الأزقة عريضة ونظيفة ومرصوفة جيداً بالحجر اللوحي، وتظهر أمامك فجأة في بعض الأزقة أقواس عدة متعاقبة فتمنحك مشهداً خلاباً. وفي الفترة العثمانية اشتهرت اسطنبول بجوامعها ودمشق بحماماتها وبغداد بمقاهيها وحلب بخاناتها. و"الخان" كلمة عربية مولدة من الفارسية وسمي هذا "النزل" بالخان لأن بانيه هو الخان أي: الملك، ويكون منزلاً للمسافرين ومحطة للقوافل، يستريح فيه التجار، يودعون بضائعهم في مستودعاته وتأوي اليه دوابهم. وفي خان المدينة يعرضون امتعتهم وللخان دور كبير لمدينة تجارية كحلب. لذا اشتهرت حلب بخاناتها عندما كانت قلب الامبراطورية العثمانية ومحطة مهمة على طريق الحريري واستراحة للحجيج في الطريق الى مكةالمكرمة ومركز جيوش السلطنة لاخضاع الثورات وملاحقة المتمردين. وهي سوق داخلية تأتيها البضائع عبر ميناء الاكسندرونة وتوزع الى أواسط الأناضول وحمص ودمشق ومنها الى بغداد وفارس. وتعود القوافل محملة ببضائع الشرق لتنقل الى الغرب. وتأتي الخانات في المرتبة الثانية في الأهمية بالنسبة للأبنية العامة في مدينة حلب قبل ان تدخل القصور الحديثة. وهي عبارة عن أبنية فسيحة مشيدة من الحجر الصلب وتكون عادة مربعة الشكل، تتألف من طابق واحد فوق الطابق الأرضي، ويقسم الطابق الأرضي من كلا الجانبين الى حجرات مقوسة من الأعلى أقبية ولا تضيئها سوى نافذة من الامام عند الباب، وتوجد في الطابق العلوي شرفة داخلية مفتوحة أو رواق مسقوف بدلاً من النوافذ وهناك توجد سلسلة من الغرف الخلفية في الداخل ويوجد درج يؤدي الى الطابق الأول على جانبي البوابة. أما السطح فشأنه شأن معظم المباني الأخرى، مستوٍ وذو مصاطب. ويستعمل الطابق الأرضي كمستودع وغرف للحسابات وغرف للاقامة. وفي بعض الاحيان يستخدم كزرائب. أما الطابق الأول، فهو مخصص بصورة رئيسية لاستقبال المسافرين، حيث يجدون مكاناً للاقامة بأسعار معتدلة جداً. والاضاءة في هذه الحجرات أسوأ مما هي عليه في الغرف الموجودة في الطابق الأرضي، حيث يندر وجود نوافذ من الجهة الخلفية ولا يوفر الخان سوى الحصر، أما بقية الأثاث فيوفرها المسافر بنفسه، ويترك نماذج من بضاعته في غرفته يعرضها للمشترين. والخانات في المدينة ليست مخصصة لاقامة الغرباء فقط، بل يقوم التجار الحلبيون باستئجار الكثير منها لعرض بضائعهم فيها، وعقد الصفقات التجارية. وتوجد لديهم غرفة صغيرة بسيطة الأثاث ملاصقة للمستودع، يمكثون فيها من الصباح، حتى صلاة العصر، ثم يعودون الى بيوتهم. ويوجد لكل خان باب واحد كبير، يغلق عند المغيب، ثغروا فيه "خوخة" تسع شخصاً للدخول اليه والخروج منه بعد اقفال الباب الكبير. وتوجد حجرة للآغا أو المشرف الذي يقوم بتعيينه صاحب الخان لتحصيل الرسوم على البضائع التي تدخل الخان وتنظيم الأمور الأخرى التي تتعلق به ويعمل تحت امرته أوضه باشي حارس الخان أو حمال يقيم في الخان في شكل دائم ويكون محل ثقة، وعادةً ما يكون الأوضه باشي أرمنياً. وتوجد بركة ماء في وسط الساحة لتوفير المياه للناس والدواب، وفي جميع الأحوال توجد محلات للطهي وقهوة بالقرب من الخان لاستقبال التجار. وهم يرغبون فيه لأنه حصين ببنائه وببابه ذي المتاريس والأقفال. زد عليه انه أمين بعيد عن خطر اللصوص والنهب والغارات والى جانبه، غالباً، مراحيض عامة، أما واجهة الخانات ففيها تزاويق يعلوها الزنك. واعتبر "راسل" أن ما يقرب من عشرين من خاناتها تعد على درجة من الأهمية وتنتشر في المدينة خانات أقل أهمية من تلك الخانات الهامة، وأحصى الغزي أربعين منها، بينما أحصى راغب الطباخ ثمانية وستين في داخل مدينة حلب. وقال: "جاك سواري دي تروسلون" في الجزء الأول ص1018 في قاموسه التجاري العام:" لا تضاهي حلب مدينة اخرى في تجارتها. وخاناتها لا تقل عن الأربعين خاناً، تغص دوماً بالهنود والفرس والترك والافرنج وغيرهم". وتوجد في الخان حجرات مخصصة لكبار المسؤولين وهي رحبة وأنيقة، الا انها ليست مؤثثة بشكل فخم. ونظراً لأن الحجرات المخصصة لصغار المسؤولين في السراي صغيرة الحجم فهي مملوة بالأثاث وعند وضع "فرشة" وأغطية اضافية يمكن تحويل الإيوان في الليل الى سرير مريح. وبالنسبة للوصفاء والخدم، فإن اقامتهم تكون في معظم الأحيان سيئة، اذ يضطر الكثير منهم للنوم في غرفة واحدة، تكون مكتظة بالأمتعة، مما يسهل انتشار الأوساخ. لعبت الخانات دوراً تجارياً كبيراً في العلاقة بين الشرق والغرب وذلك لأن السفر يتطلب محطات آمنة وطرقاً سالكة، مما استوجب بناء بعض الأمكنة لراحة المسافرين والتجار وبخاصة على الطرق الرومانية المعبدة. وقد حفظت البادية لنا المئات منها. وقد نشطت التجارة بعد الفتح الاسلامي بسبب الغاء الرسوم الجمركية. وقد كان لهذا الأثر الكبير في توحيد العالم الاسلامي وتحرير تجارته وضمان أمن المسافرين وتجارتهم. وكانت العقوبة شديدة على قطاع الطرق الذين يتعرضون للمسافرين والتجار، حتى ان الولاة كانوا يتعقبونهم وينكلون بهم. ولم يكن النزلاء من التجار فقط. بل كان ينزل فيه الشعراء والأدباء وطالبو العلم وعابرو السبيل، وقد جاء ابن البيطار عالم النبات من الأندلس الى بغداد وصنف ثلاثة آلاف نوع من النباتات. وخلال رحلته هذه كان ينزل في الخانات، لأن الإيواء فيها مجاني، إنها مؤسسات اجتماعية حكومية والضيافة يقدمها السلطان ويدفع النازل بحسب وضعه الاجتماعي. ويراعى في خانات الطرق للقوافل انها تبتعد عن بعضها مسيرة مرحلة 8 ساعات وتكون حصينة وحراستها شديدة. ومن ذلك ما نجده في أبنية "خان شيخون" قرب معرة النعمان و"خان طومان" أول محطة للمسافرين الى حلب و"خان العسل" في الطريق الى جبل سمعان. ... سكن معظم الأوروبيين في الخانات في الفترة العثمانية، وكانوا يقيمون في الخانات الرئيسية، حيث تكون البيوت فسيحة مريحة. ويحتل البيت الواحد نصف المساحة وفي بعض الأحيان على مساحة المربع. وفي الرواق يوجد حائط طويل فيه نوافذ كبيرة على الطراز الأوروبي تطل على الساحة. والأرضية مرصوفة في شكل جميل بالحجارة والمرمر والحجرات نظيفة وواسعة ومؤثثة بشكل أنيق، كما توجد المستودعات في الطابق الأرضي. ومن اجملها كان "خان القصابية" المخصص لصناعة القصب وقد نسج بناؤه من خرافة تقول: "انه كان لأحد ملوك حلب ابنة رائعة الجمال، أحبها ملك من ملوك الجان وكانت ترفضه باستمرار. وفي احدى المرات بنى لها هذا المكان ثم أرعدت السماء وبرق الرعد فأمسك ملك الجان البرق بيده وقصقصه وزين المكان به، فكان على شكل تحفة نادرة". وفي خان الوزير الذي يمتاز بضخامته وزخرفة واجهته البديعة من الداخل والخارج كان الأوروبيون ينامون في الطبقة العليا وقد جعلوا من الرواق الطويل الموصل الى غرف نومهم ميداناً لرياضتهم نهاراً وجعلوا السطح ميداناً لرياضتهم مساء. ومنذ شهر حزيران حتى سقوط أولى أمطار الخريف ينام معظمهم على السطح فوق أسرة جعلوها ستائر أو كللاً ناموسية خلافاً لأبناء المدينة الذين ينامون فوق فرش مكشوفة. يعتبر الأجانب في أراضي السلطنة العثمانية من المستأمنين، أي ان ممتلكاتهم وتجارتهم وأعراضهم في حماية السلطان ولهم حق التجارة وحق التقاضي ويدفعون ضريبة العشر كبقية التجار المسلمين. وفي فترة متأخرة حصلت بعض الجاليات على تخفيض وصلت نسبته الى 3 بالمئة وحق الاشراف على الأماكن المقدسة وحماية الطوائف وغيرها من المكاسب. وقد أقامت في حلب جاليات من الانكليز والفرنسيين والهولنديين والتوسكانيين والبنادقة وبعض رعايا الامبراطورية الآخرين. ومما يدل على عظمة التجارة التي كان يمارسها الأوروبيون في حلب، استئجار عدد كبير من الجمال لجلب البضائع من الاسكندرونة واليها، فقد كانت لا تقل عن 90 الفاً من الدوكات الذهبية عملة أوروبية. وكانت الجالية التجارية البريطانية تتألف من قنصل وعشرة تجار وقس ومستشار وطبيب وضابط، وهو يسمى "جاويش" يسير امام القنصل ويحمل عصاً ذات قبضة من الفضة. وقدر مبلغ التجارة السنوية للانكليز ب 30 ألفاً من الدوكات. وكانت تستخدم سفينتان أو ثلاث سنوياً في التجارة. ويوجد مترجمان اثنان من اليونانيين المحليين يحصلان على رواتبهما من شركة الهندالشرقية. وتدفع رواتب اثنين من الانكشارية يعملان في دار القنصلية ويسيران أمام القنصل عندما يخرج من القنصلية وهما يحملان عصاً طويلة يضربان بها الأرض وهما يسيران، لكي يفسح الناس الطريق له في الشوارع. أما الجالية الفرنسية فكان عددها أكثر من الجالية الانكليزية وكانت تستخدم حوالى عشرين سفينة في التجارة. ووصل حجم تجارتها الى 800 الف دوكة. وكان القنصل الهولندي يمارس التجارة بنفسه. و"خان الجمرك" كان يعرف بالخان الكبير وقد بني في 1574 ويضم الشركات التجارية "الفرنسية والهولندية والانكليزية"، ويشتمل على 50 مخزناً سفلياً و77 علوياً وعلى بابه قاعة فسيحة فيها 4 مخازن وفيه اسطبل، فوقه قيسارية تشتمل على 23 مخزناً. وكان مخصصاً لإقامة القنصل الانكليزي وفرع شركة الهندالشرقية. وتميز بزخرفة مدخله الرائعة بنقوشها من خارج الخان وبضفائر أعمدة الشبابيك المطلة على داخل الخان. وكان البنادقة من أوائل الذين أقاموا في حلب. ففي 1695 كان يقطن في حلب ما لا يقل عن 14 عائلة من البندقية، اضافة الى عائلة القنصل. ويستخدمون 5 أو6 سفن سنوياً. ويتفاوت حجم تجارتهم بين مليون ومليون ونصف من الذهب ترسل من البندقية في خمسة أو ستة آلاف قطعة من قماش الصوف والكمية نفسها تقريباً من الحرير والبروكار وكمية كبيرة من القرمز وما تبقى من أدوات المائدة الفضية أو الذهبية وكان العائد يتمثل في الحرير والنيلة والبهارات والفستق الحلبي وما الى هنالك. وفي ما بعد صار لهم خان خاص بهم، يعرف بخان البنادقة ويعتبر أقدم بيت لا يزال مسكوناً الى اليوم منذ عام 1539، ويضم متحفاً غنياً باللقى الأثرية التي جمعتها عائلة "بوخه". كانت أهمية الخانات عظيمة في حياة مدينة حلب الاقتصادية وفي طريق المواصلات القادمة اليها والذاهبة منها، مما جعل الملوك والولاة يحفلون بها ويهتمون لأمرها ويشيدون أبنيتها. وإذا كان للبضاعة سوق وخان، فالسوق لبيع المفرق والخان لبيع الجملة. وتخصصت بعض الخانات ببضائع معينة، مثل "خان الحبال" و"خان الفرائيين" و"خان الصابون" و"خان العلبية" و"خان القصابية"، و"خان النحاسيين" ولكل منها سوق خاص ببضائعها يجاورها. ومن الخانات ذات الأهمية الكبيرة "خان خاير بك" الذي بناه والي حلب خاير بك... عام 1515. وهو الذي خان ملكه قانصوه الغوري، عندما انحاز الى معسكر السلطان العثماني سليم الأول في معركة مرج دابق، وسمي "خائن بك" وهو عبارة عن ثلاثة خانات متصلة بعضها ببعض وبابه قديم تحيط به زخرفة هندسية بديعة ورنوك جميلة. وهو أقدم خان خارج أسوار المدينة القديمة وجدد أيام السلطان قانصوه الغوري وكتب على مدخله: "جدد هذا الخان المبارك المقر الأشرف العالي المولوي السيفي خائر بك الأشرفي كافل المملكة الحلبية المحروسة أعز الله أنصاره". كذلك يعتبر "خان القاضي" من أقدم خانات حلب، أنشأه قاضي حلب كمال الدين المعري سنة 1450. وهناك كتابة من أربعة أسطر على جدار الخان تنص على إبطال دفع ضريبة على مبيعات نصارى بلدة قارا من القماش والتمور في مدينة حلب أيام القاضي محب الدين بن الشحنة. لعبت الخانات دوراً مهماً في نقل التجارة من الشرق الى الغرب وبالعكس، عندما كانت حلب تتمتع بحصة ضخمة جداً من التجارة مع الهند وفارس والغرب. في الوقت الذي كانت شركة المشرق تصدر كميات كبيرة من المصنوعات الصوفية والسلع الانكليزية الأخرى التي بلغت قيمتها في بعض السنوات 500 ألف جنيه، كانت تستورد في المقابل الحرير والتوابل وغيرها. وكان جزء كبير منها يمر عبر حلب. اما الآن فمعظم هذه الخانات مهملة ومخربة، وتسعى مديرية الآثار الى ترميم بعضها وتحويلها الى مواقع أثرية وسياحية. كما فعلت في "خان الشونة" الذي يعود بناؤه الى عام 1546 و"خان العادلية" الذي كان من أوقاف الجامع المسمى باسمه والذي بناه ابن أخت السلطان سليم لأمه ودفنها فيه أثناء عودتها من الحج وموتها في مدينة حلب.