عشية القرن الحادي والعشرين، يبدو المجتمع المتحدر من مرحلة ما بعد الحرب الباردة، مستقراً بشكل مريح في نوع من الامتثالية الأبدية التي تضفي عليه سمات "المنتج الخالص". والحال أن الإطار الاجتماعي - الاقتصادي للحظتنا الراهنة هذه، يتطور في نسق يبدو محتماً ولا يمكن تدميره. ومع هذا قد ينبغي علينا أن نلاحظ ضروب المعاناة والمخاوف المصمّمة التي تثيرها آفاق المستقبل، تلك التي تترجم، خصوصاً، على شكل انطواء على الهوية من أي نوع كان، وعلى شكل لجوء إلا اللاعقلاني، وردود فعل رجعية سلفية. وفي خضم هذا كله تبرز تساؤلات كثيرة ناتجة عن فقدان نقاط الارتكاز الثابتة والمرجعية. من هنا يبدو لنا اليوم أن الوقت قد حان لبروز الأجوبة وبكثرة. فإذا كانت سنوات التسعين قد انطبعت ببروز التحليلات والدراسات التي تتناول الحقائق الناتجة عن سقوط العالم الشيوعي، ما جعل ممكناً بروز عدد من المسائل المتعلقة بالمستقبل وظهور أدب تساؤلات واضح، فإن المرحلة التي نعيشها الآن، عشية الألفية الجديدة، تبدو لنا، على العكس من ذلك، متسمة بتأكيدات قاطعة تنتج عن تأمل صارخ لعقد بكامله من الأحداث الصاخبة. من هنا بدأت النشاطات النظرية والفكرية انطلاقتها الجديدة، وتبدو لنا اليوم حبل بالآفاق المستقبلية. وفي هذا الإطار ثمة اليوم محاولات تفسيرية نظرية عديدة تحاول تحليل الواقع الراهن القائم بعد سقوط المنظومة السوفياتية، وذلك بهدف توقع ما سوف يأتي به المستقبل. وفي هذا المجال يمكننا أن نذكر مساهمتين دالتين تحملان توقيعي جان فرانسوا كان وجاك آتالي، المفكرين الفرنسيين اللذين يحاولان، عبر كتابات راهنة لهما، أن يأتيا بأجوبة، مختلفة طبعاً، تتعلق بالمستقبل القريب وبالتطور الذي سيكون من نصيب مجتمعنا... ان ما لدينا هنا، بالإجمال، تفسيرين متعارضين بالمطلق لكنهما، في نهاية الأمر، يجتمعان من حول قاسم مشترك يقول أن المجتمع الليبرالي لم يعد في امكانه أن يتابع تطوره في عالم مثالي من دون أن يصاب بردة فعل سوف تنتهي بالإضرار به. وهكذا، كل على طريقه، يعلن الكاتبان ولادة الثورة! نحن هنا بعيدون، طبعاً، عن فكرة "نهاية التاريخ" التي وسمت الانتصار المعلق لليبرالية الديموقراطية، والتي كان الهيغلي فرانسيس نوكدياما قد أعلن عنها وبشّر بها. ففي حالة آتالي، كما في حالة ح.ف.ك كان، يبدو من الواضح لنا أن النظام القائم حالياً لا يمكنه أن يدوم الى ما لا نهاية، حيث أن الواقع الراهن ينذر، من دون أدنى ريب، بانقلاب قريب وجذري. ومعنى هذا أن غائية تحليلاتهما النظرية تستجيب الى هدف مشترك وهو تلمس ما يجعل في امكاننا، عبر رصد الواقع الراهن، أن نرصد التغيرات والتبدلات العميقة التي تشتعل حالياً والتي ستتطور حتى تؤدي الى قيام الثورة المقبلة. غير أن ما يفرق بين تحليلي الكاتبين انما هي الوسائل التحليلية والتبريرية التي يتوصل عبرها كل منهما الى الحديث عن الثورة المفترضة. جاك آتالي، الكاتب المعروف ونصير فرانسوا ميتران المتحمس، أصدر أواخر العام الفائت دراسة سوسيولوجية عنوانها "الأخوة، يوتوبيا جديدة"، تحدث فيها عن واقع ان "التلذذ بسعادة الآخرين" سوف يكوّن اليوتوبيا البشرية المقبلة، وهكذا، بعد مفاهيم الخلود والحرية والمساواة، نصل أخيراً الى مفهوم الأخوة بوصفه مشروعاً يوتوبياً. وفي رأي آتالي ان هذه الأخوة، التي بدأت بالفعل تفرض حضورها، سوف تكون العامل الأساس في الثورة المقبلة والقريبة. وهي ذات فرادة من حيث أن الأخوة تشكل التوليفة المثالية بين الحرية والمساواة. بالنظر الى أنها اليوتوبيا الوحيدة الملموسة والقادرة على المصالحة بين القيم المتعارضة - أو بالأحرى، التي تمكن تاريخ القرنين الأخيرين من وضعها موضع التعارض فيما بينها. ويرى المؤلف أنه باعتبار أنه، مع عولمة الأسواق، من المؤكد وبالضرورة أن النشاطات اللاقانونية والاجرائية سوف تثمر في نهايج الأمر وتتخذ طابعاً مؤسساتياً، أما نتائج هذا التطور الحتمي للاقتصاد العالمي، فإنها سوف تشمل كافة المستويات وتطاول كافة المجالات سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو جيو - سياسية أو علمية أو تكنولوجية. وما يبدو واضحاً، بالتالي، في وسط هذا الخليط الذي نعيش في أحضانه اليوم، هو أن السوق التي سوف تخلق شروط دمارها الخاص. ان آتالي يريد لدراسته أن تكون أكثر من مجرد مساهمة نظرية تستند الى مفهوم اليوتوبيا وقد أعيد اليه اعتباره. آتالي يقترح علينا برنامج عمل يقوم على مبدأ الأخوة ويتألف من عشرة اجراءات يمكن عرضها على حكومة ما وبدء تنفيذها منذ الآن. وهو في هذا السياق يلح على اضفاء طابع الصدقية على اليوتوبيا عبر النظر اليها بوصفها خيطاً لا غنى عنه ولا مفر من الإمساك به يقود كل مشروع ينزع الى تطوير المجتمع. وهو لذلك ينكب على دراسج اليوتوبيات القديمة من أجل رسم حدودها وتعيينها. وعلى هذا النحو نراه،. إذ يدرس مفهوم الخلود بوصفه يوتوبيا، يلاحظ أن هذا المفهوم لم يبارح نهائياً بعد، المخيلة الجماعية، لكنه يلاحظ في الوقت نفسه أن هذه اليوتوبيا "ليست في حقيقة أمرها سوى منتوج ثانوي الأهمية من منتوجات يوتوبيا الحرية". أما يوتوبيا الحرية، التي لطالما تخيل الحالمون وجودها حقيقة، فأنها تجعل الحرية كما تبدو اليوم، بالكاد قادرة على اخفاء أنها لا تؤدي الا الى تفاقم ضروب اللامساواة. وانطلاقاً من هذا الواقع فإن القرن الحادي والعشرين لن ينتهي قبل أن يشهد ثورة عامة يقوم بها الناس الأشد فقراً". بقي أن نقول هنا أنه لمن السهولة بمكان، ملاحظة الحدود الجلية التي ستؤدي اليها الاصلاحات المبنية على مبدأ المساواة، بالضرورة. وفي النهاية فإن تحليل جاك آتالي يختتم عبر ملاحظة ان هذه الأنواع الثلاثة من اليوتوبيات لن تؤدي الى الى الطريق المسدود. أما اليوتوبيا الجديدة هي الوحيدة الجديرة بأن يُعمل الفكر فيها في زمننا الراهن هذا. إذ أن الأخوة هي اليوتوبيا التي تشكل اليوم "الطريق الواقعي الوحيد الذي يمكن النوع البشري من البقاء". وهكذا، بعد ثلاثة قرون فيها "يوتوبيا" توماس مور ها هو جاك آتالي يقول لنا ان الأخوة تبدو في طريقها الى التحقق الملموس حتى "ولو أننا اليوم لا نزال في مرحلة ما قبل التاريخ بالنسبة الى لحظة تحققها". وانه لمن المفيد هنا أن نذكر بأن فرنسا - التي كانت رؤيوية أيام ثورتها - عليها اليوم، ضمن اطار هذا المشروع، أن تعطي المثل الصالح لأنها سبق لها أن نظمت تاريخها من حول كل واحدة من اليوتوبيات الكبرى. مهما يكن في الأمر فإن تحليل جاك آتالي يفسر حتمية مجيء الأخوة بشكل نظري من دون أن يحاول البحث في منهج ذلك المجيء، ضارباً الصفح عن مسألة تحديد الموقع الحقيقي للثورة المقبلة. وهذا النقص قد يكون من المناسب أن تقول بأن تحليل زميله جان فرانسوا كان يسده - ان كان يمكن اعتباره نقصاً -، خصوصاً وان تحليل هذا الأخير يبدو لنا أكثر تعقيداً أو تشكيكاً، هو الذي يتوجه في صلب موضوعه نحو مفهوم الوسطية. جان فرانسوا كان، وهو مثقف فرنسي ليبرالي ولا امتثالي، ويرأس تحرير مجلة "ماريان" الأسبوعية الشهيرة المضادة لواحدية الفكر، وهو نشر أواخر العام الفائت أيضاً كتاباً مباغتاً عنوانه "عن الثورة". وفي هذا الكتاب يبشر ح.ف.ك بقيام الثورة عما قريب. وهي، كما يراها، ثورة شاملة وانسانية الطابع في جذر أعماقها. ان هنا موضوعين تهيمنان على ما هو جوهري في تحليل كان" أولهما أن الثورة سوف تقوم من دون ثوار، لأن الثورة لا تفلت من المنطق الذي يهيمن وهيمن دائماً على الثورات التي عرفها التاريخ، المنطق القائل بأن الثورية هي حتماً ودائماً ضد الثورة. أما الموضوعة الثانية فتقوم على التأكيد الذي لا مراء فيه على أن قيام هذه الثورة المبشر بها، أمر حتمي لا مفر منه. والحال أن كان يلاحظ بأنه كان ثمة طرح دائم وحل دائم، بصيغ ثورية، لمشكلة الوسطية. واليوم، ما يوجد في الوسط، وبشكل حتمي، انما هو رأس المالي الحالي الذي نحج، أول ما نجح، في ابعاد الكائن البشري عن الوسط المركزي. بيد أن كل ثورة انما تبدأ عبر "التمرد، الواعي أو غير الواعي، على الوسطية". وكان يدرس ضمن اطار تحليله، مجمل الثورات الماضية من أجل ايجاد الشروط التي برزت من خلالها، وبالتالي من أجل تحديد الفاعل المسبب لها. وفي الأحوال كافة يجدر بنا أن نلاحظ ان الثوار النشطين المزعومين، إنما يسيرون دائماً عكس التيار، فيما نلاحظ ان المحافظين والمعتدلين هم وحدهم الذين يتسببون في حلول مواقف ثورية حقيقية. والتاريخ يبرهن لنا، بحسب نظرية كان، ان هذا الموقف الثوري يكون، تقليدياً، قيد العمل حين يصبح الدفاع عن المكتسبات في خطر، بمعنى أن ما يحدث دائماً هو أن رد الفعل الشعبي الدفاعي هو الذي يستثير الانقلاب الثوري، وليس الرغبة في اقامة نظام جديد. ومن ناحية أخرى يرى أن التطور التاريخي يبدو دائماً خاضعاً لسيطرة سيرورة "النبذ والجذب نحو الوسط"، بحيث أن حقبة ثوريج ما تأتي لتناسب مع كل تبدل في هذا السياق. واليوم من الواضح، بالنسبة الى الباحث، ان السرورة التي تشتغل في العمق، انما تنحو الى ابعاد الرأسمال عن الوسط المركزي لصالح اعادة مركزة للإنسان، وفي هذا الإطار يرى كان ان الثورة المقبلة ستكون متسمة بطابع انساني النزعة. أما حتمية هذه الثورة المبشّر بها فإنها لا تنبع من رهانات تأملية يقترحها المؤلف، بل من منطق تاريخي تكشف عنه دراسته لثورات القرون الماضية. وهو يستنتج من خلال هذا المنطق أنه حين تبدو فكرة الثورة نفسها بعيدة جداً - كما هي الحال اليوم - يدخل المجتمع في عصر ثوري دخولاً حقيقياً، لأن الثورة لا تنبثق إلا داخل الأنظمة التي كانت قد ولدتها. بحيث أنه ما أن يبدو على المثالية المطلقة انها قد توطدت، حتى يخيل الى الحكومات، الأكثر اصلاحية بشكل عام، انه قد صار في امكانها أن تتحرك من دون أن تعرض نفسها ووجودها الى الخطر، وهذا ما يجازف بأن يضع موضع البحث والخطر، المكتسبات التي لن ترضى الجماهير الشعبية فقدانها. وهكذا نرى كيف أن الثورة باتت حتمية، بحسب رأي الباحثين" بل انها بدأت بالفعل، وهي لن تتوقف عن النمو والتطور بحيث أن الأمر سينتهي بها الى تحطيم البنى القائمة. وهي، إذ تعيد وضع الإنسان في مكانه الصحيح، قد يكون من شأنها أن تخلق عالماً جديداً، قد لا يكون مثالياً بالضرورة. والواقع ان هذه التوقعات إنما يحث عليها واقع ان المجتمع، كما نعرفه اليوم، أي المجتمع الذي يطبعه نحو الاقتصاد الليبرالي والديموقراطية الرأسمالية، لن يمكنه أن يستمر في البغاء الى ما بعد القرن الحادي والعشرين.