في كتابه الشهير «مدينة الشمس»، تصوَّرَ الراهب الايطالي والمفكر النهضوي توماسو كامبانيلا واحدةً من المدن الفاضلة، التي لم يتوقف المفكرون عن الحديث عنها منذ «جمهورية» افلاطون حتى العصور الحديثة. مدن يقوم على إدارتها في شكل عام المفكرون، وتسعى الى خير مواطنيها تبعاً لأنظمة دقيقة وتبعاً لما يطالب به ذلك الخير العام. نعرف ان أيّاً من هذه المدن الفاضلة لم يتحقق، وان كان بعضها كَمِنَ في خلفية الدولة التي قامت، للمرة الاولى في تاريخ البشرية، على اساس منظومة فكرية تقودها جماعة (حزب) من الناس قاموا بثورتهم على اساس ان تؤدي الى قيام الدولة، فقامت الدولة لتكون الثورة اول ما يُطرد منها، وبالتالي يكون فكر الخير العام اول ما يُستبعد. نعني بهذه الدولة الاتحاد السوفياتي، الذي قام عبر ثورة قادها حزب كانت اليوتوبيات الاشتراكية بعض دعائم تأسيسه. اذاً، لم يحقق التاريخ أيَّ يوتوبيا من اليوتوبيات، ومع هذا لم يسأم المفكرون واصحاب الخيال، بل واصلوا سعيهم الفكري، وكان كتاب «مدينة الشمس» لكامبانيلا واحداً من ابرز نتاجاتهم واكثرها مدعاة للفخر، بالنظر الى ان الكنيسة في ذلك الزمن ألقت حُرْمَها على المؤلف، ما جعله يُسجن اكثر من عقدين ونصف العقد من السنين، من دون ان يتخلى هو عن فكرته التي وجدها اصحاب الكنيسة مسيئة الى البشر! المهم ان مدينة كامبانيلا الخيالية لم تدفن معه، او هذا على الاقل ما يفيدنا به الكاتب الفرنسي دانيال فاكسلير، الذي وضع منذ اكثر من عقدين من السنين تقريباً رواية عنوانها «متمرّدو الحرية»، قال انه اقتبس موضوعها من امر حصل بالفعل عند بداية القرن الثامن عشر في منطقة ساحلية نائية في جزيرة مدغشقر. وهذا الامر هو، بالتحديد، إقدام رجل دين ايطالي حرمته الكنيسة ونبيل فرنسي متمرد على طبقته وبلده، على تأسيس مدينة هناك طَبَّقا فيها على السكان وعلى مجموعات من الناس اصطحباها معهم، القواعدَ والاسسَ نفسَها التي بنى عليها توماسو كامبانيلا مدينته الفاضلة، ولقد سميت هذه الدولة - المدينة يومها باسم «ليبرتاليا». في الرواية تبدو الأحداث والشخصيات والعلاقات والافكار من صنع الخيال الروائي، غير ان فاكسلير يؤكد انه في الحقيقة لم يأت بأي شيء من عنده، بل إنه، وهو الصحافي الذي اشتهر بتحقيقاته، نقل ما روي اليه من اخبار تلك المدينة، وجمع اكبر قدر من المعلومات تمكّن من جمعه، ليعيد صوغ ذلك كله في شكل روائي... وكل هذا بقصد ان يتحدث في نهاية القرن العشرين عن تجربة استثنائية لعالم قام على المساواة وعلى افكار الخير العام، بعيداً من الانانية والتزاحم والحسد. الفكرة الاصلية التي انطلق منها الكاتب تكاد تتطابق مع اسلوب التفكير الذي طالما حكم اشتغال كبار اصحاب «المدن الفاضلة» على نصوصهم، بادئين دائماً بالزعم ان ما يروونه انما هو الحقائق التي نُمِيَتْ اليهم عن مدن زارها احد معارفهم وابلغهم خبرها. واذا كان فاكسلير يؤكد ان ما يرويه يستند الى الحقيقة، فلا يتعيّن علينا ان ننسى ان كامبانيلا في «مدينة الشمس» وأمثاله من اصحاب اليوتوبيات، اكدوا دائماً حقيقة الاخبار التي يروونها عن مدن يقدِّمونها للانسانية كمثال يحتذى. «ومع هذا، ثمة فارق اساسي يكمن في ان الناس الذين بنوا «ليبرتاليا» في مدغشقر، كانوا في الاصل من القراصنة، ارتضوا وضع انفسهم في تصرف الراهب المحروم والنبيل الثائر، انطلاقاً من توافقهم جميعاً على عدائهم لكل طاغية ولكل نوع من انواع الطغيان. والرواية تبدأ لدى فاكسلير بالراهب الأخ انجلو، الذي حكمت عليه الكنيسة بالحُرْم بسبب ذهنيته الاجتماعية، ما يجعله اكثر التصاقاً بالبائسين، ليدرك تدريجاً ان البؤس ليس قدراً بل هو صنيعة التفاوت الطبقي وجشع الشرائح المستغِلة في المجتمع. وهو كان منكبّاً على تطوير هذه الافكار حين التقى الضابط الشاب اوليفييه، الذي كان توصل الى الاستنتاجات نفسها، ورأى ان الصمت على ظلم الانسان لأخيه الانسان لم يعد ممكناً. وهكذا تجتمع ارادتان: ارادة الراهب في المساواة ورفع الظلم عن الناس، وارادة الضابط في المغامرة، ويقرران توحيد جهودهما وجهادهما. واذ يستقلان مركباً يتعين ان يقودهما الى حيث يمكنهما العثور على امكان تحقيق حلمهما المشترك، يخوضان فوق سطح المركب معركة بحرية تنتهي باستيلائهما عليه، وينضم اليهما المقاتلون، طمعاً في تحقيق المغانم اولاً، ولكن بعد ذلك عن قناعة فكرية. وسرعان ما تكثر المعارك التي يقودها الضابط بشجاعته والراهب بافكاره، ويزداد عدد انصارهما، خصوصاً بين القراصنة الذين ينضمون اليهما في معارك مشتركة، لا سيما ضد مراكب تجار الرقيق، حيث راحوا يعتقون العبيد بعد كل معركة وانتصار، فينضم معظمهم اليهم. وهكذا يتكوَّن فكرٌ للحركة وسيف، كما يصبح لها شعب حقيقي، ويتحول القراصنة والعبيد الى جنود يعملون من اجل الحرية وضد الاضطهاد والمضطهدين، ويجدون لانفسهم ذلك المكان النائي يرسِّخون فيه دولتهم العادلة. وبعد أن يقيموا تحالفاً مع ملكة جزيرة صغيرة غير بعيد من المكان الذي يقيمون فيه، يمكّنهم ذلك التحالف من الحصول على رفيقات لهم. في البداية يتبدى التعامل مع الرفيقات فظاً ووحشياً، لكن الراهب والضابط سرعان ما يعلّمان اولئك الأجلاف كيفية احترام المرأة واعتبارها شريكاً لا مطية. وهكذا تكتمل، في هذه المدينة الفاضلة، كل عناصر التقدم ورفعة الانسان: فالعنصرية لا وجود لها طالما ان الفئات المتساوية هنا في السراء والضراء تنتمي الى شتى الاعراق والاجناس من دون تفريق، والطبقية تختفي تماماً طالما ان الكل يعمل ويشارك في حياة المدينة للحصول على ما هو في حاجة اليه، والتمييز الجنسي ضد المرأة يختفي تماماً وسط مجتمع بات يكنّ للمرأة احتراماً كبيراً. وكان من الطبيعي ان يجد القارئ نفسه هنا امام مجتمع مثالي لا وجود لمثيل له على سطح الارض، مجتمع تتحقق فيه الافكار والمبادئ ميدانياً، وليس في الكتب حبراً على ورق. ولكن، هل يمكن لمثل هذا المجتمع حقاً ان يقوم ويدوم في معزل عن بقية انحاء العالم؟ هذا هو السؤال الشائك الذي سيبدأ القارئ بطرحه على نفسه مع اقتراب الرواية من صفحاتها الاخيرة، فإذا كان الكاتب اورد من التفاصيل ما يعلن ولادة هذا العالم الجديد، فإنه في الوقت نفسه يعطينا اشارات لا تخطئ الى ان هذه اليوتوبيا كما احتوت امارات نجاحها، فإنها احتوت ايضاً أمارات سقوطها. دانيال فاكسلير، المولود في العام 1948، هو في الاصل صحافي تحقيقات، حقق نجاحاً كبيراً منذ اواسط ستينات القرن العشرين، حين اتاحت له اقامته طويلاً في الشرق الاوسط ان يعود الى بلده فرنسا بسلسلة تحقيقات مدهشة قرئت على نطاق واسع ولاقت رواجاً... ما جعله يلتفت الى الكتابة الروائية، محوِّلاً بعض الاحداث التي عايشها او نقلت اليه، الى روايات، كان الهم الاساسي فيها فكرياً تقدمياً: أي انه ابتغى بث رسائل ضد الاستعمار وضد الاضطهاد والاستغلال. ولاقت رواياته بدورها نجاحاً كبيراً، لا سيما منها «المحرر» و «صائد الزنوج» و«صائدو التوابل» وغيرها. [email protected]