مع بداية فصل الصيف انطلقت في انحاء المغرب قرابة 30 مهرجاناً في مختلف أنواع الفنون بينها مهرجان مراكش للفنون الشعبية، مهرجان فاس للموسيقى الروحية، مهرجان الصويرة لموسيقى الكناوة، مهرجان الرباط الذي احتضن حفل تكريم الشاعر الفلسطيني محمود درويش واستضاف مجموعة من نجوم الغناء مثل ماجدة الرومي، سنيا مبارك ومارسيل خليفة، مهرجان فنون الأطلس، مهرجان عين الشق وغيرها من النشاطات التي تمثل ظاهرة فريدة من نوعها في العالم العربي، تشابهها الى حد ما ظاهرة المهرجانات في تونس. وسط هذا الجشد من النشاطات الفنية التي تقام برعاية وزارة الثقافة يبرز مهرجان مراكش للفنون الشعبية لأسباب عدة أبرزها ما يقدمه من نسيج فني - اجتماعي يعكس الواقع المعاش في بلد ما زالت تقاليده حاضرة بقوة في الحياة اليومية. والمهرجان، الذي يحظى بالرعاية السامية للملك محمد السادس، احتفل هذا الصيف بدورته السادسة والثلاثين بعرض فني شامل تحت عنوان "فصول الحياة" أشرف عليه محمد الكنديري، رئيس جمعية الأطلس الكبير وأخرجه محمد حسن الجندي الذي حافظ على طبيعة العمل وحرص أن يكون وحدة متماسكة تتكرر يومياً من دون المساس في الجوهر. وشارك في تقديم العرض في باحة قصر البديع وعلى خلفية نقيق الضفادع التي تسكن برك الماء في باحة القصر 29 فرقة ضمت الواحدة منها ما بين 15 و30 فرداً مثلت في ما بينها جهات المغرب وتحديداً المناطق الصحراوية منه. والموسيقى تمثل أداة تعبير ذات أهمية كبيرة عند افراد القبائل في حياتهم الاجتماعية. فهي تترجم إحساس الفرد تجاه عائلته وقبيلته ومن حوله من الناس. والموسيقى القبلية بألوانها المختلفة لها وظائف اجتماعية أو شعائرية تستخدم للتعبير عن حدث ما، أو الإحساس العام لمناسبة معينة. ولذلك تتعدد ألوانها إذ إن كل لون يرتبط بأحد جوانب الحياة مثل الولادة، الختان، الزواج وحتى الموت. وهناك أيضاً اغاني المناسبات مثل تشجيع المحاربين والاحتفال بالنصر وغير ذلك من اغاني العمل التي تساعد على التخفيف من الإحساس بالتعب والوقت. الى ذلك تعتبر الموسيقى عند هؤلاء لغة يومية أساسية في التعبير عن الحال النفسية للفرد أو الجماعة. وعادة ما يكون ذلك في صورة جماعية، وأحياناً قد تكون فردية. أما الآلات فهي أساساً آلات نقر، وخاصة الطبول في مختلف أحجامها أو الآلات الوتيرة مثل الجمبري أو الهجهوج وما الى ذلك من آلات تنتج عنها أصوات غليظة ايقاعية تسهم في بلورة الأجواء المرجوة. وهناك أيضاً آلات النفخ وفي فترات لاحقة انتشر استعمال الكمان وخاصة في منطقة طنجة. وتجدر الإشارة هنا الى براعة أهل القبائل من الجنسين في تنفيذ إيقاعات وأوزان غاية في الصعوبة والتعقيد ولا يعرفها سوى الموسيقي المتعلم والمتمرس في حرفة الموسيقى. وتمتاز الفرق الشعبية، والقبائلية بفنون الرقص الشعبي الذي عادة ما يصاحب الغناء ضمن عملية جماعية يشارك فيها الجميع إذ يحركون اياديهم ويخبطون على الأرض بأرجلهم وذلك عند سماع كلمات معينة تشير الى الفعل المطلوب من رئيس المجموعة مثل كلمة أفوس، وهي إشارة الى التصفيق الحاد، أو كلمة أدار، وهي إشارة الى الخبط على الأرض. وهكذا جاءت تظاهرة "فصول الحياة" لتترجم واقع التراث والفنون الشعبية المغربية ضمن سعي رسمي لتشجيع السياحة وإبراز غنى أو تنوع الموروث الشعبي عموماً وفي مدينة مراكش في صفة خاصة. وجسد استعراض "فصول الحياة" الموروث الشعبي من خلال تركيزه على المناسبات الأساسية في حياة الإنسان فقد تناوب على تقديمها مئات المشاركين ضمن 29 فرقة. وكانت البداية مع فرقة هوارة القادمة من سفوح الأطلس التي قدمت طقوس الاحتفال بالولادة معلنة بداية الاحتفال بفصول الحياة. وتلتها فرقة الركبة الصحراوية في احتفال فرحة الختان. وانبهر الحضور مع تواصل عروض الفقرات التراثية والرقصات الشعبية مثل رقصة الكدرة أو "القدرة" كما نسميها في المشرق العربي، وهي رقصة من منطقة العيون الواقعة في جنوب المغرب. والكدرة أو "القدرة" عبارة عن طبل من الطين يضرب عليه بالأيدي وتحرك الراقصة أطرافها على إيقاعاتها، وفي هذه الأثناء تبرز وجهها تدريجاً تبعاً لرموز موروثة عبر الأجيال ولكنها الآن مبهمة ولا يوجد من يفسر معانيها. ومن الرقصات التي تمثل مرحلة البلوغ والشباب والحماسة وما يرتبط بذلك من مسؤوليات جسيمة يقوم بها الشباب، رقصة تاسكوين، وهي رقصة حربية رجالية يغيب عنها العنصر النسائي. ويرتدي الراقصون أطقماً بيضاء واضعين على أكتافهم وعاء البارود ويقومون بحركات ويصدرون أصواتاً تحاكي الحركات والأصوات الحربية. والتاسكوين تعني القرن، وهي القطعة التي يوضع فيها مسحوق البارود. وفي مرحلة النضج يجتمع الرجال والنساء لتقديم رقصة التيسنت، وهذه الرقصة تميز منطقة أغادير ويرتدي الراقصون والراقصات أزياء حمراء اللون. وتتميز الرقصة باستعمال الخنجر كأداة للرقص وكرمز حربي. ومن الرقصات اللافتة خلال العرض رقصة الكناوة، وهي رقصة روحانية ذات أصول افريقية يقابلها في مصر الزار. ومع الأفراح واحتفالات الزواج قدمت فرقة قلعة التي تنتمي الى منطقة وارزازات رقصة النحلة. ويعرف عن هذه المنطقة زراعتها للورود. وهكذا يزين الراقصون والراقصات ملابسهم بالورود من أجل تنفيذ هذه الرقصة التي تمتاز بمناورات وحركات خفيفة تحاكي فصل الربيع والحوار الذي يدور بين النحل والورود. وهكذا تتواصل فقرات العرض حاملة معها عبق التاريخ في تراث حي قد يبدو للوهلة الأولى متشابهاً غير أن كل فقرة فيه تميزت بإيقاعاتها الخاصة ولغتها الموسيقية التي تمثل الجهة القادمة منها وذلك إضافة الى اللباس والألوان التي تميز كل مجموعة عن سواها في احتفال تخلله استعراض لياقة لمجموعة من الأطفال وانتهى بمشاركة مئات المساهمين الذين شكلوا متحدين جزءاً أساسياً من صورة المغرب التاريخية والمعاصرة في الوقت ذاته. وقد استمتع العدد المتواضع من الحضور خلال ليالي المهرجان بلوحات فنية طبيعية حملت صوراً من الماضي ما زالت تتجلى في حياة أصحابها الذين لم يغيروا من أساليبهم في الحياة وفي الفرح. وزائر مراكش، بمجرد وصوله الى المدينة يبدأ بتنفس الإيقاعات المغربية والرحيل في خيالاتها من دون أي مبادرة منه. فهي تسعى إليه في باحات الفنادق ذوات الخمس نجوم وفي مطاعمها التي تقدم "وجبات" موسيقية منوعة ودسمة كما هي أصناف الطعام المغربي. وبعيداً من التراث الذي تحتضنه مدينة مراكش الحمراء وفي مدينة الدار البيضاء أو "كازا" كما يطلق عليها في المغرب نظمت بلدية عين الشق، اشهر الأحياء الشعبية في المدينة، مهرجاناً شمل فاعليات فنية وثقافية عدة وكان ختامها ليلة غنائية مغربية عربية شاركت فيها مجموعة من الفرق والنجوم مثل فريق لمشاهب العريق، وفرقة "تكدا" ذات الشعبية الواسعة في المغرب. وكان الافتتاح لابنة الحي البارة الفنانة حياة الإدريسي، أو أم كلثوم المغرب كما يطلقون عليها أينما حلت. قدمت حياة مقاطع من أشهر أعمال السيدة أم كلثوم وسط هتافات الجماهير المتواصلة على طريقة هتافات ملاعب الكرة تعبيراً عن حبهم لها في استقبال حافل من الآلاف الذين استطاعوا حجز مكان لهم في هذا المهرجان وهو الأول من نوعه في الحي. وظلت الجموع التي لم تستطع الدخول تستمع وتشارك من خارج الأسوار والبوابات في هذه الاحتفالية المغربية - العربية على رغم الإمكانات المتواضعة جداً والمتاحة أمام إدارة المهرجان، وذلك مقارنة مع الإمكانات الهائلة المتاحة في المهرجانات الأخرى. وكانت إدارة مهرجان مراكش للفنون الشعبية أعلنت بداية احتفالات المهرجان بمسيرة للفرق المشاركة الهدف منها تعميم الاحتفال على اهالي المدينة الذين واصلوا روتينهم اليومي. وكان اللقاء المرجو لم يحصل لأسباب غير معروفة. ولكن المراقب للحالتين الفنية الشعبية والاجتماعية في المغرب وخصوصاً مراكش يجد نفسه أمام إمكانات مؤهلة لإقامة كرنفالات وليس مجرد عروض ليلية للفرق الشعبية في باحة موقع أثري عزيز على أهل المغرب مثل قصر البديع بينما عامة الناس تواصل توافدها على ساحة جامع الفناء، هذا الفضاء المسرحي اليومي بما يضج به من ألوان فنية وعادات اجتماعية تطغى على أحاسيس الداخل في أجوائها بقدرتها على انكار قيمة الزمن والرحيل عبر العصور موفرة لكل زائر "وجبة" من الخيال والقدرة على التأمل الى ما لا نهاية.