} بعد رواية "عالم صوفي" التي عرفت رواجاً عالمياً كبيراً يعود الكاتب النروجي جوستن غاردر الى الفلسفة في روايته الجديدة "الحياة في منتهى القِصَرْ" ولكن من باب التأمل والمذكرات وتحديداً عبر شخصية القديس أوغسطين الذي جمع بين الفلسفة واللاهوت. ويجيء صدور الرواية غداة احتفال الجزائر بذكرى الفيلسوف واللاهوتي الذي كان ولد في إحدى مدنها. يلجأ الكاتب جوستن غاردر في الكثير من أعماله الروائية الى توظيف تاريخ الفكر. إذ إنه يدرّس الفلسفة وتاريخ الفكر ولد سنة 1952 في أوسلو وكان نجاح روايته "عالم صوفي" قد مكّنه من التفرّغ للكتابة ولمهمّة أخرى هي النضال من أجل حماية البيئة ضمن مؤسسة أحدثها لهذا الغرض. كرست رواية "عالم صوفي" اسم الكاتب عالمياً، لدى النقاد كما لدى القراء، وقد توالت رواياته في ما بعد فوضع عناوين أخرى مثل "لغز الصبر" و"في مرآة معتمة" و"الأخ الصغير القادم من السماء" ثم "الحياة في منتهى القصر". وفي هذه الرواية الأخيرة "الحياة في منتهى القصر" يعود جوستن غاردر الى الفلسفة والفكر من بوابة الاعترافات اللاهوتية. ويستخدم لهذا الغرض الاعترافات التي تركها القديس أوغسطين. فيختلق نوعاً من الاعترافات المضادة على لسان شخصية مركزية في حياة أوغسطين تناقش أفكاره وتدحض الكثير من آرائه حول المرأة والحب والجنس والكنيسة. الشخصية الجديدة- القديمة هي فلوريا عشيقة القديس أوغسطين في قرطاج قبل سفره الى روما للتخصص ثم لتدريس فن الخطابة، تحت تأثير والدته القديسة مونيكا التي أرادت إبعاده عن عشيقته فلوريا ايميليا وكرّست حياتها لهدايته. كان القديس أوغسطين عالم لاهوت في الكنيسة اللاتينية. وقد ولد في تاغست سوق اهراس في الجزائر حالياً سنة 354م وتوفي في هيبون ايطاليا سنة 430م. تبع هواه في مرحلة شبابه الصاخب في قرطاج، واعتنق المانوية، ثم ارتدّ بتأثير من أمه مونيكا والقديس امبروسيوس، وتحوّل الى اللاهوت فصار أسقفاً في مدينة هيبون سنة 396م وحارب المانوية القائلة بمبدأين: مبدأ الخير ومبدأ الشر، النور والظلام، كما حارب البيلاجيوسية نظرية الراهب بيلاجيوس في القرن الرابع والذي أنكر الخطيئة الأصلية وقال بحرية الإرادة التامة وكذلك الدوناتية بدعة دونا وهو أسقف قرطاج في القرن الرابع الميلادي، وقد أدّى الى انقسام الكنيسة في شمال افريقيا. حاول القديس اوغسطين التوفيق بين العقل والإيمان وجمع بين الأدب واللاهوت والفلسفة فترك تأثيراً واسعاً في علم اللاهوت الغربي وأثرى الأدب اللاتيني. وترك مؤلفات منها "في النعمة" و"مدينة الله" و"الاعترافات" التي اشتغل عليها الروائي النرويجي في روايته "الحياة في منتهى القصر". وضع القديس أوغسطين اعترافاته حوالى العام 400م وهي تقدم لوحة للحياة كما كانت في نهاية القرن الرابع وتعطي فكرة عن الصراعات الروحية بين الشك والإيمان وقد حركت ذلك القرن بالخصوص. ولعلّ القديس اوغسطين، في هذا السياق، كما يقول المؤلف في مقدمة روايته: "هو رجل ما قبل النهضة الذي نشعر إزاءه أنه الأقرب إلينا". فكيف تناول الروائي تلك الاعترافات فنّياً؟ جعل المؤلف فلويا تردّ على اعترافات صديقها أوغسطين برسالة مطولة تحمل عنوان الرواية، مع عنوان آخر فرعي "رسالة من فلوريا ايميليا الى اوريليوس أوغسطين"، لكن تلك الرسالة ظلت مجهولة. وفي إحدى زيارات المؤلف الى معرض الكتاب في بوينس آيرس ربيع 1995 يرتاد، في أحد الأسواق الشعبية، مكتبة لبيع الكتب القديمة. ويعثر على صندوق أحمر مكتوب عليه "مخطوط فلوريا" ولدى تصفّح المخطوط المكتوب باللاتينية يلفت انتباهه الإهداء "فلوريا ايمليا تحيي اوريليوس أوغسطين، أسقف هيبون" ويشعر المؤلف برعشة إثارة لإن البحوث التاريخية لا تعرف عن فلوريا ايميليا إلا ما ذكره عنها القديس أوغسطين في اعترافاته. يلي ذلك، وضمن المقدّمة دائماً، تفاوض حول سعر المخطوط بين المؤلف وصاحب المكتبة الذي تعرف على جوستن غاردر بسبب ظهور هذا الأخير على شاشة التلفزيون: - أنت مؤلف "عالم صوفي" أليس كذلك؟ - وعندما رد المؤلف بالإيجاب، كان سعر المخطوط قد ازداد غلاء، على رغم الشك في أصالته. فاقتناه الكاتب بثمن باهظ. وقد لاحظ له البائع "علينا اعتبار هذه الصفقة مجازفة مشتركة! إما أنها مخطوطة أصلية وبالتالي فإن سعرها أكثر مما دفعت بكثير وأنت الرابح! أو هي غير أصلية وبالتالي فأنا الرابح!" في العام 1995 أخذ المؤلف المخطوط الى مكتبة الفاتيكان في روما من أجل إخضاعه الى فحص عميق. لكن الفاتيكان أنكر حصوله على نسخة من ذلك المخطوط. وبعد سنة شرع في ترجمته من اللاتينية الى النرويجية بمساعدة أصدقاء له يذكر أسماءهم في مقدمته. هكذا يحيط الروائي المخطوط بإطار تخييلي، محاولاً نقلنا من وهم التخييل الى وجود حقيقي للمخطوط الذي وضعته فلوريا رداً على اعترافات أوغسطين. لكن رسالة فلوريا المطولة تشكل فرصة للمؤلف وأستاذ الفلسفة كي يناقش أفكار القديس أوغسطين ويعلّق عليها. بل إنه يعتبر الرسالة موجهة الى الكنيسة كلها لا إلى القديس أوغسطين وحده. تتناول فلوريا بالنقد موضوعات عدة، يمكن اختزالها تحت عنوان هذه الرواية "الحياة في منتهى القصر". نعتمد النسخة الفرنسية، طبعة "سويْ" وجملة العنوان تتكرر في الرواية وتخترق فصولها وصفحاتها في صيغ مختلفة على لسان فلوريا "الحياة قصيرة جدّاً، الحياة في منتهى القصر، الحياة مفرطة في القصر..." لتبرّر معارضتها لأفكار القديس أوغسطين في مسائل عدة أهمها: تجاوز وساطة الكنيسة والتعميد واعتبار العلاقة مباشرة بالإله. الإلحاح على ضرورة التمتع بالحياة ما دامت من صنع الإله. وبالتالي عدم التفريط في ملذّاتها، بما فيها الشهوات الحسية، وهي تتوجه إليه بمثل هذه الذكريات: "أتذْكر كيف كنتَ تداعب جسدي الى حد قطف براعمه برعماً برعماً، قبل جعلها تتفتح؟ كم كنت تحبّ قطفي! كم كنت تنتشي بعطري!". ففي قرطاج عاشت فلوريا قصة حب عاصفة مع القديس أوغسطين. وأثمرت العلاقة ابناً سمّياه "أدْيُودَات". لكن والدة اوغسطين، وهي القديسة مونيكا التي تعرّفها كتب التاريخ "بتكريس حياتها لهداية ابنها" ظلت تعمل على إنهاء تلك العلاقة وإقناع ولدها بضرورة التعميد، الى أن نجحت في جعله يسافر الى إيطاليا، ويتتلمذ على الواعظ القديس امبروسيوس في ميلانو. يتدرّج أوغسطين في التنكّر لملذّات الدنيا. غير أن شبح فلوريا الشهوة الحسية يظل يلاحقه حتى في الحلم: "صورة تلك الملذات ما زالت ثابتة في ذاكرتي. تأتيني وقت السهر من دون عناء.لكنها خلال النوم لا تثير في داخلي اللذة فقط بل الموافقة على تلك اللذة ... فهل أكون شخصاً آخر غيري، يا سيدي، يا إلهي!" الاعترافات. أما فلوريا فتظلّ، على امتداد الكتاب، تذكّره بالمتع السابقة وبالكلمات العاشقة التي همس بها في أذنيها، وبشَعرها الذي كان يتشممه تحت شجرة تين في قرطاج: "على جسر الآرنو أوقفْتني بيد على كتفي وطلبت مني السماح لك بشم شعري قائلاً: الحياة في منتهى القصر. لِمَ نطقت بهذه الجملة؟ لِمَ أردت استنشاق شعري؟ ماذا تراك أردت القول وأنت تختم لقاءنا بتلك الكلمات؟". عندما تموت مونيكا، والدة أوغسطين، تتمكّن فلوريا أخيراً من زيارة روما. فيفصل بينها وبين ابنها. ويعود الى معاشرتها. غير أن علاقتهما تشهد توتّراً من نوع آخر، إذ يشعر بالذنب بعد معاشرتها وينهال عليها ضرباً "هل تذكر عنف ضرباتك؟ أنت أوريليوس أستاذ فنّ الخطابة، لقد ضربتني لأنك ضعفت أمام نعومتي. وهكذا حمّلتني ذنب شهوتك ... ثم انفجرتَ باكياً. كففت عن ضربي غير أن جسدي ظلّ ينزف. كنت تبكي وتحاول تهدئتي وتطلب مني العفو ... ثم طردتني الى قرطاج وبقيت فيها لا أعرف شيئاً عن أخبارك حتى موت ابننا اديودات بعد عامين...". وتختم رسالتها الطويلة بالقول: "أخاف مما قد تفعله الكنيسة لامرأة مثلي، لا بوصفها امرأة فحسب، إذ إن الله هو الذي خلقنا كذلك، بل لأنها موضوع إغواء بالنسبة إليكم، انتم الرجال، كما خلقكم الله ... لا أتوصل الى نسيان ما فعلته بي في روما. إن المرأة التي انهلتَ عليها ضرباً في ذلك اليوم، يا أسقفي العزيز، لم تكن أنا تحديداً، بل حواء، الخطيئة الأولى... وداعاً يا أسقفي الطيب. أنا الان جالسة تحت تينتنا العجوز في قرطاج. في هذه السنة أزهرت للمرة الثالثة. لكنها لم تعط ثمرة واحدة. اعتنِ بنفسك". ينتهي المخطوط، فيعود صوت المؤلف: "ترى هل أرسلت فلوريا بهذه الرسالة الى أوريليوس أم أنها خافت من رد فعل الكنيسة؟ أعتقد أنها فعلت. وظلت الرسالة تنتقل سراً تحت المعاطف طيلة تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. ولعلّ هذه النسخة كانت في أحد الأديرة وباعتها راهبة تحت إلحاح الحاجة المادية، في بوينس آيرس. وقد تكون وصلت الى العرب عندما فتحوا شمال افريقيا في القرن السابع ثم نقلوها معهم الى الأندلس وبعد العرب تولى الإسبان نقلها الى أميركا الجنوبية. وإذا كان القديس أوغسطين قد قرأها، فماذا كان ردّ فعله يا ترى؟ أما أنا فقد برهنت على سذاجة لا تصدّق عندما لم أطالب حتى بإيصال من مكتبة الفاتيكان". وهكذا نستنتج أن مخطوط فلوريا كان تاريخاً للأفكار المقموعة، أي الرأي الآخر الذي ظل يخترق القرون في ممانعة سرية، كأنه مخطوط لم ينشر، ولم يعترف به الفاتيكان حتى بعد وجوده، أو تخيل وجوده المواكب لما شهدته تلك الأفكار من تحقق. * كاتب تونسي.