يبدو أن العلاقات السورية - العراقية مرشحة ليس فقط لفتح صفحة جديدة بدأ الجانبان خط أحرفها وكلماتها الأولى منذ عام 1997، وانما أيضاً لرسم مسار جديد بأفق وعقل وفكر واقعي جديد فيتم تأليف كتاب جديد متناسق ومشترك وليس مجرد صفحة قد تطوى بسهولة مع مرور الأيام وتتالي الاتصالات واللقاءات والاجتماعات المشتركة بين المسؤولين في البلدين، ترسم من خلاله أسس جديدة راسخة لعلاقات طبيعية بين قطرين شقيقين متجاورين تربطهما مصالح مشتركة لا حصر لها. منذ 1997 بعد المبادرة السورية لفتح الحدود مع العراق أمام رجال الأعمال والمسؤولين من البلدين لبدء عمليات تبادل تجاري بينهما في اطار قرار مجلس الأمن الرقم 986 النفط في مقابل الغذاء والعلاقات بين البلدين تشهد عاماً بعد آخر مزيداً من التطور ومزيداً من الدفء باتجاه إعادة توثيق الروابط. وفي هذا الاطار وقع عام 1998 على اتفاق لاصلاح خط أنابيب النفط الذي يربط حقول كركوك، شمال العراق، بمرفأ بانياس السوري على المتوسط، بعدما توقف نقل النفط العراقي عبره منذ 1981 في ذروة الخلافات بين البلدين، واثر قرار العراق قطع علاقاته مع سورية احتجاجاً على موقفها من الحرب التي شنها على ايران وقادت الى تآكل كبير في قوته ودوره في مجمل الوضع الاستراتيجي للاقليم كله. ويبدو أن القيادة العراقية، كما القيادة السورية، اتخذت قراراً منذ مطلع هذه السنة بزيادة التقرب من دمشق، وكانت أبرز تجليات هذا القرار: أولاً: قرار العراق فتح شعبة قنصلية لادارة مصالحه في دمشق في آذار مارس الماضي. ثانياً: الزيارات المتتالية التي قام بها مسؤولون عراقيون لدمشق ومحادثاتهم مع المسؤولين السوريين والإلحاح على التوصل الى اتفاقات لتدعيم تحسين العلاقات بين البلدين. ثالثاً: الزيارة التي قام بها وزير التجارة العراقي محمد مهدي صالح لدمشق أخيراً واجتماعه مع عدد من كبار المسؤولين وفي مقدمهم رئيس الحكومة، وكان من أبرز نتائجها: 1- استئناف اجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة بعد مضي نحو عشرين عاماً على توقفها عن العمل منذ قطع العراق علاقاته الديبلوماسية مع سورية عام 1980. ورأس اجتماعات اللجنة وزيرا التجارة الخارجية في البلدين وجرى خلالها عرض علاقات التعاون التجاري والاقتصادي وسبل تطويرها. كما جرى بحث في تسهيل حركة انتقال التجارة والصناعيين العراقيين عبر الأراضي السورية، وزيادة التبادل التجاري من 450 مليون دولار الى نحو بليون دولار سنوياً في اطار قرارات الأممالمتحدة ومصلحة الشعبين، وزيادة استخدام الموانئ السورية لتوريد السلع من أوروبا الى العراق. 2- إعادة تشغيل خط السكك الحديد الذي يربط بين مدينتي الموصل وحلب، بعد توقف استمر هو الآخر نحو عشرين عاماً، وذلك لتسهيل نقل الواردات الى العراق من سورية والدول الأخرى. الأمر اللافت في زيارة وزير التجارة العراقيلدمشق كان اجتماعه مع وزير الخارجية السوري حيث أعلن رسمياً ان الوزير الضيف حرص على نقل تهاني قيادته بانتخاب الدكتور بشّار الأسد رئيساً. واضح ان دمشق ترحب بالتوجه العراقي نحو الانفتاح، واستجابت طلباته من أجل علاقات أفضل على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، وحتى على الصعيد السياسي إذا ما حزمت بغداد أمرها وهيأت لاستعادة العلاقات مع سورية كما مع غيرها من الدول العربية. وتعد المبادرة العراقية بتهنئة الدكتور بشار الأسد بادرة لها مغزى عميق في هذا المنحى. وسبق لدمشق أن أعربت بوضوح خلال هذه السنة عن رغبتها في تحسين علاقاتها مع كل الدول العربية وعن سعيها إلى اللارتقاء بهذه العلاقات سواء بما يخدم العلاقات الثنائية ويعززها، أو بما يفيد مجمل الوضع العربي. وفي هذا الاطار شدد المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث الحاكم في سورية في بيانه الختامي في حزيران يونيو الماضي على ضرورة "تفعيل التضامن العربي والعمل العربي المشترك لبناء نظام عربي جديد يشارك فيه الجميع وتحترم فيه مصلحة كل قطر عربي بما يخدم المصلحة القومية العليا". وحيا المؤتمر "الجهود التي بذلتها سورية لاحتواء الوضع في العراق ومعالجة آثاره السلبية على العلاقات بين الدول العربية". وأكد "ضرورة إزالة معاناة الشعب العراقي الشقيق نتيجة الحصار المفروض عليه ورفض المحاولات الرامية الى تفكيك العراق والتأكيد على وحدته الوطنية وتكامل أراضيه". وأكد الرئيس السوري في خطاب القسم في السابع عشر من تموز يوليو الماضي عزم بلاده على تعزيز العلاقات مع الدول العربية الشقيقة على كل المستويات، وعلى أهمية تفعيل الاتفاقات الاقتصادية العربية القائمة والسعي الدائم إلى إقامة نواة حقيقية للسوق العربية المشتركة كحد أدنى للحفاظ على ما بقي من آمال في اقامة علاقات عربية سليمة. وقال: "على رغم هذا الواقع المتردي للعلاقات بين الدول العربية والذي يدفع بعضهم للتشاؤم وبعضهم الآخر إلى الاحباط، يجب ألا ينتابنا اليأس من امكان تحقيق خرق في هذا الاتجاه، وان لا نسلم بالواقع الحالي أو نستكين له، بل لا بد من مبادرات وقائية أو علاجية لا تستند الى حسابات الربح والخسارة على المستوى القطري بل على المستوى القومي، أي على أساس لنربح معاً بشكل جماعي فهذا سيزيد من امكان الربح الاحادي، اضافة الى الاستناد في هذه المبادرات الى منطق الكرامة القومية والأخلاق والقيم العربية"، وأضاف: "نحن في سورية سنبقى كما كنا واعين وداعمين أية خطوة تضامن تصب في المصلحة العليا للأمة العربية ولا سيما منها تلك التي تؤدي الى تعزيز نقاط الالتقاء والاتفاق بين الأقطار العربية، مما يساهم في إضعاف نقاط الاختلاف والتفرقة ويمهد الطريق أمام حد معقول من العلاقات المثمرة بين هذه الدول في مرحلة أولى ويهيئ لمستقبل أفضل لها في مراحل لاحقة". لعل ما يساعد العاصمتين ويدفع بهما نحو علاقات سياسية واقتصادية أفضل تحقق المأمول من مصالح مشتركة للشعبين، هو الابتعاد الملحوظ من قبلهما أكثر فأكثر عن المضمون الايديولوجي لخطابهما السياسي والاعلامي وتغليبهما السياسي على الايديولوجي والمصالح المشتركة على غيرها من عوامل اختلاف باتت جزءاً من الماضي، وشراً على المستقبل المنشود لعلاقات طبيعية بين بلدين شقيقين وجارين هما من أهم البلدان العربية في المشرق وركيزة أساسية لأي مستقبل عربي من أي منظور كان. * كاتب فلسطيني، دمشق