يشيِّد الكاتب محب جميل في كتابه «فتحية أحمد... مطربة القطرين» (دار الجديد، بيروت) جدارية تاريخية حول مغنية كانت حياتها أقرب إلى اللغز. عاشت فتحية أحمد بين مفارقة الحضور الفذ والرغبة في الترحال ومنافسة مطربات عصرها وفي مقدمهن أم كلثوم، وبين انسحاب مفاجئ وإفراط في الاحتجاب. ويشعر متصفح الكتاب بالجهد الذي بذله الكاتب في جمع شتات مادته التاريخية نظراً إلى سوء حال الأرشيفات الصحافية في مصر. سعى جميل إلى ترميم الفجوات المرتبطة بسيرة مغنيته، لكنه لم يجب على تساؤلات كثيرة، ومزج مادته «التقريرية» بكثير من الصور الشخصية النادرة والإعلانات الحافلة بالإشارات والعلامات عن المغنية التي رأى عباس العقاد أن صوتها «يمثلها تمثيلاً عجيباً في البساطة والطيبة وراحة القلب والصراحة». ويرجح جميل أن بطلة كتابه ولدت بين 1905 و1908 في حي الخرنفش في القاهرة، «وسط محيط أسري يعشق الفن ويقدره»، فهي شقيقة مطربة معروفة هي رتيبة أحمد وقريبة راقصة ذائعة الصيت هي بمبة كشَّر. عملت في مسرح نجيب الريحاني وغنت وهي لا تزال طفلة بين فصول مسرحيته «حَمَار وحلاوة» في موسم عام 1918. وعملت كذلك مع أمين صدقي وعلي الكسار، وحلت في بعض المسرحيات محل المغنية ذائعة الصيت منيرة المهدية ضمن فرقة «دار التمثيل العربي»، التي طافت معها بلاد الشام بين 1921 و1925. عقب عودتها إلى القاهرة التحقت مجدداً بفرقة أمين صدقي، ولكن براتب خرافي قياساً لأسعار تلك الفترة وهو 170 جنيهاً شهرياً، وهو أجر فاق ما كان يتقاضاه المطرب محمد عبدالوهاب الذي شاركها العمل في الفرقة ذاتها مع داوود حسني وبديعة مصابني وفاطمة رشدي. من 1927 إلى 1934 توقفت فتحية أحمد عن المشاركة في المسرحيات واكتفت بمرافقة تختها الغنائي بين فصول بعض الأوبريتات والاسكتشات الفكاهية التي كانت تقدم آنذاك في الصالات والمسارح وأبرزها صالة بديعة مصابني التي كانت أكبر منصات إطلاق نجوم ونجمات تلك الفترة. ويعتمد محب جميل على مذكرات مصابني لإعطاء الملامح العامة لتجربة فتحية أحمد معها والتي لم تكن ناجحة تماماً. وتمثل أوبريت «يوم القيامة» التي قدمتها فتحية أحمد مع الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى عام 1944 نهاية لعهدها مع المسرح الغنائي، وقدمت خلالها الطقطوقة الغنائية الشهيرة «يا حلاوة الدنيا» من تلحين زكريا أحمد. وعلى رغم تحول نجمات تلك الفترة للعمل في السينما، فإن محب جميل لم يقدم تفسيراً لعزوف فتحية أحمد عن ارتياد هذا المجال على رغم مشاركتها بصوتها فقط كمغنية في أفلام «حنان» مع إبراهيم حمودة وتحية كاريوكا و «أحلام الشباب» مع فريد الأطرش، و «عايدة» مع أم كلثوم. وتبدو قصة المنافسة بين فتحية أحمد وأم كلثوم في حاجة إلى جهد أكبر في الكتاب خاصة وهو يتوقف أمامها في أكثر من موضع منها إشارة قدمها أحد النقاد الذين رأوا أن أم كلثوم حمّلت فشل فيلمها «عايدة» لمشاركة فتحية أحمد فيه. ولا يقدم الكتاب تفسيراً للمنافسة بين المغنيتين حتى وهو يخصص الجزء الأخير لما عرضته الصحافة من صراعات بينهما حتى في الألقاب. فبينما حملت أم كلثوم لقب «كوكب الشرق» اتخذت فتحية أحمد لقب «مطربة القطرين» وسبقت أم كلثوم في الترتيب، ونالت لقب أفضل مغنية في استفتاء لمجلة «روزاليوسف» في أيار (مايو) 1926. ويبقى فصل تحولات صوت فتحية أحمد وسيرته مع ملحنين من أهم فصول الكتاب، إذ يوثق غناءها من ألحان سيد درويش وأبوالعلا محمد وصبري النجريدي وداوود حسني ومحمد القصبجي وزكريا أحمد وصَفَر علي ورياض السنباطي، وذلك في سياق الإشارة للتحولات التي أوجدتها نشأة الإذاعة المصرية في الوسط الغنائي المصري، لافتاً إلى أن فتحية نجحت كمغنية مقتدرة في تأكيد حضورها واهتمت عبر أغنياتها بالقدرة على التطريب وإبراز الزخارف الموسيقية للحن الذي تؤديه، لأن الطبقة الوسطى في صوتها اتسمت بمرونة عالية، بخلاف ولعها بأداء الموال الشعبي لحد أنها وصفت ب «ملكة المواويل». ويخصص الكتاب فصلاً مطولاً لما أوجدته ثورة تموز (يوليو) 1952 من تغييرات سياسية واجتماعية شملت معها المزاج الغنائي الذي مضى وراء تلبية نزعات «الجماهير الغفيرة» وأعطى المجال واسعاً لأصوات من نوعية مختلفة مثل شادية وعبدالحليم حافظ، لكن هذا التغير لم يؤثر على مكانة محمد عبدالوهاب وأم كلثوم اللذين وسعا من نفوذهما، فيما لم تكن الظروف الشخصية لفتحية أحمد «مستقرة إجمالاً» بسبب انفصالها عن زوجها وانتقالها للعيش في الإسكندرية. لكن ذلك لم يمنعها أيضاً من معايشة الحدث السياسي الكبير وتقديم أغنيات داعمة لثورة الضباط الأحرار. وفي تلك السنوات تعاونت مع الملحن أحمد صدقي في نحو 14 لحناً جمعت بين سلاسة الإيقاع ورصانة النغم بتعبير المؤلف كما لم تغب عن الغناء الوطني الذي طبع تلك المرحلة بسبب الصدام مع الغرب وقدمت مع محمد الموجي قصيدة «أرض الوطن» من شعر محمد الفيتوري، و «نشيد الجلاء» من شعر محمود حسن إسماعيل. كما تعاونت مع ملحنين وثيقي الارتباط بالفولكور الشعبي مثل أحمد عبدالقادر ومحمود الشريف. وظلت فتحية أحمد حاضرة بقوة حتى نهاية الخمسينات غير أن اشتداد مرض السكري عليها والتقدم في العمر حالا دون استمرارها في الغناء واضطرت للانسحاب في هدوء، ونالت معاشاً استثنائياً من الدولة للإنفاق على نفسها، وأصرت على البقاء في منزلها حتى وفاتها داخل شقتها في شارع عدلي في القاهرة في 5 كانون الأول (ديسمبر) 1975.