في خريف 2016 أمضيت شهرا في مدينة فلورنسا بإيطاليا، باحثا في أحد المعاهد الثقافية، وأنفقت جلّ وقتي في زيارة المتاحف، والقصور القديمة، ومعارض الفنون، والأماكن الأثرية، ومن بين ما لفتني في ساحة القصر القديم، ساحة السيادة، حيث تنتصب عشرات التماثيل الكثيرة، نصب السلحفاة النحاسية الضخمة التي يمتطيها فارس، ويلجمها برسن مخففا اندفاعها، واسم النصب searching for utopia للفنان "جان فابر"، وهو مزيج من النحاس والسيليكون، وقد راق لي في فكرته وأسلوب تنفيذه، فتأملته كثيرا خلال زياراتي شبه اليومية للمكان، فهو يبطل مفهوم اليوتوبيا بتصوير البحث عنها بسلحفاة تدّب ببطء، ومع ذلك يتصوّر فارسها أنها متعجّلة، فيُكبح جماحها برسن من النحاس مشدود إلى قبضتيه. طال تأملي للفكرة الطريفة والشكل التعبيري لها، وقد وجدتني راغبا في استدعاء مفهوم اليوتوبيا كما مرّ بي من قراءاتي الفكرية والسياسية عسى أن يكون ذلك مفيدا للباحثين عن عالم اليوتوبيا. تحدّر لفظ "يوتوبيا" من اللعب على دلالتي كلمتين إغريقيتين: "مكان طيّب" و"لا مكان" و"المكان الخيالي"، وهذا هو المعنى الذي قصده " توماس مور" في كتابه "يوتوبيا" الذي قدّم فيه "صورة متكاملة لعالم مثالي، تختفي منه شرور عالم الواقع، وتتحقق فيه أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل"، وخلعه اسما لجزيرة نائية تقع فيما وراء البحار. ولم تخف دلالة اسم الشخصية الرئيسية في الكتاب "هيثلوادي" الرحّالة الذي استرسل في وصف تلك الجزيرة، وهو نظير "أوديسيوس" في ملحمة الأوديسة لهوميروس، فعلى الرغم من أن "هيثلوادي" ضليع باللغة اليونانية، ومتبحّر في العلوم والفلسفة، وعارف بثقافة الإغريق، وراجح الرأي في شؤون الدنيا، وخصم عنيد للظلم، والطمع، ومناصر للسعادة، والفضيلة، والعدل، بما يلمح إلى معرفته بجمهورية أفلاطون، فاسمه يحيل على متحدّث يهذي بما لا يعرف، فهو "الضليع بالتفاهات" أو "العالم بلغو الكلام"، فاليوتوبيا، والحال هذه، تحيل على "ماهو غير عملي، وغير واقعي، ومستحيل"، فهي من اختلاق رجل يهذر ويخلط. هذا هو المفهوم المتصل بالجذور الدلالية لكلمة يوتوبيا غير أنّ المفهوم تطوّر عبر التاريخ، فجرى التفريق بين اليوتوبيا بوصفها "مكانًا خياليًّا" وبينها من "حيث هي رغبة، ووصف، ومحاولة لخلق مجتمع أفضل"، وبالإجمال، تشير دلالة اليوتوبيا إلى "خيال مجتمع كامل يتأسّس على نقد اجتماعي من لدن مبتكريه لمجتمعهم الخاص، وهي، في الأغلب، توضع في المستقبل أو في عالم يختلف اختلافا بيّنا عن العالم الذي يعيش فيه من يكتبونها". فما أحرى بتبديد مفهوم المجتمعات الفاضلة من العالم قديمة وحديثة! فقد انبثق مفهوم "اليوتوبيا" للهروب من عالم الواقع، وتجاوزه إلى عالم أفضل، فهي عالم مواز للعالم الحقيقي تتحقق فيه المساواة، وتحترم فيه الرغبات، فيكون مرة مدينة فاضلة، أو فردوسا مفقودا، أو جمهورية مستحيلة. يتعذر انزال اليوتوبيا منزلة العالم الواقعي، فهي إنكار له، وتعريض به، وهي بالأحرى بديل متخيّل عنه، وذلك ما قصد إليه "مور" في كتابه الشائق "يوتوبيا" الذي اقترح ذلك العالم الخيالي للنيل من العالم الواقعي الذي كان يعيش فيه العقود الأولى من القرن السادس عشر. ويحسن الاستعانة بالتفريق الذي سنّه "بول ريكور" بين مقتضيات عالم اليوتوبيا ومقتضيات عالم الواقع، وذلك التفريق يضع العالمين في تعارض، وهو، في نهاية المطاف، تعارض بين اليوتوبيا والأيديولوجيا، فلأن مفهوم اليوتوبيا أداة سجالية، فهو ينتمي إلى حقل البلاغة، فيكون عنصر الانحراف أساسيا، لأن اليوتوبيا عدول عن العالم المعيش، وذلك مناظر للفارق بين العوالم المتخيلة في الآداب السردية والعوالم الواقعية. وكما تعمل الأيديولوجيا على مستويات ثلاثة: التشويه، وإضفاء الشرعية، والتعريف، تعمل اليوتوبيا، هي الأخرى، على ثلاثة مستويات: أولا، حيث تكون الأيديولوجيا تشويها تكون اليوتوبيا خيالا جامحا، ما يتعذّر تحققه البتّة، والخيال الجامح يتاخم الجنون. وثانيا، فيما تكون الأيديولوجيا إضفاء للشرعية، تكون اليوتوبيا بديلا عن السلطة القائمة. كل اليوتوبيات تسعى إلى ممارسة سلطة بأسلوب مغاير لطريقة ممارسة السلطة في الواقع. وفي مستوى ثالث، فكما أن أفضل وظائف الأيديولوجيا هي الحافظ على هوية شخص أو جماعة، فإن أفضل وظائف اليوتوبيا استكشاف الممكن. وظيفة اليوتوبيا في نهاية المطاف وظيفة اللامكان، تحقيق ما يتعذّر تحقيقه في الأرض.