اللقطات الأولى من "شافت" الأول اخراج: غوردون باركس - 1971 تصور جون شافت وهو يرتدي ذلك المعطف الواقي للمطر ويخرج من محطة مترو في نيويورك. يجتاز الشارع المزدحم من دون أن ينتظر إشارة سير. ينهره سائق تاكسي. لا يكترث. ويمشي بثقة وقامة مرفوعة إنما من دون كبرياء أو عجرفة. في رحلته هذه تصاحبه واحدة من أنجح الأغاني التي طبعت على فيلم، ألا وهي أغنية "شافت"، على ما لحنها ووضع كلماتها ايزاك هايز. انها اغنية تعريفية بهذا "البطل" الأفرو - اميركي الذي لم يسبقه أحد في أكثر من ناحية. ليس أن سيدني بواتييه لم يؤدِ في العام 1978 شخصية التحري الأسود في "في حرارة الليل" نورمان جويسون، وبذلك يكون سبقه، لكن "مستر تيبس"، كما كان اسم بواتييه في ذلك الفيلم، لم يكن إنساناً خارج المألوف، واجتماعياً كان لا يزال يسعى الى أن يُقبل من البيض على أساس أنه متعلم ومثقف وذكي ويحتل مكانة رفيعة في سلك البوليس الرسمي في المدينة، ويتقاضى أعلى مما يتقاضاه "شريف" البلدة العنصرية الجنوبية التي كان بواتييه توقف فيها في زيارة. هذا ما يجعل ذلك "الشريف" رود ستايغر أكثر حنقاً عليه وما يجعل تيبس أكثر عرضة للاضطهاد. جون واين أسود لكن جون شافت، وهو تحر خاص على غرار ما مثله همفري بوغارت وروبرت ميتشوم وبعض أعتى الوجوه البيض من قبل، لن يتوقف لسماع أي من هذا. إنه لم يُصغ، في رواية ارنست تايديمان، لكي يكن واحداً من أولئك السود المضطهدين.، بل هو رجل الرجال إبن الشارع الآتي من القاع والذي سيكيل الصاع صاعين لكل من ينظر اليه خطأ. هو جون واين الأسود. وبعد نصف ساعة من الفيلم يخبرنا لماذا هو ذلك: "ولدت بمشكلتين، اني أسود وفقير". بذلك هو يعلم معضلة الحياة الاجتماعية الاميركية العنصرية والطبقية قلباً وقالباً، وقد قرر لنفسه التصرف كما لو أن ليس لديه شيء يخسره. حين يلتقي رجلي بوليس من البيض أحدهما الجيد المقل تشارلز سيوفي لا يحاول إرضاء أي منهما، وتشارلز معجب به لتلك الصفة ويثق به. وحين يلتقي شافت المنظمة السوداء التي يقودها موسس غن يأخذ منه المهمة وينفذها مع "أخوان" له من المعجبين بمالكولم أكس وقضايا السود التي حملها. لكن الفيلم يوضح أن هناك نوعين من السود: أحدهما يعيش على حافة الجريمة ويغتني منها، والآخر يعتبر مجرماً لأنه يدافع عن عدالته الاجتماعية وهو الذي يعرض نفسه للموت وهناك مشهد جيد التكوين لهجوم تتعرض له الجماعة التي تسير على خط مالكولم أكس، يبيد معظم أفرادها. لاحقاً، نرى شافت في عراك مع القوى البيض التي هي أكثر شراسة من أي قوة سوداء، وسيتغلب عليها لأنها تستحق أن تُغلب. هكذا ببساطة فحوى الصراع السياسي في فيلم "شافت" الذي قام ببطولته ريتشارد راوندتري: بدهي، بسيط وغير قابل للمساومة. وهذه هي الميزة التي تنتقل الى "شافت" الجديد. مشكلات مجتمعة سينمائياً، يعتبر "شافت" الجديد، من لقطاته الأولى الى الأخيرة، أكثر انتماء الى ايقاع سينما التسعينات. كل ما فيه أكثر حداثة، وتقنياً أكثر تقدماً من سابقه. واذا كان له "شافت" - باركس وهو مخرج أسود كان يعمل مصوراً يدوياً لمجلة "لايف" ميزة الحس الشارعي للمدينة، فإن ل"شافت" - سينغلتون الحس نفسه وفوقه إيقاع أفضل ومعالجة أكثر تماسكاً وتلاحماً من تلك التي توافرت في "شافت" الأول. الى ذلك، لدى الفيلم الجديد الممثل صامويل جاكسون في تجسيد قوي للشخصية تتوارى وراءه شخصية شافت الأولى على قوتها المذكورة. 28 سنة بين الفيلمين والقضايا الاجتماعية - السياسية لا تزال مطروحة، أو لنقل إنها لا تزال قابلة للطرح على أساس أن الكثير جداً من الأفلام الأخيرة لا يكترث الى طرحها. المخرج جون سينغلتون، الذي حقق قبل هذا الفيلم أربعة متفاوتة الجودة، أولها "فتيان الحي" 1991، يجد في "شافت"، الوعاء الكامل لتقديم مشاغله تلك وطروحاته. هو أيضاً ابن المدينة، وأفرو أميركي متحسس مشكلات مجتمعه، وفوق ذلك كان صغيراً عندما انطلق "شافت" الأول يطيح القوة البيضاء ويؤسس خط القوة السوداء، كما يجب أن تكون، من وجهة نظره ونظر مؤيديه على الأقل. وهو تأثر بالفيلم وأدرك مراميه. "شافت" الجديد ليس اعادة صنع للأول، بل هو استكمال. بعد أول اصدار سينمائي لتلك الشخصية، وتبعاً لنجاحه الكبير، تم تحقيق جزء ثانٍ بعنوان "ضربة شافت الكبرى" باركس أيضاً - 1972، وواجه فيه بطل الفيلم المزيد من المافيا البيضاء، ثم جزء ثالث هو "شافت في افريقيا" الذي أخرجه أبيض جون غيلرمين 0 1973 وفيه حاول صانعوه نقل رسالة شافت الى مستوى عالمي يواجه تجار رقيق أسود أوروبيين. العودة الحديثة تتضمن حسبان السنين الفاصلة. فشافت الجديد هو ابن اخي شافت الأول. صامويل ل. جاكسون يخلع البزة العسكرية التي ارتداها في فيلمه الأخير "شروط التعامل" ويرتدي الثياب المدنية متحلياً، حتى ثلث الفيلم تقريباً، بشارة بوليس نيويورك. ريتشارد راوندتري يؤدي دوراً محدوداً من باب أن الذكرى نافعة، لكن العلاقة تنتهي عند هذا الحد. شافت الجديد أقوى وأكثر عنفاً ويستفيد من 28 سنة من سعي السود الى اثبات حقهم في حياة متساوية، ومن الاحباط الذي يشعرون به، إذ لا تزال المشكلات الأساسية باقية ببقاء التصرف العنصري الذي يواجهون به. ليس أن أحداً يستطيع أن يهين شافت وجهاً لوجه، لكن أي تمريرات عنصرية تصطدم بفهم شافت لما تحتويه من معان باطنية. وهو اذا ما أدرك أنها مقصودة، قلب الطاولة على رؤوس اعدائه ولم ينتظر سقوطهم، بل اصطدامهم قبل وصولهم الى الأرض. السيناريو، الذي كتبه أولاً ريتشارد برايس ثم تدخل فيه المخرج، يصور وصول التحري الرسمي شافت الى موقع جريمة. وولتر ويد كريستيان بيل ارتكب لتوه جريمة قتل بدوافع عنصرية. لم يعجبه - وهو جالس مع أصدقائه في مطعم - ان شاباً أسود دخل وبصحبته فتاة بيضاء. أخذ يسمعه كلاماً، فقام الشاب الأسود اليه ووضع على رأسه فوطة بيضاء بثقبين ما جعلها تشبه قناع جماعة "كوكلس كلان". هذا أثار ضحك الجميع عليه وهو لن يسمح لأسود بأن يهينه هكذا... انتظر خروجه من المطعم وضربه بعصا غليظة. هناك شاهدة خائفة إذ تقدم منها وولتر، وهو ابن أحد النافذين، وهددها. بعد أن يقبض شافت عليه، يخفق الادعاء في تقديم دليل قاطع ويحكم على وولتر بالبراءة فيخرج بابتسامة نصر على أن يهاجر الى سويسرا ويبقى فيها. بعد عامين يعود وولتر ويكون شافت في اتظاره، إذ ساءه أن يتمكن قاتل عنصري من الإفلات من العقاب. هذه المرة المواجهة بينهما حتمية، خصوصاً أن كلاً منهما يسعى الى الوصول الى الشاهدة قبل الآخر. وولتر لإسكاتها، وشافت لإنقاذها واستخدامها. وولتر يتعرف الى رئيس عصابة لاتينية من تجار المخدرات ويطلب معاونته في التصدي لشافت. في هذا الوقت يترك شافت الخدمة بعدما وجد أن القانون أصبح مكبل اليدين. في السيناريو الأول لريتشارد برايس وهو كاتب جيد في الأساس وضع أعمالاً درامية - بوليسية شائكة من قبل نقلها مارتن سكورسيزي وسبايك لي، بين آخرين، شافت لا يترك الخدمة. هذا كان مريعاً بالنسبة الى مفهوم شافت، فهو في الفيلم السابق كان تحرياً خاصاً والمفهوم الشعبي له هو أنه تحرٍ خاص، ثم أن الأغنية التي أعيد استخدامها لهذا الفيلم تتحدث عن تحرٍ خاص. بين تشبث برايس ببطله، وتشبث سينغلتون - جاكسون بضرورة تغييرها وقيامهما بذلك، لفت نظر الى الطريقة التي لا تزال هوليوود، من حين الى آخر، تتعامل بها مع الشخصية السوداء، إذ لديها نظرة تقليدية وتوفيقية للموضوع. وعلى رغم انها نظرة لا تتوخى النيل من السود، بل على العكس، مدحهم وتقديمهم لامعين، إلا أنها خادعة وغير متعمقة. نسخة سينغلتون هي التي أنقذت شافت من معالجة كانت ستقضي على مقوماته وتقدمه لا أكثر من ترجمة سوداء للصورة - الشخصية البيضاء. أشرار شافت لكن الطروحات السياسية ليست خلف الكاميرا فقط، بل أساساً أمامها. الى جانب أن الجريمة عنصرية، هناك الجانب الشخصي لشافت كرجل لا يريد أن يعرف انصاف الحلول ولا يكترث الى مراعاة أحاسيس واهية وخدع اجتماعية تربط الحضارة بقبول الخطأ. هذه أهم ميزة ضمنية في "شافت" الأول تتبلور استعراض قوة لم ينتمِ اليها فيلم بوليسي ناجح من أيام "الاتصال الفرنسي" ويليام فريدكن، و"بوليت" بيتر ياتس و"شافت" نفسه. بذلك، فإن مفهوم الفيلم مضاد لما يسمونه بالانكليزية Politically Correct وهدفه ليبرالية التعايش، لا دقتها وعدالتها بالضرورة. ولأدوار الشر، وزع سينغلتون ألوان المجتمع على النحو الآتي: وولتر عنصري - طبقي أبيض. رئيس العصابة لاتيني قام الممثل الأسود جفري رايت بالدور. رجلا البوليس المرتشيان هما أبيض دان هدايا، وهو ممثل يهودي سوري الأصل من حلب وأسود روبين سانتياغو هدسون. كذلك هناك شرطي أبيض عنصري، لكنه شريف لي تيرغيسن. أما أقرب الناس الى شافت فهو التحرية كارمن فانيسا ويليامز. وفي هذا الخليط يقسم سينغلتون شخصياته على نحو قد لا يخلو من ترتيب وخطة، لكنه يعكس الواقع على نحو قريب من الصورة العامة والمتناقلة هنا في اميركا. هذا "الشافت" في مستوى أي فيلم بوليسي كلاسيكي، والراجح انه سيتحول واحداً من تلك الأفلام. ما بين اخراج سينغلتون الحاد وشخصيات الفيلم التي تعايش أزماتها الحادة في وضوح، وقصة تبدو جديدة، ولو لم تكن مئة في المئة كذلك، ينتمي الفيلم أيضاً الى ما عرف بسينما السود الاستغلالية Blackexploitation. هذه السينما ترعرعت ما بين العامين 1968 و1975، وشهدت عشرات الأفلام التي قام ببطولتها سود، ناشرين على الشاشة شخصيات بدت، عموماً، مسلية وعجيبة. وبالتأكيد كانت غاية معظم هذه الأفلام تجارية، كغالبية الأفلام الاستغلالية البيض. ولكن بمقدار ما كانت استغلالية تهدف الى تقديم ابطال سود لجذب الجمهور الأسود، وتعكس الحب الأبدي لهوليوود لاستغلال ما يدر المال على جيوب منتجيها البيض، كان بعضها حاداً كالسكين في طرح قضايا المرحلة الاجتماعية وخصوصاً العنصرية. شخصيات تلك الأفلام البطولية كانت وحدها كافية لأن تعكس الرد الاجتماعي والثقافي الأسود على الاضطهاد السينمائي الأبيض. شافت فتح المجال أمام أبطال آخرين على شاكلته، وإن تركوا تأثيراً أقل. ومع أن سيدني بواتييه بدأ منذ الخمسينات بأداء أدوار تتحدث عن العنصرية "المقيدان" لستانلي كرامر مع توني كيرتس و"حافة المدينة" لمارتن ريت مع جون كازافيتز، إلا أنه لم يولد بالقوة ولا من خارج النظام، بل شق طريقه من مشاريع هوليوودية تامة، وبين اترابه البيض. صحيح انه منح الأمل بإمكان وصول السود الى سدة النجومية مثله، إلا أن الآخرين من أبناء السينما الاستغلالية السوداء، من ريتشارد راوندتري الى جيم براون ورون أونيل وسواهم، هم الذين اضطروا الى حفر تلك الطريق بكل ما أوتي لهم من رغبة في الوصول، وبكل ما حملوه من معاناة داخلية. لذلك، فإن أكثر الأفلام السود استغلالية قد يكون أيضاً أكثرها تعبيراً عن جو من الحرية كان مطلوباً استحقه السود ونالوه. و"شافت" - 2000 يجمع بين التعبير النضالي نفسه، اذا صحت الكلمة، ومزايا هوليوود وبذخها الانتاجي الذي تنفرد به دوماً.