بعد فشل تطبيق «اتفاق الطائف» في إعادة تفعيل السياسة التوافقية في لبنان، ظهرت في المكتبات العامة سلسلة مؤلفات تتحدث عن أبطال مرحلة الاستقلال، وما حققوه من إنجازات على الصعيد الوطني. الكاتب البريطاني المعروف باتريك سيل، عمل اكثر من ثلاث سنوات لجمع مواد تاريخية صالحة لإعداد مؤلف جامع شامل عن سيرة حياة الزعيم اللبناني العربي رياض الصلح. كذلك طلبت «مؤسسة التراث الدرزي» لمنشئها سليم خير الدين، من الكاتب عاطف ابوعماد، إعداد مؤلف يروي سيرة الأمير مجيد ارسلان، باعتباره كان منتسباً إلى المجموعة الوطنية التي دعمت استقلال لبنان ووحدة أبنائه. وخلال تلك المرحلة اصدر المحامي عمر الزين، مجلدين جمع فيهما كل الحكايات والذكريات عن سيرة حياة تقي الدين الصلح. كما روى فيهما أيضاً تاريخ الأسرة الصلحية التي ساهم عشرة من أبنائها، في إغناء تاريخ الاستقلال برجال أفذاذ قل نظيرهم. في منتصف تموز (يوليو) الماضي، أصدر الكاتب والروائي ألكسندر نجار، رئيس تحرير «أوريان الأدبي» كتاباً بالفرنسية تحت عنوان «الفتى المتمرد» (منشورات الأوريان). والفتى الذي يعنيه الكاتب لم يكن سوى ميشال زكور (1896 – 1937) احد ابرز الوجوه المعاصرة في تاريخ لبنان الحديث. وقد اطلق هذا الوصف عليه الكونت الفرنسي داميان دومارتيل لأنه كان في نظره، صحافياً «مشاغباً» وسياسياً «متمرداً» على سلطة الانتداب. يقول المؤرخون بحسب نجار إن الحياة القصيرة التي عاشها ميشال زكور (41 سنة) كانت غنية بالعطاءات على الصعيدين الإعلامي والسياسي. وهم يعتبرونه نموذجاً فريداً لما يمكن أن يقدمه الإنسان في اقصر وقت خلال أصعب مرحلة من تاريخ لبنان. ومن ابرز الأعمال التي شقت أمامه طريق الطموح، إقدامه على إصدار مجلة «المعرض» التي فتح صفحاتها لأهم الأقلام الحرة المميزة من أمثال: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وشبلي ملاط وصلاح لبكي وأمين نخله وجبران تويني وشكيب ارسلان وفؤاد أفرام البستاني، وبما أن المعرض كانت عربية المنحى، فقد كان طبيعياً أن تستقطب الأقلام الحرة في العالم العربي من أمثال: أمير الشعراء احمد شوقي وعباس محمود العقاد من مصر... والشاعر عمر أبو ريشة وخليل مردم بك من سورية. وعرفت تلك الدورية بأنها كانت رائدة في الرسوم الكاريكاتورية المعبرة التي أطلقت مواهب شبان عدة في مقدمهم رأفت البحيري الذي انتقل في الستينات إلى «دار الصياد». ألكسندر نجار، الحائز «جائزة المتوسط» سنة 2009 وجائزة الأكاديمية الفرنسية، اختار ميشال زكور نموذجاً ليتحدث عن سيرته الذاتية باعتبارها تشكل تنوع مسارات حياته الفكرية والسياسية والوطنية. وفي هذا السياق يمكن القول إن الصحافي زكور ارتبط بصورة عميقة وحاسمة بأفكار زكور السياسي. ومن هنا القول أيضاً إن حياته كانت علامة استثنائية، ليس بسبب الإنجازات التي حققها، بل بسبب دوره الوثيق بمرحلة تكوين استقلال لبنان. وهذا ما يدل على أن الكتاب له طابع مزدوج المهمات. فهو من ناحية يروي سيرة زكور... ومن ناحية ثانية يروي حكاية عصره، إضافة إلى حكايات صداقته بكميل شمعون وحميد فرنجية وفريد الخازن وصبري حماده ومجيد ارسلان ومحمد عبدالرزاق. في تعليقه على الكتاب، اعلن الرئيس السابق أمين الجميل، انه تعرف من خلاله على المعاني السياسية التي تضمنتها تلك المرحلة. وقال إن حكاية «الفتى المتمرد» جسدت بعمق المرحلة السابقة لمسيرة الاستقلال. كما جسدت إيمان وجرأة الذين تحدوا التهديد والوعيد. كتب مرة ميشال زكور في مجلة «المعرض»، افتتاحية تعكس نظرته إلى العمل الإعلامي، فقال: «من أولويات واجب الصحافي، محاربة الظلم والفساد وكل نقيصة تضر بمصالح الشعب». واشترط في كلمة أخرى، أن تكون ريشة الصحافي مقصوصة من شجرة الحرية. ومن دون الحرية يصبح الإعلامي مجرد شاهد زور على الأحداث. ولم تقتصر شعارات ميشال زكور على إطار الكتابة فقط، بل تخطتها لتصبح واجباً سياسياً فرضه على نفسه عندما انتخبه الشعب نائباً عن جبل لبنان لدورتين. بل عندما عينه الرئيس اميل اده (1937) وزيراً للداخلية في حكومة خير الدين الأحدب. وقد أهلته نجاحاته في وزارة الداخلية لأداء مهمات وزير الخارجية (قبل إنشاء الوزارة) ووزير التربية بالوكالة. مطلع تشرين الأول الماضي، افتتح «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية – الأميركية، سلسلة نشاطاته الشهرية بمعرض ومحاضرات عن ميشال زكور عشية الذكرى الثمانين لتأسيس جريدة «المعرض» (1921 – 2011) والذكرى الخامسة والسبعين (1936 – 2011) لاحتجابها. وشمل برنامج الاحتفال المحطات الآتية: 1 – معرض وثائق سياسية وصحافية وشخصية تلقي الضوء على حياة ميشال زكور وعلى مسيرته القصيرة العمر، الطويلة المدى. 2 – انطباعات عن تأثير شخصية ميشال زكور في محيطه، عبر ندوة شارك في إحيائها: رئيس الجامعة جوزيف جبرا، نقيب الصحافة محمد البعلبكي، السفير السابق فؤاد الترك، الصحافي والكاتب سمير عطاالله، ومؤلف الكتاب الكسندر نجار. وفي نبذة مختصرة لحياة مليئة بالإنجازات الوطنية، وزع المركز على الحاضرين نشرة غنية بالمحطات المضيئة عن النائب والوزير والناشر ميشال زكور. وفي مطلع هذا الشهر صدرت النشرة ووزعت على دور الصحف والمهتمين بمراجعة سيرة حياة هذه «الأيقونة» اللبنانية المميزة. ولد ميشال زكور في الشياح (شرق بيروت) سنة 1897 ودرس في «الحكمة» حيث تخرج منها سنة 1913. بدأ يدرس الحقوق لكن الصحافة اجتذبتة فانتقل إليها يحرر في عدد من الصحف والمجلات. أسس جريدة «المعرض» في 1 – 5 – 1921 وأصدرها 15 سنة حتى أوقفتها السلطة قسراً في 21 – 6 – 1936. انتخب نائباً عن جبل لبنان سنة 1929، وأعيد انتخابه ثانية سنة 1934. تميزت فترة نيابته بجرأة نادرة وقاسية ورافضة، جعلت المفوض السامي يلقبه ب «الفتى المتمرد». تزوج من روز غريب في 9 نيسان 1931 وله منها: حنا» ولميا، ومكرم. زار مع النائبين كميل شمعون وفريد الخازن المفوض السامي الفرنسي الكونت دو مارتل في 28 – 10 – 1934 لتقديم مذكرة تطالب بعودة الحياة الدستورية إلى البلاد، فكانت تلك الخطوة بداية تشكيل «الكتلة الدستورية». رفع مع 6 نواب (فريد الخازن، كميل شمعون، حميد فرنجية، مجيد ارسلان، صبري حمادة، محمد عبدالرزاق ) مذكرة في 3 آذار 1936 إلى المفوض السامي للمطالبة بإعادة الدستور المعلق، وعقد معاهدة مع فرنسا، وبإدخال لبنان إلى عصبة الأمم. عينه الرئيس اميل اده في 14 آذار 1937 وزيراً للداخلية في حكومة خير الدين الأحدب، وقام بمهمات وزارة الخارجية التي لم تكن أنشئت بعد، إضافة إلى مهمات وزير التربية بالوكالة. كان اول من اطلق فكرة الاحتفال بذكرى الشهداء في 6 أيار 1937، ودرج ذلك سنوياً. لم يهنأ في الوزارة سوى 97 يوماً لأن نوبة حادة أصابته داخل مكتبه في الوزارة مساء 17 حزيران 1937 لم يصمد أمامها فتوفي ليلة 18 – 19 حزيران، وهو في ربيعه الحادي والأربعين. هذا غيض من فيض سيرة حياة ميشال زكور التي كتبها بالفرنسية ألكسندر نجار. وقد تولت انجليك بعينو ترجمتها إلى العربية. بعد صدور الكتاب باللغتين الفرنسية والعربية، قررت إدارة «مركز الدراسات اللبنانية» في جامعة أكسفورد، ترجمة «الفتى المتمرد» إلى اللغة الإنكليزية، كي تعطي الفرصة للمغتربين بأن يطلعوا على سيرة حياة شخصية فذة يفتقدونها في لبنان خلال هذا الزمن التعيس!