كما بدأت سيلفيا بلاث كتابة مذكراتها في سن الحادية عشرة حتى شهور قبل موتها في الثلاثين من عمرها. والتوتر الكامن في حياة وشعر هذه الكاتبة الأميركية، جعل منها اسطورة أدبية، ولم يكن انتحارها في ذروة جمالها وإبداعها إلا سبباً لدعم هذه الاسطورة. وقد أتهم زوجها الشاعر تيد هيوز بأنه كان السبب في انتحارها. غير أن مراجعة حياتها تكشف عن شخصية قلقة مليئة بالهواجس والطموحات، وعلى رغم انجازها كانت تشعر بأن هناك الكثير الذي لا تستطيع تحقيقه. ومنذ انتحار سيلفيا بلاث عام 1963 وحتى الآن ظهر الكثير من السير التي تتناول حياتها، ومنها سيرة ذاتية كتبتها بنفسها وقام تيد هيوز بمراجعتها عام 1982، إلا أن كل هذه الأعمال كان ناقصاً باعتراف هيوز نفسه بأنه دمر الدفتر الأخير من مذكرات بلاث كي لا يقرأه ابنيهما، لكن قبل وفاته بشهور في 1998 كشف عن احتفاظه بهذا الدفتر، ومنه جاءت فكرة نشر يوميات سيلفيا بلاث الكاملة والتي صدرت في الاسبوع الاول من شهر نيسان ابريل الماضي. في 1963 بعد شهرين من اتمامها عامها الثلاثين في شباط فبراير تركت بلاث لابنتها ذات الاعوام الثلاثة وابنها ذي الثلاثة عشر شهراً، خبزاً وحليباً ثم دخلت المطبخ واغلقت الباب وفتحت مصدر الغاز لتموت مختنقة. هذا المشهد كان مؤثراً للكثير من محبيها الذين يرون فيها رمزاً للإبداع والأنوثة وظلوا دائماً في شغف لمعرفة الكثير عنها وعن حياتها، خصوصاً أنها لم تكتف بالشعر وبروايتها الوحيدة "جرس من الزجاج"، ومن مقولاتها "الموت فن، وأنا مبدعة في هذا الفن". المذكرات الجديدة التي صدرت عن دار "فابر اند فابر" الانكليزية تغطي اثنتي عشرة سنة من حياة "بلاث" منذ 1950، وحتى 1962، وقد ظل الجزء الأكبر منها محفوظاً في "سيث كوليج" حتى كشف هيوز عن وجود الدفتر الأخير فقامت كارين كوكمل بتحقيقها وإعدادها للنشر. في الصفحات الاولى من المذكرات يتضح العمق الذي كانت بلاث تحاول ان تتركه في افكارها ومشاعرها المكتوبة، كما يمكن من خلالها متابعة الخطوات الاولى لها ككاتبة. ومع هذا يظل واضحاً الرعب والمتعة في ما أسمته بعد ذلك "ستريبتيز" الانتحار البطيء. وتأخذ النصوص شكل الحوار بين الجانبين الظاهر والباطن لوجودها مثل "اتخافين من البقاء بمفردك مع عقلك" و"لا يمكنني تجاهلها. أعرف أنها هنا، انني اشمها واشعر بها". ولا ينفي البعض تأثر بلاث في هذا الجانب بالكاتب الروسي دوستويفسكي عندما كانت تجري أبحاثها على أعماله خصوصاً وجود المثيل او الآخر الشبيه في بعضها. هي نفسها كانت تشعر بازدواج في شخصيتها، حيث كان الأنا الآخر لها رجلاً، وأحياناً تكون نظرتها كنظرة الذكر الباردة، تقول "أنا رجل في جانب مني، وأدقق في ردفي ونهدي امرأة، كرجل يرغب في اغوائها". وعندما تعيد النظر الى نفسها كمرأة، تجد المقابل الانثوي: "دخلت في لعبة العذراء الجميلة الاميركية التي تختار ازياءها من أجل الاغواء"، كتبت هذا ساخرة من ولعها بتثبيت صورة مثال أنثوي، لأن لعبة الاغواء، صيد الرجل، تسحرها وتشعرها بالتقزز في الوقت نفسه. كانت ترى نفسها احياناً "مصاصة دماء لا تتوقف عن رشف رحيق هؤلاء الذين يصبحون لطفاء في لحظة العشق"، الرجال في هذه المذكرات التي تعود الى فترة الشباب موضوع ملح، ولا تكاد النساء تظهر إلا كمنافس في أحيان قليلة. وقد هزمها النزوع الى الانتحار للمرة الاولى في العشرين من عمرها اثناء قضائها اجازة مع عائلتها، حيث نزلت الى قبو المنزل وتناولت كمية كبيرة من المنوم وظلت مختفية ليومين حتى عثروا عليها عند سماعهم صراخها، وبعد انقاذها تم إدخالها الى مصحة للعلاج النفسي. وبعد نهاية العلاج اعترفت في مذكراتها ان مشكلتها الحقيقية هي الغيرة: "اغار من الرجال في داخلي حقد كبير يمكنه تحطيم أي علاقة. حقد ناشيء من رغبتي في أن أكون فعالة، وألا اكتفي بدور سماعهم السلبي". وقد عبرت عن أزمتها بشكل شديد التحديد والوضوح في سؤالين مباشرين: "هل تستطيع امرأة مكتفية ذاتياً، وغيورة وفقيرة الخيال ان تكتب شيئاً ذا قيمة حقيقية؟ هل يمكنها أن تقيم علاقة؟". عند وصولها الى كامبردج عام 1955 في منحة كان يبدو عليها البحث عن "حب كبير خطير ومتفجر" ووجدته بعد وقت قليل في الشاعر تيد هيوز، الشاعر الجميل الذكي بما يكفي لفهم حاجاتها ومشاركتها احلامها، وبدا أن العشق الذي نشأ بينهما ازال عنها القلق. عاطفة وحب كاملان استطاعا تغييرها، ويبدو أنها وجدت السعادة في النهاية. وتزوجها في حزيران يونيو 1956، كتبت تقول: "بعدما امضيت سنوات في البحث عن إشباع للأنانية ولرغبة هزيمة الرجال الذين يتساقطون واحداً بعد الآخر وجدت السعادة". وعندما أنهت بلاث دراستها في كامبريدج انتقل الزوجان الى الولاياتالمتحدة، حيث أخذت تُدرس الأدب في مدرستها القديمة، لكن مع الوقت أصبح هذا الوضع غير محتمل وبدأت مرحلة اخرى من التزعزع. كانت تطلق على زوجها "منقذي" "نصفي الذكوري الكامل" لكن بدأت المنافسة بينهما. هو الكاتب الشهير، وهي تخلت موقتاً عن مشروع كتابتها لتقوم بكتابة أشعاره على الآلة الكاتبة. وعلى رغم أنها كانت توليه اهتماماً كبيراً إلا أنه شعر بأنه محاصر واشتعلت الغيرة وقد كانت في محلها. لن تستطيع بلاث تحمل نظرته لنساء آخريات، ولم يكن هو قادراً على العيش ملكاً لها فتركها. تركها على حافة من الاحباط تعرفها جيداً، واخذت هذه الحال تطغى على قصائدها التي كتبتها في آخر شهور حياتها، إنه فراغ حاولت ان تملأه بكلماتها، لأن البحث عن صوت عميق وخاص بها في الأدب هو الشيء الوحيد الذي يبرز وجودها. كانت قاسية مع نفسها. عاماها الأخيران كانا مليئين بالإبداع، طبعت مجموعتيها الشعريتين وكانت تعمل على روايتها الثانية الاولى كانت "جرس من الزجاج". وفي 16 تشرين الاول اكتوبر 1962 كتبت الى امها "انا كاتبة عبقرية، لقد منحت الموهبة، انا اكتب أفضل قصائد حياتي، التي ستجعلني شهيرة". لكنها انتحرت بعد شهور لتحصل على الشهرة بالفعل... بعد موتها. * كاتب مصري.