كان نقيب الصحافة اللبنانية الراحل اسكندر الرياشي ساخراً بالفطرة. لذلك حفلت جريدته "الصحافي التائه" التي أصدرها في زحلة بتاريخ 28 أيلول سبتمبر 1922 بالافتتاحيات والريبورتاجات والأخبار السّاخرة، مع انه لم يعلن انه بصدد مطبوعة فكاهية. وفي المقابل، يطلق بعض الزملاء أسماء ساخرة على دورياتهم، ولكن قراءهم يجدونها اسماً على غير مسمى، لأن أصحابها أو رؤساء تحريرها يتكلّفون السخرية. لذلك، يتحول الموضوع الجافّ في "الصحافي التائه" الى كلمات طريفة خفيفة الدم، كما جرى في العدد 13 الصادر في 12 تشرين الثاني نوفمبر 1992. فتحت عنوان "الدولار ملك المال" نقرأ في سياق المقال الاقتصادي المالي ان الدولار "عقد مؤتمراً في نيويورك دعا اليه مندوبين عن جميع أجناس العملة في العالم... ودخل حينئذ الفرنك الفرنساوي يرقص رقصة التانغو وقد أسند ذراعه الى ذراع امرأة شائقة الجمال كما هي عادته في كل حين. فانتهره الدولار غاضباً وقال: إعلم ايها الفرنك انك في حضرة ملك المال الدولار الأميركي، وانك في حضرة سيدة المال الليرة الانكليزية، فتأدبْ. فقهقه الفرنك وقال: إيه يا دولار انت شلالوب على الناس وشلالوب عليّ أيضاً؟ نحن نعرف بعضنا. فإن كانت قيمتك في عالم المال كبيرة، فإن قيمتي في عالم السياسة والأدب أكبر". رد الدولار: "ولكنها قيمة زهيدة جداً اليوم". أجاب الفرنك: "نعم، ولكن يا جلالة الدولار، أدخل الى مجتمعكم العامر راقصاً ضاحكاً وقد رافقتني هذه الجميلة لأنني اعتقد ان جمال النساء ينسيك جمال المال". كانت الصحف في الماضي تنشر رسائل تتضمن طلباً للزواج. ولم تشذ "الصحافي التائه" عن القاعدة في نشر مثل هذه الرسائل. ولكنها تميّزت عن رصيفاتها في تعليقات المحرر على الرسالة. خذ مثلاً الرسالة المنشورة في 15 تشرين الثاني 1922 التي كتبتها دعد. ك وقالت فيها: "أنا فتاة في الخامسة والعشرين. متوسطة الحال. لا جميلة ولا غنية. أريد رفيقاً لحياتي حائزاً على الشروط التالية: يكون في الثلاثين من عمره. له كل الصفات الحسنة. يجب ان يترك عمله عند المساء ليأتي لبيته. وأن يكون أحسن حالاً مني". وعلَّق الرياشي في أسفل الرسالة: "انني لو وجدت شاباً له الصفات التي تطلبينها، لذهبت حالاً، وأنا حامل كيسَيْ ملح لتحت قوس القزح، ولصرت فتاة جميلة، ولأخذته أنا". ويذكر ان الأسطورة اللبنانية كانت تفيد ان كل من يحمل كيسين من الملح ويمرّ تحت قوس البهاء، يتغير جنسه. طبعاً، كان الرياشي يضاعف من نقده الفكاهي اللاذع، عندما يتناول السياسة والسّاسة. وشاءت المصادفة في أواخر العام 1922 أن يزور الثري اللبناني المتمصّر الأمير حبيب لطف الله بيروت برفقة الصحافي الشهير سليم سركيس والديبلوماسي توفيق اليازجي اللذين روّجا فكرة ترشحه لرئاسة الجمهورية. كتب الرياشي في العدد 28 الصادر في 10 كانون الثاني يناير 1923 تعليقاً لاذعاً انتقد فيه الفرسان الثلاثة، وقد تساءل في سياقه: "لماذا أحاط سركيس واليازجي وغيرهما بالأمير حبيب لطف الله؟ ألشدة المبادئ، أو لكثرة ماله"؟ لم يكن سليم سركيس الزميل الوحيد الذي انتقده الرياشي. فقد شمل بعطف سخريته معظم زملائه. وعلى سبيل المثال، فإنه صبّ جام سخريته على جبران تويني صاحب "الأحرار" وقتذاك، وميشال زكور صاحب "المعرض". ففي احدى حلقات "مذكرات جودكس" قال الرياشي: "لا بد ان جبران تويني يعتقد ان الأزمة الوزارية الحالية في لبنان هي من صنع يديه، كما يعتقد النائب زكور ان معظم الانتحار بين نساء العالم انما هو بسبب قسوة قلبه. لهذا ترى جبران تويني من جهة وزكور من جهة، فوق الريح، يتنقلان في مصيف عاليه وكل منهما يده في جيبه زي أولاد الذوات كما تقول روز اليوسف. في حين لا يجب ان ننسب الأزمة الوزارية لجبران تويني، كما انه لا يجب ان ننسب انتحارات النساء في العالم لعدم قبول الاستاذ زكور مشاطرتهن الفراش". الصحافي التائه - 19 أيلول 1929. وتحت عنوان "كذّابان خلاطان مع انهما نابغتان وعبقريان" انتقد الرياشي زميليه جورج نقاش وجبرائيل خباز حيث قال في العدد الصادر في 16 كانون الأول ديسمبر 1929: "إذا كان في كل مرة تأكل فيها الأوريان هوا، علينا ان نجيب، فقد نقضي العمر بالجواب لأن الأوريان تأكل هوا كثير، وغالباً". وأضاف خاتماً: "من يستطيع ان يقلب الأحمر أسود والأسود أحمر كما يفعل الخباز والنقاش نحن من المعجبين به، نقف أمامه باحترام. فالرجل لا يحترم فقط الذين أفضل منه، بل يحترم أيضاً الذين أرذل منه". كانت الجريدة السّاخرة قبلة أنظار محبي الفكاهة وبخاصة الكتّاب. في الثلاثينات من القرن الماضي، كان الصحافي الساخر الناشئ سعيد فريحه مقيماً في حلب، ويعمل في جريدة "التقدم" لصاحبها شكري كنيدر. وسرعان ما وقّع فريحة عقداً مع الرياشي من أجل مراسلته من الشهباء، ليس لأنه ساخر مثله فقط، بل لأنه يكتب عن الجنس اللطيف أكثر منه. لذلك توّج الرياشي الرسالة الأولى المعنونة "كاسات هوا" بالمقدمة الآتية: "لزيادة تفكهة وفائدة القراء، جئنا لهم بالريبورتر الممتاز النبيه سعيد فريحة يحدثهم في كل عدد عن الحياة العاطفية في حلب الشهباء حيث اكتسب جنابه علوماً وفنوناً جديدة في ميادين المغامرات. ولا شك انه سيوافينا بالحوادث العاطفية المحلية التي لا تزال تذكر غرام مليكها سيف الدولة المدهش الغريب بأميرة الروم الفاتنة الجمال". وكان فريحة عند حسن ظن الرياشي. ذلك ان ريبورتاجاته عن الحسناوات ومعهن، تواصلت بصورة دورية، وقد قابل في أحدها "أفسق امرأة بحلب" وهي الخاتونة أنابيس، حيث نشرت المقابلة في العدد 58 الصادر في 26 آذار مارس 1935. قال فريحة للقوادة: "إذا خالفتِ الأوامر ماذا يكون جزاؤك"؟ أجابت: "تنذرني الحكومة أولاً. واذا أعدت الكرّة تغلق بيتي". وختم قائلاً: "إذن أنتِ أسعد من اصحاب الجرائد يا مدام أنابيس. فالحكومة تغلق الجريدة دون ان تنذرها". بقي فريحة مراسلاً ل"الصحافي التائه" حتى عودته الى بيروت ومباشرته في اصدار مجلته "الصياد". وكما جرت العادة، طلب من أصدقائه السياسيين والصحافيين كتابة شيء في الأعداد الأولى ومنهم معلّمه اسكندر الرياشي، ولكنه تمنى عليه لو تتمحور كلمته حول المال الذي كان يتلقاه من تحت الطاولة. ولبّى الرياشي الطلب بلا حرج فكانت مقالته بعنوان "أكبر قبضة قبضتها في حياتي". وبعد ان عدد بعض الصفقات ختم متسائلاً: "انما لماذا طلب صاحب مجلة "الصياد" تلميذنا الطاهر أن أحدثه عن مقبوضاتي؟ لعله اعتقد أنه سيأخذ عني دروساً جديدة! وهو كما نعلم أصبح أستاذاً في هذا الفن، وأصبح استاذه تلميذاً". * كاتب لبناني.