تُعتبر مدينة حلب الشهباء احدى أعرق المدن في العالم، فهي تعود تاريخياً الى الألف الثالث قبل الميلاد، واشتهرت على مرّ العصور بدورها التجاري العريق، وبموقعها الاستراتيجي المهم، وبآثارها العظيمة التي تدل، ليس على عراقة هذه المدينة فحسب، بل على عظمة الحضارة العربية والاسلامية، ودورها في إغناء الحضارة البشرية في مجال البناء والفن والهندسة المعمارية. ولعل أهم هذه الآثار هي: قلعة حلب والاسواق القديمة والجامع الأموي الكبير. قلعة حلب تُعتبر هذه القلعة رمزاً للشموخ، ومثالاً للرفعة والحصانة والامتناع. فهي تربض على تل بيضوي الشكل مزدان بأجمل وأمتن ما ابتدعته الهندسة الحربية العربية، من أسوار وأبراج وحصون، تقوم بينها مئذنة مربعة تطل على مباني الشهباء وكرومها وبساتينها. والقلعة شاهد على عظمة الفن المعماري العربي الأصيل. أما كيف تكونت هذه القلعة؟ فهناك رأيان حول الموضوع: الأول، يرى انها كانت تلاً طبيعياً كتل "حي الجبيلة" مثلاً. والثاني، ويتبناه بعض المؤرخين الغربيين، يرى انها كانت هضبة قامت على أنقاض حصون يونانية وبيزنطية ورومانية. يقول الأديب الراحل المعروف عبدالله يوركي حلاق حول هذا الموضوع: "نميل الى الاعتقاد، ان قلعة حلب، كانت تلاً طبيعياً، وكانت مقام الحلبيين الأقدمين الذين كانوا يفضلون، كما كان يفضل غيرهم من الشعوب السكن في المرتفعات لأسباب كثيرة ووجيهة، منها صفاء الهواء، واتقاء شر الغزاة، والبعد عن قُطاع الطريق". وكان الحلبيون القدامى اذن، يقيمون في القلعة، حيث شيدوا معابدهم لبعض الآلهة التي كانوا يعتبرونها الرب السامي "حدَد" والرب الحثي "تيشوب"، وفي العهد المسيحي كان في القلعة دير وكنيستان للنصارى الذين كانوا يقيمون فيها شعائرهم الدينية بمنتهى الحرية. وفي العهد الراشدي فتح خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح القلعة سنة 16 ه 637م. وبُني فيها جامع، لكن المئذنة شيدت بعد ذلك بزمن طويل عام 1090 1679م. اما الاسوار والحصون والأبراج وأبواب القلعة فهي من بناء الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي، اذ حكم الأيوبيون مصر وسورية من عام 1171 الى عام 1250م. وتغير شكل الجسر القائم في مدخل القلعة، والمؤدي الى الباب الرئيسي، وهو الباب الأول المعروف بباب الحيّات الذي نُقش في أعلاه ثعبانان متشابكان، لكل ثعبان رأسان، أحدهما في الأسفل والثاني في الأعلى. وكان هذا الجسر في أول عهده جسراً خشبياً ثم استبدل بجسر حجري يقوم على ثماني قناطر من الحجر، ويعدّ العلاّمة المستشرق ماكس فان برخم مدخل قلعة حلب، من أعظم ما ابتدعه العقل العربي في تشييد القلاع والحصون. ومن يزر القلعة يجد على جدران مدخلها كتابات كثيرة أقدمها من سنة 1209 و1212م وهي للملك الظاهر المتقدم ذكره، وينسب اليه معظم العلماء - كما يقول برخم - هندسة القلعة وتخطيط أهم أقسامها. حبس الدم تعلو قلعة حلب، عن سطح أرض المدينة 28 متراً تقريباً، يحيط بها خندق عرضه 30 متراً، وعمقه نحو 32 متراً. وكان هذا الخندق على اتساعه الكبير يملأ ماءً يتفدق بغزارة من قناة حيلان ومن بعض آبار القلعة. وزيادة في الحصانة والمناعة والحيلولة دون فتح أي ثغرة في هذه القلعة فقد رصفت جميع أطرافها بحجارة سود ملساء، تحول دون تسلق العدو أسوارها. واذا حاول ذلك أمطره المدافعون بكرات حجرية، وصوبوا اليه النبال الحادة، وصبوا عليه المواد المحرقة، ومنعوه من اختراق خطوط الدفاع أو من الوصول الى برج من الأرباج، ولذلك اعتبر المهندسون الحربيون القدامى قلعة حلب من اعظم القلاع القائمة على وجه البسيطة. ويمكن القول ان من أهم معالم القلعة الداخلية: باب الأسدين: الأسد الضاحك، والأسد الباكي. ومقام "الخضر"، ثم مقام ابراهيم الخليل، وجامع بُني في العصر الأيوبي ترتفع بجانبه مئذنة مربعة بديعة يُصعد الى أعلاها بسلم داخلي يتألف من 78 درجة. وعلى مقربة من الجامع تجثم ثكنة عسكرية شيدها ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا عاهل مصر أثناء حملته على سورية عام 1834. وحينما نصل الى المستودعات والأقبية المحفورة في قلب الصخر نرى تلك السجون الرهيبة التي كان يُرمى فيها الأسرى والمغضوب عليهم فيموتون جوعاً وعطشاً وبرداً. ولهذا كان يسمى ذلك المكان "حبس الدم". ومن المشاهد الممتعة التي يحبها السياح قصر الملك البديع، ويقول المؤرخون بأنه بني في عهد المماليك، وأول ما تقع عليه العين بقايا حمام جميل يشبه الحمامات التركية بهندسته الدقيقة وتنسيق أقسامه. أما قاعة العرش نفسها فيقول بعض مؤرخي الغرب انها كانت معدة للمحاكمات الملكية. وأنشأها الملك "كايت باي" في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي فوق البرجين المنتصبين في مدخل القلعة الرئيسي ويبلغ طول هذه القاعة 26 متراً وعرضها 23 متراً. أما عمن بنى قلعة حلب، فيقول الشيخ كامل الغزي عن ذلك في كتابه: "نهر الذهب في تاريخ حلب" ما نصه: قالوا - يعني المؤرخين الذين سبقوه - كانت قلعة حلب عديمة النظير بالحصانة والمنعة، وأول من بناها ميخائيل، وقيل سليكس نيكادور أحد الملوك الرومانيين سنة 21 من جلوسه قبل المسيح بثلاثمئة واثنتي عشرة سنة، وهذا الرجل يسمى في التواريخ الحلبية سلوقوس، وهو الذي جدد بناء المدينة بعد خرابها بزلزال دهمها. ويؤيد المنجد في الاعلام ما ذهب اليه الغزي فيقول: سلوخس نيكاتور - أي الظافر - نحو 355 - 280 ق.م. قاد الجيش تحت امرة الاسكندر. خلفه في الملك على البلاد الممتدة بين الفرات والهندوس، ثم سمى نفسه ملكاً نحو 305 ق.م. وضم الى ممتلكاته سورية، وآسيا الصغرى. وأسس أنطاكية على العاصي سنة 307 ق.م. فالقلعة إذن من بناء الرومانيين. ولما فتح كسرى حلب وبنى سورها شيد في القلعة بعض المواضع، كما شيد سيف الدولة الحمداني بعضاً من أسوارها وأكملها بعده ابنه سعد الدولة وسكنها. أما أمنع الأمكنة في قلعة حلب، من أبواب ودهاليز وأبراج وحصون وأسوار فبناها الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي ثم أضاف اليها المماليك أبنية مهمة جداً، ثم شيد المصريون الثكنة المعروفة بثكنة ابراهيم باشا. الجامع الأموي الكبير في حلب هو أكبر الجوامع التي أُقيمت بحلب وأوسعها، يقع في قلب المدينة القديمة - حي سويقة حاتم - التي عاصرها منذ عهود الفتح الاسلامي. كان مكانه حديقة لكنيسة الروم القديمة التي بنتها هيلانة ام الامبراطور قسطنطين امبراطور بيزنطة في القرن الخامس الميلادي. ومكانها اليوم "المدرسة الحلاوية" وفي رواية ثانية انه اقيم في باحة "الآغورا"، وصالح المسلمون على مكانه هذا أهل حلب منذ يوم الفتح. اما بانيه فهو الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك الذي تولى الخلافة سنة 96ه فقد انشأه وتأنق في بنائه ليضاهي به جامع دمشق الذي بناه اخوه الوليد، واستعمل في بنائه احجار أبنية قديمة في جملة الأحجار التي جُلبت من المقالع والمقاطع الحجرية القريبة الى حلب التي اشتهرت بها. يقوم الجامع على مساحة واسعة من الارض مستطيلة الشكل ابعادها 105 امتار طولاً من الشرق الى الغرب و77.75 متر عرضاً من الجنوب الى الشمال، ونظامه وفق النظم السائدة في المساجد الاولى بتشكيله وطرازه، اذ يقول كريزول عند تحدثه عن المساجد الاولى: "المسجد الكبير في حلب كان على ما يبدو نسخة من مسجد دمشق الكبير". ينفذ الى الجامع من ابواب اربعة هي: الباب الجنوبي ويُعرف ب "باب النحّاسين" ايضاً، والباب الشرقي ويُعرف ب "باب الطيبة"، والباب الشمالي ويُعرف ب "باب الجراكسة"، والباب الغربي ويعرف بالمساميرية. اما صحن الجامع فهو رحب واسع الارجاء ابعاده 79 متراً طولاً، و47 متراً عرضاً، ارضيته مبلّطة بمختلف الاحجار المصقولة: الصفر والسود وغيرها، توزعت اطرافها ووسطها تقسيمات ووحدات ضمت اشكالاً مختلفة، تناوب فيها الحجر الملوّن من اسود واصفر ومرمري ابيض وسمّاقي. وهناك أروقة ثلاثة انتصبت في جهاته الشمالية والشرقية والغربية وعقدت بطريقة القبو المتقاطع - الغمس بتعريف البنّائين الحلبيين - محمولة على دعائم حجرية ضخمة، وتطلّ على الصحن من خلال عقود متتالية. اما المئذنة وعمرها اكثر من تسعة قرون، فهي مربّعة المسقط شأن المآذن التي قامت منذ العهد الاموي، وامتدت حتى نهاية العهد الأيوبي، طول الضلع فيها 4.95م وارتفاعها نحو 45 متراً حتى شرفة الأذان، ويصعد اليها المؤذن عبر 174 درجة. تذكر الرواية انه شُرع في تجديد بنائها في عهد السلطان السلجوقي ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان، ونائبه في حلب آق سنقر سنة 482 من الهجرة 1089م، وتم البناء في سنة 483 من الهجرة 1090م كما يوضح الخاتم المنقوش على ضلعها الجنوبي المطلة على صحن الجامع، والنصوص الكتابية تأخذ بأضلاعها الأربع في طبقاتها الخمس. الاسواق القديمة مشهد سياحي لافت الاسواق القديمة بحلب أحد اهم الآثار التاريخية التي تدلّ على مدى عراقة هذه المدينة من ناحية، ومدى حيويتها وفاعليتها التجارية على مر العصور في هذه المنطقة الهامة من العالم. حينما يدخل السائح والزائر هذه الاسواق يتنسم عطر التاريخ الذي يتضوع من بين جنبات المكان. اسواقٌ تجاوز عمر بعضها الألف عام. ابوابٌ تشرئبُُ نافضةً عن عنقها صدأ السنين وغبار الزمن. المدخل الى هذه الاسواق يتم عبر ثلاثة ابواب رئيسية، هي: باب انطاكية وباب جنين وباب الفرج. اما باب أنطاكية فيعتبر المدخل الاهم للولوج الى قلب الاسواق القديمة. وكان هذا الباب يفضي منه الى انطاكية، وذكره ابن العديم في كتاب "الزبدة" الجزء الاول. عندما فتح المسلمون حلب دخلوها من باب أنطاكية، وكان نقفور ملك الروم خرّب هذا الباب لما استولى على حلب عام 351ه، فلما عاد اليها سيف الدولة عام 353ه بناه، ثم هدمه الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف واعاد تشييده وبنى عليه برجين. وبعد اندثاره اعاد بناءه دقماق الناصري في القرن الثالث عشر، وجدده الملك المؤيد المنصور في القرن الخامس عشر. اما باب الجنان يلفظه العامة باب جنين فسُمي بذلك لأنه يفضي الى جنان حلب حيث يجري نهر قويق. ذكره ابن العديم في "الزبدة" والبغدادي في "المراصد". قال: أحد ابواب الرقّة. وأحد ابواب حلب. اما باب الفرج، فهو الباب الصغير، سُمي بهذا الاسم تفاؤلاً لما وجد من التفريج بفتحه. فتحه الملك الظاهر غازي. وكان في محله باب يسمى باب العبّارة او باب الثعابين. وباب الفرج لم يبق له اثر. واثناء الحفريات الاخيرة اكتشف سوره القديم. وذكر باب الفرج ابن العديم في "الزبدة". تكتظ هذه الاسواق بالشارين والزوار ويؤمها سنوياً آلاف السواح الاجانب، بالاضافة الى الاشقاء العرب، وتمتاز بفرادتها من حيث البناء، والحجم، والفاعلية التجارية، وتعتبر من اهم الاسواق التجارية في سورية، بل وفي الوطن العربي كله، لا سيما "سوق المدينة" المعروف بسعته وكثرة خاناته وحماماته ومساجده. يعود بناء هذه الاسواق الى مئات السنين وبعض ابوابها واسواقها يصل عمره الى نحو الالف عام. وهي تعد بالعشرات، واهم اسمائها المعروف: سوق الاحد، سوق استانبول، سوق اصلان دَدَه، سوق الانتاج، سوق باب الجنان، سوق باب النصر، سوق باب النيرب، سوق باطية، سوق البَزّ، سوق الصابون، سوق البن، سوق الحبال، سوق الجوخ، سوق التلل، سوق خان الجمرك، سوق السلاح، سوق النسوان، سوق النحاسين، سوق الهال… الخ. وتعتبر "سوق المدينة" احدى اكبر الاسواق المسقوفة في الشرق الاوسط وفي عموم العالم، ويناهز طول سوق المدينة من باب انطاكية الى باب القلعة الجنوبي كيلومتراً واحداً وهي مسقوفة في شكل هلالي، وتتفرّع عن هذه السوق الرئيسية اسواق ترتبط ببعضها عبر ازقة مبلّطة بالاحجار البازلتية السوداء وبطول يقارب 12 كم. اما من حيث المساحة فان اسواق المدينة اصبحت تغطي عام 1930، 16 هكتاراً وهي في الوقت نفسه محور ومركز حلب القديمة داخل الاسوار. وفي الفترة الاخيرة تم توظيف عدد من الاماكن الاثرية والتاريخية سياحياً بعد اعادة صيانتها وتجديدها وترميمها بما يتواءم مع مخططاتها الهندسية والفنية حتى لا تفقدها هويتها بقدر ما تعيد اليها الحياة من جديد. ومن ابرز هذه المواقع التي وُضعت في خدمة السياحة الداخلية والخارجية خان الشونة الواقع الى الجهة الجنوبية الغربية من باب القلعة، ويشتمل الخان على اكثر من 40 دكاناً متجاورة ومتقابلة يفصل بينها على الجانبين بهو يسمح للمارة والسياح بالتمتع برؤية فن العمارة الشرقية والمعروضات التراثية والفولكلورية والحرفية والتحف التي تفتح شهية الزائر المتذوق وتحرضه على الاقتناء. وبجوار الخان من الجهة الشمالية تم مطلع عام 1997 توسيع مقهى الرصيف الذي يشرف مباشرة على قلعة حلب التاريخية بغية الاستيعاب والتخديم الأمثل للمجموعات السياحية التي تقصد المدينة على مدار السنة. وبالعودة الى خان الشونة فهناك بالاضافة الى الدكاكين الساحة الرئيسية التي تم توظيفها لإقامة الحفلات الموسيقية والفنية للفرق الوافدة والوطنية في مهرجانات اغلبها يقام في فصول الربيع والصيف والخريف حينما تكون الساحة غير مغطاة بالاضافة الى المقهى والمطعم على سطح الخان. وهناك، داخل الاسواق وفي محاذاتها، الكثير من البيوت العربية والخانات والحمامات التي وظفت سياحياً منها: بيت غزالة، والسيسبي ودار الياسمين في الجديدة وحمام "بليغا الناصري" و"باب الاحمر" حول القلعة والمطبخ العجمي وخان الوزير ضمن المدينة القديمة، وبيمارستان أرغون الكاملي، وغيرها من الاماكن التي تمّ ترميمها وتجديدها.