"أما نحن الصحافيين، فلا ندري إذا كان لنا رأي في الحالة الحاضرة، أو إذا كنت أيها المسيو سلومياك تعتبر رأينا، ولا سيما ان اقوالنا في جرائدنا لا تبرهن على اننا قوم من أصحاب الرأي. فنحن كما تجري الرياح نجري. لا يهمنا سوى تغذية جيوبنا. أما المبدأ، أما الثبات على خطة ما، أما الصدق والاستقامة وعدم الاعتماد على وسائط النصب والاحتيال والطعن والهجاء، فهذا نرجوك أن لا تسألنا عنه. ونفيدكم بالمناسبة اننا متحدون متفقون على أن لا نتّحد ولا نتفق". ما تقدّم بعض افتتاحية من جريدة "التقدم" الحلبية التي دشّن سعيد فريحه حياته الصحافية فيها، وقد قفز بسرعة من صفحاتها الداخلية إلى صفحتها الأولى، لأسباب عدة منها، بل أهمها، موهبته في السخرية. صحيح انه راسل من الشهباء بعض الدوريات اللبنانية ومنها "الصحافي التائه" لاسكندر الرياشي، وأخذ فيها راحته في الكتابة السّاخرة. ولكن طموحه كان في الانتقال من محرر في جريدة إلى صاحب مجلة. لذلك عاد من حلب إلى مسقط رأسه بيروت، ليحقق حلمين معاً دفعة واحدة: حلم استقلال لبنان، وحلم إصدار "الصياد" حيث ظهر العدد الأول منها في مطلع كانون الأول ديسمبر 1943، أي بعد أسبوع من إعلان الإستقلال. كان سعيد طفراناً، والصحافة تمر في أشد أزماتها... "فالورق أندر من الذهب، وأغلى من البنكنوت، ومرتب العامل يوازي مرتب رئيس ديوان في الحكومة. أما تكاليف الرسم والحفر والطباعة والتحرير وشحوار النيل، فحدّث عنها ولا حرج. ان ظهور السادة صحناوي وكتّانه وحاييم نتائيل تستطيع وحدها أن تصمد تحت أثقالها. أما ظهر الداعي فأوهى وأعجز من أن يتحمل هذه النفقات الضخمة". أضاف فريحه في افتتاحية العدد الأول منتقلاً إلى تحديد هوية مجلته: "سنحرص في "الصياد" على تقديم لون جديد من ألوان النشاط الصحفي، والفن الصحفي، فنعالج الأشياء بوخز الابر لا بضرب النبوت، وبلغة تفهم وتهضم، لا بلغة تسبّب انتفاخ الكبد". كان لا بد من أن يستضيف التلميذ أستاذه في أحد الأعداد الأولى. فقد احتلت احدى صفحات العدد الثالث الصادر في 15 كانون الأول 1943 مقالة بعنوان "رأي اسكندر الرياشي في تلميذه... ورأي التلميذ في أستاذه الكبير". ومما قاله الرياشي "ان الصياد أعطانا معرضاً فكهاً صريحاً جميلاً جديداً عن كل شيء عندنا. وليس الشيء غريباً طالما سعيد فريحه لا يحب السترة. ومن المنتظر ان يكون الصياد كاشف العيوب، فاجراً، ولكن لخدمة هذه الأمة ولتفكهة الناس. ولا يترك لأحد ستراً مغطى". وعلّق فريحه في النصف العمود الأخير قائلاً: "نحن نفتخر ولا ريب بأننا من تلامذة اسكندر. ولكن على اسكندر من جهته ان يفتخر بتلميذه الذي اقتبس عنه أبرز المواهب وأرذل التعاليم". ولو كانت المساحة عموداً كاملاً، لأضاف فريحه انه أيضاً اقتبس عن الرياشي أسلوب التكلم بصيغة الجمع التي اشتهر بها، حيث حلّت "نحن" و"اننا" محلّ "انا". كان الصحافي الراحل جبران حايك، صاحب "لسان الحال" طالباً في استعدادية الجامعة الأميركية. لم تعجبه المجلة. فكتب رسالة لصاحبها ضمّنها عبارات من عيار "تباً لمجلة الصياد التي تضيع وقتي". نشر فريحه مقاطع من الرسالة في 12 نيسان ابريل 1944 وذيّلها بتعليق قال فيه لصاحبها: "أما ان تكون وقحاً وقليل التهذيب، فهذا أمر لا شك فيه. ولكن أن تكون طالباً في الجامعة الأميركية، فهذا أمر مشكوك فيه جداً، لأن هذه الجامعة لم تعوّدنا ان تستقبل هذا النوع من الطلاب". ولكن العدد اللاحق من المجلة تضمن خبراً ودعوة. أما الخبر فيفيد ان "الصياد" تلقت "رسالة لطيفة من الطالب الأديب السيد جبران حايك يثبت فيها حسن نيته ويزيل سوء التفاهم". لذلك تلقى دعوة "إلى شرب فنجان قهوة سكّر زيادة بنّ خفيف، في ادارة المجلة". أما العدد الصادر في 26 كانون الثاني يناير 1944 فقد حفل بالريبورتاجات المثيرة والطريفة. ولا بأس من التوقف عند اثنين منها. تحت عنوان "التوأمان مصطفى وعلي أمين" قال فريحه ان مصطفى تحدى رياض الصلح إذا هو استطاع تمييزه عن أخيه علي. وقَبِل رئيس الحكومة التحدي. بعد أشهر، زار الصلح القاهرة، فجاءه علي إلى فندق "شبرد" لتحيته. فقال له رياض "أهلاً بمصطفى. أين علي"؟ فضحك التوأم وقال: "العفو يا صاحب الدولة... أنا علي". أضاف فريحه ان الأمر التبس على غير رياض بك بسبب قوة الشبه بين التوأمين، من الضحكة إلى القامة والضخامة، إلى الحركات والقفشات. ومن قفشاتها ان احدى الصديقات أرادت "أن تقبّل عليّاً، فأعطاها مصطفى شفتيه وخديه من دون أن يقول لها انت غلطانة يا ست". تُوّج الريبورتاج الثاني بمانشيت "مع بديعة مصابني في حديقة الحيوانات". فقد دعت الفنانة الحلبية الأصل سعيد فريحه وحنا غصن إلى جنينة الحيوانات في القاهرة، ومضت بهما تواً إلى قسم القرود وقالت: "أنتم مشتاقون طبعاًَ"! وحين وصلوا إلى قفص الأسود قالت لسعيد: "امشِ طوالي، انت ما لكش دعوى هنا". وهكذا استمرت بديعة "في التنكيت والتشنيع وأنا عاجز عن رد التحية، إلى أن وصلنا أمام قفص الأفاعي، فسألت القائم على العناية بها: "الأفعى اللعينة السودا راحت فين يا جدع"؟ فأجابها فوراً: "راحت فتحت صالة في ميدان الأوبرا يا ست". ولما كان المقصود صالة بديعة مصابني، فقد اعتبر فريحه جواب الجدع "نكتة لاذعة جداً استحق عليها الرجل مني عشرة صاغ". كان سعيد تقي الدين في الفيلبين منذ صدور "الصياد" حتى قرار عودته في مطلع العام 1948. وكعادته، شاء أن يعود بطبل وزمر، فراح يرسل المقالات إلى مجموعة من الدوريات البيروتية، ومنها "الصياد". في 11 كانون الأول نشرت له "الصياد" مجموعة خواطر أو رفات أجنحة، قال في احداها: "حينما تريد أن تهدي شيئاً ثميناً لصديق مغترب، لا ترسل تنكة حلاوة. ابعث له بجريدة، ولكن لا تنسَ ان تدفع الاشتراك". والجدير ان هدية الحلاوة في هاتيك الأعوام كانت أثمن الهدايا بالنسبة إلى المغتربين. وقال في الرفة الثانية: "مسكينة تلك الأم التي فقدت ولديها: أولهما مات، والثاني انتخب نائباً". ولما وصل إلى القاهرة في رحلة العودة، أجرى معه "شمدص جهجاه" مقابلة صحافية نشرتها الصياد في 18 آذار مارس 1948، وورد فيها الحوار الآتي: لو حلّل لك قتل رجل فبمن تفتك؟ - بسعيد فريحه! ولماذا؟ - لأن الانسان مثل الغول أحياناً... يقتل الذين يحبهم! والطريف ان "شمدص جهجاه" ليس سوى شخصية كاريكاتورية اخترعها سعيد تقي الدين ووظفها في الكثير من مقالاته ومسرحياته. * كاتب لبناني.