ما ان صدرت نتائج انتخابات الرئاسة المكسيكية يوم الاحد الماضي، حتى اندفع سكان مكسيكو العاصمة الى الشوارع احتفالا بالحدث الذي قيل انه يشكل تحولا تاريخيا في البلاد. ففوز مرشح "حزب العمل الوطني" اليميني فينشينتي فوكس بالرئاسة وضع حداً لهيمنة "الحزي الثوري المؤسسي" على المكسيك، والمستمرة منذ 71 عاماً حتى بات النظام الذي ارساه يوصف بأنه "رئاسي امبراطوري". فبخلاف المثل القائل "قديم تعرفه افضل من جديد تتعرف اليه"، فضّل الناخبون بنسبة 43 في المئة الوجه الجديد، فوكس، على القديم الذي عرفوه كثيراً حتى ضاقوا ذرعاً به وبنظامه الذي لاح في نظرهم كقدر لا يتزحزح. وفي المقابل اختار 31 في المئة من الناخبين ابقاء ثقتهم بالقديم عبر الاقتراع لمرشحه فرانشيسكو لاباستيدا، لكن دون جدوى. والمعروف عن "الحزب الثوري المؤسسي" الذي يُعتبر احد اقدم احزاب العالم، انه مهترىء بيروقراطياً وفاسد، فضلا عن سلطويته. فبعد ان انبثق من الثورة المكسيكية في 1910، عرف كيف يتأقلم مع المتغيرات المحلية ويتكيّف مع العالم الحديث عبر اختلاف المراحل التي مر بها. فقد حمل، في 1929، اسم "الحزب الوطني الثوري"، ثم تحول الى "الحزب المكسيكي للثورة"، وعمل ابتداء بالعام 1941 على الترجّح بين منطقي الثورة والمؤسسات ليصبح، من وجهة نظر المكسيكيين، بمثابة ضمان للسلم الاجتماعي والاستقرار. والمكسيك هي البلد الوحيد في اميركا الوسطى واللاتينية الذي بقي بمنأى عن الانقلابات العسكرية التي عمّت الدول الاخرى، وذلك نتيجة السيطرة المحكمة التي مارسها الحزب المذكور على اوجه النشاط السياسي كافة في البلد. وهكذا اضطرت المعارضة الممثلة ب"حزب العمل الوطني" الى الانتظار طوال ستين عاما لكي يتسنى لها التقدم الى المعركة الرئاسية والفوز فيها. فالمحاولات المختلفة التي شهدتها المكسيك للمطالبة بحد ادنى من الحرية، كانت تُقمع بعنف شديد. وكان ابرزها التظاهرات الطلابية التي جرت عام 1968 مؤدية، بنتيجة القمع الشرس، الى مقتل حوالي 300 شخص. وعلى مدى العقود المتتالية، احتمى "الثوري المؤسسي" بالتشدد والتسلّط كدرع واقٍ يمكّنه من البقاء في مواجهة الأزمات الاقتصادية الدورية وحرب العصابات التي تخوضها الحركات اليسارية المسلحة والاغتيالات السياسية التي يُشتبه انه يقف وراءها مثلما يُشتبه بتواطؤه مع مهرّبي المخدرات. والواقع ان التغيير الذي اتت به الانتخابات الاخيرة ما كان ليحصل لولا الرغبة التي ابداها الرئيس الحالي ارنستو زيديو تنتهي مدته في كانون الاول/ ديسمبر المقبل في ادخال بعض التحولات الديموقراطية الى السياسات الوطنية للمكسيك. فهو الذي فرض اللجوء الى انتخابات داخلية في حزبه "الثوري المؤسسي" لاختيار مرشحه للرئاسة، في حين كان هذا الامر قبلا من صلاحيات الرئيس نفسه. كما انشأ مؤسسة انتخابية فيديرالية مستقلة عن الاحزاب تتولى الاشراف على الانتخابات المختلفة في البلاد. وشكلت هذه التحولات فرصة كافية كيما يعبّر المكسيكيون عن رغبتهم في اختبار الجديد المختلف ممثلا بفوكس الذي يكاد يكون اختلافه هو ميزته الوحيدة التي لعبت لصالحه وادت الى انتصاره على لاباستيدا. الا انه، وبمعزل عن المغايرة التي ابداها خلال حملته الانتخابية، فهذا لا يكفي للتشجيع على الاعتقاد بان اداءه سيكون افضل من اداء اسلافه. فقد اختار فوكس خوض الحملة بزي شبيه بزي الكاوبوي، وباسلوب في الكلام غالبا ما يميل الى الابتذال الشعبوي والسوقي. فالشتائم المتكررة التي وجهها الى منافسه لاباستيدا فوصفه تارةً ب"المخنّث" وتارة اخرى ب"الرجل الصغير صاحب الافكار القصيرة" تصدّرت الصحف المكسيكية. اما برنامجه فمعلّب على طريقة كوكاكولا التي تولى ادارة فرعها في المكسيك واميركا الوسطى بين 1975 و1979، وهو يتلخص في تعهدين اساسيين: الاول اقتصادي مفاده ان يرفع معدل النمو الاقتصادي في البلد الى 7 في المئة ويخفض التضخم الى 2 في المئة، والثاني امني ومفاده حل مشكلة حرب العصابات في اقليم شياباس الجنوبي في غضون... 15 دقيقة! وهذا الاسلوب ما جعل خصومه السياسيين يصفونه بانه "مزيج من 90 في المئة صورة Image و10 في المئة افكار". فلو اضفنا الى ذلك حصيلة النعوت المختلفة التي تُطلق عليه، ومنها "النصّاب" و"المنافق" و"المتقلّب" و"الفاشي" وغيرها، لتعززت الشكوك المتعلقة بجدية ادائه. على ان هذا كله لم يمنع الكثيرين من المثقفين المكسيكيين، ومنهم خورخي كاستانييدا، من الوقوف في صفّه لا اعجابا به وباسلوبه، انما رغبة في التغيير اياً كان مردوده.