لو قيض للمرء ان يختار خصومه، وفق مواصفات يرتئيها ويحبذها، لا تكون ملابسات التاريخ هي العامل الحاسم والغاشم في فرضها، لبدا الحاخام عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحزب شاس الاسرائيلي، بالنسبة الينا العدو الأمثل... ومثل تلك "الأفضلية" لا تعود فقط الى كون الحاخام المذكور لا ينفك يتفوه، منذ سنوات عدة، بكلام فظ فج في عنصريته الممجوجة والكريهة تجاه الفلسطينيين والعرب عموماً، من ذلك الضرب الذي لا يمكنه الا ان يرتد عليه، وعلى عن يمثلهم، كلفة سياسية ومعنوية باهظة واستنكاراً واستهجاناً، من قبيل ما صرح به أخيراً، من أن الفلسطينيين "أفاعٍ"، ومن ان الله قد خلق العرب ثم أنه قد "أسف" لذلك، بحسب استشهاد استقاه من بعض النصوص "الدينية"، بل ان "الأفضلية" تلك ربما عادت الى أمر غير ذلك جوهري، هو المتمثل في أن الحاخام عوفاديا يوسف يقع على مستوى من الوعي، ومن الفعل والقول السياسيين، قد يكون مماثلاً أو مدانياً لذلك الذي اتسم به الأداء العربي في مواجهة اسرائيل، خلال السنوات الخمسين الماضية، أو خلال القسم الأكبر والغالب منها. فلو لم يجد العرب في مواجهتهم، لدى بدء الصراع على فلسطين، نخبة يهودية كتلك التي قادها ديفيد بن غوريون، حديثة متقدمة، ضالعة في العصر تحسن قراءته واستغلال ما يتيحه، ولو قيض الله لهم بدلاً منها نخبة كتلك التي يرمز اليها الحاخام عوفاديا يوسف، شرقية ما قبل حداثية، سادرة في التبسيطات الغيبية تزعم بواسطتها الإحاطة بشؤون دنيوية بالغة التعقيد، لتغيرت ماهية الصراع العربي - الاسرائيلي على نحو جذري، أي لكان أكثر تكافؤاً، ولما تحققت انتصارات هذا الطرف بذلك القدر من اليسر ولا كانت هزائم الطرف المقابل بالسهولة التي نعلم، ولطرحت المسألة اليهودية في الشرق الأوسط على نحو مخالف، ذي بعد طائفي غالب مثلاً، ووفرت علينا عناء مكابدة أمر الدولة - الأمة ولأمكن، ربما، استيعابها ضمن نسيج المنطقة بهذا الشكل أو ذاك. لقائل ان يقول ما الفائدة من ايراد سيناريو كهذا لم ير النور، مع العلم أن كلمة "لو" لا تجدي نفعاً في قراءة التاريخ أو تحليله، على ما تؤكد بديهية سائرة معلومة مكرورة الى درجة الابتذال؟ المشكلة ان الحاخام عوفاديا يوسف يمثل خطراً علينا، ليس من منظور موازين القوى، على ما اعتدنا حتى اللحظة في مواجهاتنا مع اسرائيل، ولكن لأنه ربما كان، من حيث الثقافة السياسية والمنطلقات النفسية والفكرية التي يصدر عنها، عدواً على مقاسنا، ما قبل حداثي، متنصلاً من مسار التاريخ وملابساته، وهو بذلك ربما طرح علينا، أو على الكثرة منا، امكان تماهٍ، وان من موقع التضاد ورد الصاع صاعين، قد يبدو سهلاً وفي المتناول. ذلك ان الحاخام المذكور ليس الزعيم الاسرائيلي الوحيد الذي تفوه بكلام عنصري في حق الفلسطينيين والعرب. فقد سبقه الى ذلك كثيرون، ليسوا دائماً من أوساط أقصى اليمين، من أمثال مناحيم بيغن أو اسحق شامير أو الحاخام كاهانا. فقد كان بعضهم من أقطاب يسار عمالي، يفترض فيه او يزعم لنفسه الاتستناد الى القيم الانسانية الحديثة. بل ان الحاخام يوسف قد لا يكون، في تصريحاته الأخيرة أو تلك التي سبقتها، غير مردد لكلام شائع في أوساط اسرائيلية لسنا ندري مدى اتساعها، تصدح به في المقاهي وفي النوادي وما ماثلها من التجمعات الرعاعية. خصوصية الحاخام عوفاديا يوسف، ومن ينطق باسمهم، انه يعود في مثل كلامه ذلك، وفي مجمل مواقفه، الى نظرة للصراع العربي- الاسرائيلي، والى شؤون خوضه أو حله، خرافية، غيبية، لا تاريخية، ربما وجدت، لتلك الأسباب نفسها، هوى لدى أكثرية منا تستسهل الكلام التعبوي وقد تميل الى اعتبار ما يتفوه به الحاخام المذكور، أنه خطاب الكيان العبري وانه رؤيته وتحليله لشؤون التعاطي معنا، حرباً أو سلاماً. ذلك ان في كلام كالذي ينطق به الزعيم الروحي لحزب شاس ما من شأنه ان يغري بنسيان ان ما يعنينا، ويقوم امامنا تحدياً، من دولة اسرائيل ليس ذلك الوجه الذي يمثله الحاخام، بما في ذلك ما قاله في شأن المحرقة اليهودية من كلام قد يستهوي ناكريها الكثر بيننا، بل ان الدولة تلك كيان حديث، عقلاني، في طليعة التقدم التكنولوجي وما يلازمه من اقتصاد جديد ومن سطوة عسكرية، وأنها قد استحكمت وانتصرت وأرست غلبتها على تلك المواصفات وبفضلها، لا بفضل أناس من أمثال الحاخام عوفاديا يوسف. غير ان كل ذلك لا يعني انه لا يجب اخذ تصريحات الحاخام المذكور على محمل الجد، فتلك يجب ان تفضح وتدان. ليس فقط لأن ذلك ما يتعين ان يواجه به كل كلام عنصري، مهما كان مأتاه، بل كذلك، لأن الحاخام ليس ظاهرة معزولة داخل المجتمع الاسرائيلي، بل هو جزء من نزعة عنصرية قائمة، سواء تزيّت بالدين أو لبست لبوس القومية العلمانية المتطرفة، ولأن الرجل زعيم حزب هو الثاني في البلاد، وكان عضواً في الائتلاف الذي كان قائماً حول ايهود باراك، وقد يعود اليه. وما يمكن قوله في هذا الصدد ان تصريحات الحاخام قد نبهت الى واقع يدعو الى القلق في شأن اسرائيل ونزعة التسامح تجاه العنصرية لديها، ذلك انه اذا كان الجزء المتعلق بالمحرقة من تلك التصريحات قد قوبل بزوبعة من الإدانة والاستنكار عارمة، فإن ما تعلق منها بالأوصاف النابية في حق الفلسطينيين قد قوبل بمقدار من التجاهل أو من التقاعس أو من اللامبالاة كبير. ثم ان لكلام الحاخام يوسف مؤشرات بالغة الدلالة حو النصاب الاسرائيلي الإثني الداخلي ومدى ما بات يتخلله من تصدعات قد تكون استفحلت وبلغت درجة من الخطورة بعيدة. فما ورد على لسان الحاخام في شأن المحرقة، من ان ضحاياها انما هم من اصحاب أرواح أثمت في حيوات سابقة، نالها على يد النازية قصاص رباني عادل، قد لا يكون مجرد شطحات من بنات ذهن عجوز خرف، بل هو يمثل نسفاً متعدداً لأحد الاجماعات الحاسمة والكبرى التي تقوم عليها اسرائيل، بوصفها دولة الناجين من المحرقة، وبوصف هذه الأخيرة ما كان لها أن تقترف الا بسبب واقع تاريخي موضوعي، هو واقع الشتات والتوزع بين الدول - الأمم. ولعل كل خطورة تصريحات الحاخام انها اذ تسلم ضمناً ببراءة النازية، كآلة يزعم أن الارادة الإلهية قد توسلتها، انما يسعى، من حيث يدري على الأرجح، الى دك أس أساسي من تلك التي تسوغ به الدولة العبرية وجودها وتشرعنه، غير ان ذلك لا يجري وفق ما يحلم به العديدون منا، أي وفق منظور تدميري لاسرائيل، بل من باب استبدال تلك الشرعية التاريخية الأخلاقية، بأخرى ذات مسحة أصولية دينية، أكثر اطلاقاً وأكثر تطرفاً بالتأكيد. واللافت في كل ذلك ان المقاربة تلك انما تجري باسم فئة بأسرها هي تلك المتمثلة في اليهود السيفارديم، أولئك الذين قد لا يرون في تاريخ المحرقة تاريخهم، وقد يرون في تأسيس الدولة العبرية عليها ما قد يقصيهم من عملية التأسيس تلك، وما يجعلهم في موقع الطارئ المهضوم الحقوق دوماً وأبداً، وهم ربما رأوا انه لا بد من اعادة تأسيس يكون لهم فيها دور، على أسس دينية صريحة هذه المرة، ومن خلال تأييد المواجهة مع الفلسطينيين واستئنافها، طبعاً، وهو ما قد يلوح لهم المدخل الى نيل تلك الشرعية. ولعل في تنامي مثل تلك النزعة ما يجعل من التوصل الى تسوية امراً ملحاً، حيزه الزمني بات بالغ الضيق، ليس فقط بالنسبة الى الجانب الفلسطيني ولكن كذلك بالنسبة الى ايهود باراك، ذلك الذي ان امكنه الاطمئنان الى مستقبل ميزان القوى بين دولته وجوارها العربي، الا ان مثل ذلك الاطمئنان ليس متاحاً له، وللنظام الاشكنازي الذي يصدر عنه، على الصعيد الداخلي.