ربما لم يعرف القرن العشرون موسيقياً خاض من المعارك، الموسيقية وغير الموسيقية، مقدار ربع ما خاضه هربرت فون كارايان. بل ان الرجل حتى بعد رحيله عن عالمنا يوم 17 تموز يوليو 1989، كان عرضة لشتى انواع الهجوم، ولا سيما من قبل تلك الاوساط التي كان همها ان تؤكد ان هذا الموسيقي الذي اعتبر اكبر قائد للأوركسترا انجبه القرن العشرون، "لم يكن في حقيقة امره سوى صبغة النازيين وكان متواطئاً معهم". هذا الكلام انتشر بسرعة وقوة خلال السنوات التالية لموت هربرت فون كارايان،غير انه سرعان ما اندثر، اذ ان الاوساط الموسيقية العالمية، ومستمعي الموسيقى - وهم المعنيون، اولاً واخيراً، بماضي فون كارايان ومسيرته -، فضلوا دائماً ان يتعاملوا معه كموسيقي محب للكمال ساع اليه، غير مفضل على الموسيقى اي شيء في العالم، بدلاً من ان يتعاملوا معه، كما شاء، خصومه، كمناضل سياسي وقف الى جانب هتلر. صحيح انه كان في حياة فون كارايان، بعض الظلال، ومن بينها تتلمذه على قائد الاوركسترا الكبير فورتفانغلر، الذي كان اتهم، بدوره، بممالأة النازية والسكوت عن جرائمها، ومن بينها ايضاً قيادته اوركسترا برلين السيمفونية في وقت كانت فيه الاوساط الموسيقية العالمية تقاطع كل ما هو الماني باعتباره صنوا للنازية والهتلرية، غير ان فون كارايان، كان دائماً ينفي عن نفسه اي لون سياسي قائلاً ان ما يهمه اخيراً هو الموسيقى، والموسيقى ولا شيء غير الموسيقى. ولأنه كان على حق في ذلك، اي على حق في التعبير عن موقفه الحقيقي، الموسيقي، من الحياة، كانت النتيجة انه رحل، وصمتت، ولو الى حين، الاصوات التي حاولت النيل من سمعته، بينما بقيت موسيقاه، وتسجيلاته التي تعد بالمئات، حية ينصت اليها هواة الموسيقى من دون هوادة. فون كارايان، على غرار موزار الذي احبه وخدم موسيقاه طوال ايام حياته، كن نمسوياً ولد وترعرع في مدينة الموسيقى والاوبرا وموزار، سالزبورغ. وهو درس الموسيى في تلك المدينة نفسها، متوجهاً منذ البداية ليكون قائد اوركسترا. ولقد كان اول ظهور له كقائد، في العام 1927 وكان في التاسعة عشر من عمره، وذلك في مدينة اولم حيث قاد اوركسترا المدينة وهي تعزف السيمفونية الاربعين لموزار. وبعد ذلك بفترة قصيرة من الزمن انتقل الى برلين حيث اسندت اليه قيادة فرقة موسيقى الاوبرا التابعة للدولة هناك، وهو ادى مهمته بنجاح، حتى وان كان ذلك هو ما سوف يؤخذ عليه بعد ذلك. مهما يكن في الامر فإن فون كارايان عاد في العام 1945 الى فيينا حيث تولى قيادة فرقتها الاوبرالية، وظل طوال السنوات العشر التالية يتنقل بين اشهر الفرق واكبر المهرجانات في العالم مكوناً لنفسه اسماً كواحد من المع قادة الاوركسترا في ذلك الحين. ولقد ظل ذلك دأبه حتى العام 1955، حين عاد الى برلين مرة اخرى، ولكن هذه المرة كقائد لاوركسترا برلين السيمفونية، التي تعتبر واحداً من اعظم الفرق في العالم. ولقد ظل يقود تلك الاوركسترا حتى عام رحيله 1989، ومعها سجل اروع تسجيلات هذا القرن، من سمفونيات بيتهوفن التسع، الى معظم اعمال موزار، الى كونشرتو دفوراك للتشيلو والاوركسترا وصولاً الى بعض اجمل مؤلفات تشايكوفسكي وسيببليوس. وفي هذه التسجيلات التي كان فون كارايان يعتني بتفاصيلها كافة، كان هذا القائد الفذ ينحو دائماً الى الكمال، يهتم بازالة الغبار، وبتوزيع الكراسي وبعدد الآلات الوترية وبصحة العازفين وطعامهم. وهذا ما جعل النقاد يعتبرون دائماً ان قيادة فون كارايان لاوبرات موزار، على سبيل المثال، لا يعادلها شيء في تاريخ الموسيقى. مهما يكن في الامر، فإن هذا النمسوي الذي تبنته المانيا، مات وفي قلبه حسرة، يوم 17 تموز يوليو 1989، اذ ان الضغوط التي اشتدت عليه في شهور حياته الاخيرة، جعلته يبتعد عن اوركسترا برلين بعد اربعة وثلاثين عاماً من العيش المشترك، ومن حكاية العشق بينه وبين هذه الاوركسترا. وهكذا قضى ذلك الفراق عليه، هو الذي كان قد تمكن من البقاء على رغم تعاقب العهود والحروب والصراعات والانظمة، وكان يقول دائماً، انه يعيش من اجل الموسيقى ولن يقتله سوى غياب الموسيقى. وكان له ما اراد الصورة: فون كارايان يقود اوركسترا برلين السيمفونية.