تردد المناقشات الإنتخابية، تلك التي تتناول نظم الانتخاب والتمثيل البرلمانيين والسياسيين وتتناول الدوائر وتقسيم الناخبين واللوائح، آراءً وأحكاماً يتداولها أصحابها في ضوء مصالح ومنافع مرتجاة، أو في ضوء فلسفات سياسية قاطعة لا ترجو إلا وجه الشعب أو الأمة، على ما يزعم دعاتها. وعلى مثال شائع وسائر يرسي أصحاب الآراء والأحكام الإنتخابية مذاهبهم ومللهم على علل ثابتة ينسبون إليها كل المحاسن والفضائل. فإذا هم اختاروا الإنتخاب النسبي، والدائرة الوطنية الواحدة، حمَّلوا طريقتهم هذه التمثيلَ الأدق للإرادة الوطنية المجتمعة والواحدة، وغفلوا عن الوجوه الأخرى المترتبة على الإنتخاب النسبي مثل تقوية الإدارات والبيروقراطيات الحزبية إذا وجدت الأحزاب الوطنية "على حساب ارادات الناخبين وأختبارهم، والفساد الناجم عن تكلفة التمويل الباهظة على حساب وضوح الأصول السياسية، وأغفلوا اضطراب الحكومات المؤتلفة، في أعقاب الإنتخابات النسبية، من شراذم الكتل المنتخبة. وإذا هم مالوا الى الدائرة الفردية حسّنوا، من غير تحفظ ولا حذر، العلاقة المباشرة بين المقترعين ومن ينوب عنهم في المجلس التشريعي، وزعموا لها فضائل المعرفة والإختبار والروية والمراقبة الحازمة واليقظة. وأنصار الدائرة الفردية يُنسون بعض ما لا ينفك منه التمثيل المباشر من رسوخ في المواطأة الأهلية والموروثة، وتقديم للمنافع القريبة، وحجر على اختيار الأفراد. وإذا انقطع الإقتراع في الدائرة الفردية من البنيان الحزبي الوطني تحولت النزعات الأهلية والمحلية إلى آفاق الجسم السياسي، وإلى أمراض الدولة المزمنة. وفي كلتا الحالين، وفي غيرهما كذلك، تطرح المناقشات، ويطرح معظم المناقشين، النظرَ في المناسبة بين القوانين الانتخابية وبين السنن والتقاليد الإجتماعية، وهي، أي المناسبة بين الإثنتين، ركن المعالجة السياسية المستقيمة. فحيث تضعف هذه المناسبة، أو لا تعتبر، يؤدي إعمال القوانين المتعسفة إلى انحراف الجسم السياسي عن سويته، ويمعن هذا الجسم في التخبط والإنقسام المحمومين والآيلين إلى تصدع الإرادة العامة وتفويت القرارات الكبيرة والحاسمة. وما لم تستند القوانين والمؤسسات والإدارات إلى السنن والتقاليد والعادات التي يجمع عليها شعب أو مجتمع، ويرعاها رعاية ميل وهوى، حملها الشعب أو المجتمع على القهر والظلم، إذا عمل بها الحاكم، وعلى الإحتيال والكذب وتحصيل المنافع المستترة، إذا لم يعمل بها واستمر على زعمها. وما يجمع بين الصيغ الإنتخابية في المجتمعات العربية، هو حداثة العهد بها، وضعف اختبارها اختباراً مستقلاً، فيَسوغ الإستدلال به على مناسبة الصيغ المختلفة للسنن والتقاليد والعادات الوطنية والمحلية. ويؤدي تقييد الإختبار هذا بثقل السلطة المركزية، وبوطأتها على الإنتخابات كلها - من الترشح وتأليف اللوائح والأحلاف إلى الدعاوة وانتقال المقترعين وسجلات الناخبين ومعايير تدوينهم - إلى تكذيب الإختبار، ونفي كل دلالة عن إجراء الإنتخابات على هذه الصيغة أو تلك. فما قدرت السلطة المركزية، المستولية على مقاليد الأمر والنهي، على إنفاذ إراداتها من غير حسيب عليها من "رأي" عام، وهو آراء أو تيارات رأي، ومن غير بديل عن طاقم السلطة، أو عصبيتها وحزبها، لم تكن نتائج الانتخابات والإقتراع قرينة على معنى غير المعنى الذي تريده عصبية الدولة المستولية وتوجبه. ومثل هذه الإنتخابات المترجحة النتائج بين فوز الحزب المستولي، و"جبهته"، بتسعين في المئة من المقاعد ومقتعديها وبين فوزه بمئة في المئة" والمطمئنة على الدوام إلى إقبال فوق التسعين في المئة من الناخبين على الإقتراع، مهما كانت حال الطقس" لا فرق في دلالتها إذا هي أجريت على صيغة الدائرة الفردية، أو على صيغة الدائرة الوطنية الواحدة. فالعصبية المستولية وحدها يسعها، إما مباشرة وإما من طرق ملتوية، إتاحة الفوز لهذا المرشح، ولكتلة المرشحين، أو ذاك. وينتهي الأمر، في معظم الأحيان، بمن ليسوا من عصبية السلطة المستولية "وحلفائها"، إذا هم لم يستقيلوا من تعاطي الشأن العام أو لم يُقالوا منه قسراً، إلى اليأس والتخلي والإنكفاء. وهذه، بدورها، لا تترك أثراً في الإنتخابات، ولا تعرقل إجراءها على النحو الذي يرتأيه الحزب المستولي. ويلاحظ ان الأحزاب الشيوعية تميل، بعد أن تتم لها الغلبة، إلى إجراء انتخاباتها المسرحية على صورة الدائرة الفردية وصيغتها. وهذا يترتب على تناولها لمراتب السياسة والإدارة والتمثيل في مجتمع الدولة - الحزب: إذا كان الحزب المستولي هو تجسيد إرادة "الشعب" العامة، وهو التمثيل عليها، وذلك من طريق شرعية تاريخية دائرية، أمست كل نيابة، غير النيابة الجزئية والموضعية، نافلة من النوافل المضرة، وجاز بل وجب الاستغناء عنها. وهذا على خلاف سياسة هذه الاحزاب - الشيوعية والقومية و"القومية - الإجتماعية" - قبل الإستيلاء على السلطة المركزية. فهي تجمع، في هذه الحال، على تحسين الإنتخاب الوطني والنسبي وترجيحه، وتتذرع به إلى تقوية النزعات السياسية العامة التي تتربع مثل هذه الأحزاب في المجتمعات العربية عليها، وإلى حشد المقترعين الفرادى، والمنقطعين من عصبياتهم، في كتلة واحدة، والتأليف بين التيارات العامة والنازعة إلى الإستيلاء على السلطة بواسطة الإنقلاب، العسكري أو الأهلي. فتُحشر في "المسألة" الإنتخابية، حيث لم ينجز الإستيلاء على الدولة بعد، وفي المناقشات السياسية والإجتماعية التي تتناولها، حجج متنافرة المصادر والأغراض. ومن هذه الحجج زعم أنصار الدائرة الوطنية الواحدة والإنتخاب النسبي أن هذه الصيغة الإنتخابية، وهي تتيح جمع قلات أقليات اقتراعية حزبية وتكتيلها كتلة واحدة ولو صغيرة، أقوى تمثيلاً على إرادة وطنية مجتمعة، ومندمجة، من الكتل الأهلية الكبيرة، والمحلية والطائفية المذهبية الدينية، وهي المتوقّع لها ان تحوز العدد الأعظم من أصوات المقترعين. أما كيف يجتمع التمثيل القوي والوطني والعام مع القلة فمسألة مشكلة لا جواب عنها لدى أنصار الدائرة الواحدة والنسبية. ولما كانت "الأحزاب" السياسية القائمة الراجحة هي الجماعات الأهلية، القومية أو المذهبية أو المحلية الجهوية، من الجهة والبلد، ومبانيها المتلاحمة والموروثة والسابقة الدولة، زمناً وموقعاً، جاز توقع غلبتها، من طريق الإقتراع، على أجزاء الجسم الانتخابي القليلة أو الضعيفة العصبية والإلتحام، الأخرى. فلا يصنع الإنتخاب النسبي، المشفوع بالدائرة الوطنية الواحدة، إلا إرساء قوة العصبية الأهلية على صورة سياسية حديثة أو محدثة بل حداثوية. ويدعو الصنيع المحتم هذا العصبيات المغلوبة، والسائرة إلى التلاشي، جراء رجحان عوامل اجتماعية حديثة فعلاً مثل احتساب المصالح "التجارية" والنزعات الفردية وتغليب الرأي والروابط الصناعية على الروابط الطبيعية - يدعوها الى الإلتحام من جديد، ويبعثها على الإندماج بإزاء العصبيات الكثيرة وفي مقابلتها. ولعل منشأ هذا الدَّوْر الحلقة المفرغة الذي يدور على التمثيل السياسي في المجتمعات العصبية، ودولتها، هو حمل وجهي الإنتخاب النيابي على وجه واحد. فالإقتراع يؤدي مهمتين، أو عملين، هما التكليف، أو الندب إلى إنجاز بنود تعاقد عليها، ضمناً أو علناً، الناخب المقترع ومن ينوب عنه، من وجه أول، والتمثيل المعنوي والصوري على جسم جماعة المقترعين وهويتها، من وجه ثان - على ما ذهب إليه كارل شميدت، الحقوقي الألماني، وتابعه عليه كثرة من دارسي السياسيات. والوجه الأول هو الوجه الحسابي أو العقلاني والمصلحي، والآني، من السياسة المحدثة. وهي تقدم التعاقد الإرادي والفردي على التماسك العصبي ولحمته الموروثة والغالبة، وتقدم الحاضر والحال على الماضي ووطأته، وتوجب الرابطة والعروة بين أشتات متفرقين وأفراد، وتنيط التكليف بوقت محدود وبإنجاز، ويملك المقترع الرجوع في رأيه واختياره. ولكن النيابة السياسية والإنتخابية، شأن الإجتماع ولحمته، لا تستقيم بالتكليف وحده. وما يشد الناخبين بعضهم إلى بعض، وواحدهم أو جملتهم إلى من يمثله وينوب عنه، لا يستوفيه الإختيار، ولا يدخل كله تحت الإرادة والعقد. فالناخبون إنما يفهم بعض عن بعض من طريق عادات وانفعالات وأهواء ورسوم ولغة، ويتصل بعضهم ببعض من طريق هذه. وهم لم يختاروا لا قراباتهم ولا إقامتهم موطنهم وجوارهم. وهذه كلها تحدرت إليهم من رابطة انتهت إليهم، وتعهدت تنشئتهم وبلوغهم رشدهم، ويدينون لها بتعرفهم أنفسهم أفراداً وجماعات. ولا ينفك التكليف الفردي والعقلاني من نازع إلى التمثيل على الوجه الجمعي الذي لم يختره المرء، ولم تكن له يد فيه. فيتوسم الناخب المقترع في رجل أو إمرأة دون آخر، القوة على تصوير رابطته بأمثاله ونظائره. والقوة على التصوير والتجسيد قد تغالب الوجه الأول، وجه التكليف المقيِّد، فتغلبه أو لا تغلبه، بحسب الناخب والوقت والمسائل الملحة. والإقتراع هو محصلة هذه المغالبة أو المنازعة ومآلها. ولا يعقل أن يقتصر المقترع على وجه واحد من الوجهين المؤثرين في اقتراعه، إلا إذا كان الإنتخاب مقحماً إقحاماً على مجتمع رابطةُ أفراده "آلية" خالصة، أو محض عصبية ودموية، أو كان اختباراً حسابياً مجرداً. وغالباً ما توكل المجتمعات العصبية إلى الإنتخابات العامة، النيابية والرئاسية وحتى البلدية والإختيارية، التمثيل على الجماعات ووحدتها ومراتبها، من غير امتحان التكليف والعقد. فتستبدل هذه المجتمعات الإقتراع المشروط والجزئي بالترئيس والمبايعة غير المشروطين والكليين. ويحل الرئيس القائد، وهو العَلَم الماثل على مُسْكة الأمة ولحمتها ونفيها الفروق والاختلاف من داخلها، محل الوالي، الذي يلي التدبير والتصريف، ومحل العامل، وهو القائم بالوكالة على هذا الجزء من التدبير أو ذاك. وكانت ترجمة بعض كتب السياسة اليونانية، العامية - نسبة إلى العامة والجمهور الأعظم - تشْكل على ناقليها إلى العربية: فحيث يقول الكاتب "الوالي" أو "العامل" المنتخب والمقيد الولاية والعمل يكتب الناقل "الرئيس"، على معنى شيخ القبيل الطبيعي والعصبي، فيحرف القول عن معناه. واليوم يقترح أنصار الرئاسات والقيادات والمشيخات، الطبيعية والعصبية، الإنتخاب الوطني والنسبي بديلاً من المبايعة والتسليم، وضداً للإنتخاب الفردي والدائرة المحلية الضيقة، وهم يريدون لأنفسهم، على نطاق الدائرة الوطنية الواحدة، ما ينكرونه على الدائرة الفردية والمحلية، وانتخابها من ينوب عنها على معيار عصبي. وهذا بعضٌ من تخليط الترجمة وبلبلة الألسن. * كاتب لبناني.