تتشابك اتجاهات الحدث الإيراني على نحو يصعب معه فهم تقارباته وتباعداته. إذ بينما تقرر محكمة دينية إغلاق صحيفة إصلاحية جديدة، وتصدر محكمة ثانية أحكاماً بسجن يهود إيرانيين، وتبرىء أخرى ساحة رئيس شرطة متهم بهجوم مسلح على نزل جامعي، وتطلب رابعة مثول ناشر صحيفة إصلاحية أخرى أمامها، يزور الرئيس محمد خاتمي برلين ويحاول طمأنة المسؤولين الألمان، ومن ورائهم الأوروبيين وخصوصاً الأميركان الى أن إيران في ظل حكم وبرلمان اصلاحيين أصبحت مؤهلة للخروج عن عزلتها السياسية والاقتصادية من الباب الأوروبي. في خضم هذه التعقيدات قد يسهل القول إن المصادر الرئيسية لهذه الأحداث المتشابكة هي الصراع المحتدم بين تياري اليسار الإصلاحي واليمين الديني المحافظ. لكن ما يصعب فهمه هو الاختلالات التي تكمن داخل دائرة هذا الصراع. وما يوضح وجود هذه الاختلالات أن تيار اليمين الديني الذي ذاق ثلاث هزائم انتخابية متتالية: الرئاسية 1997 والبلدية 1998، وأخيراً البرلمانية في العام الجاري، لا يزال يتصرف ويقرر ويبادر متخذا اجراءات وسياسات توحي كأنه لم يذق أياً من هذه الهزائم أو كأنه المهيمن الفعلي على مؤسستي الحكم والبرلمان اللتين يسيطر عليهما التيار الإصلاحي. وهذا في الوقت الذي يبدو فيه الاصلاحيون الذين سجلوا في الانتخابات الثلاثة فوزاً ساحقاً، كأنهم معارضون لا يتمكنون من تحقيق مطالبهم إلا عن طريق الاعتراضات والاحتجاجات والتظاهرات. وآخر الأمثلة على ذلك، التظاهرات الطلابية التي شهدتها جامعة طهران في ذكرى انتفاضة العام الماضي. في هذا الصدد، يمكن فهم القوانين وآليات الصراع التي تخلق المبررات لمثل هذه الوضعية. كذلك يمكن تقدير الخطورة الهائلة التي تكمن في انفجار هذه الآليات وتحولها إلى مواجهات دموية في شوارع طهران وبقية المدن الكبيرة. لكن ما يصعب، أيضاً، فهمه يتجسد في نقطتين رئيسيتين: الأولى، تعمد خاتمي ان لا يستثمر، أو عجزه عن استثمار، الفوز الشرعي لتياره في الانتخابات الثلاثة باتجاه تنفيذ برامجه الإصلاحية. ومن ذلك، مثلاً، اصلاح وضع الجامعات وتحديد سلطة المحاكم غير القانونية وفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، إضافة إلى حماية حرية الصحافة والتعبير. والثانية، تفضيله التطلع إلى اجراء تحولات في سياسة بلاده الخارجية على أمل أن تساعده في حال حصولها، في بدء عملية اصلاح الوضع الداخلي الإيراني. والأرجح أنه يعتقد ان أي نجاح يحرزه في كسر عزلة بلاده، خصوصاً عن الدول الغنية في أوروبا كالمانيا وايطاليا وفرنسا وبريطانيا، وعن اميركا بالاخص، سيساعده في تحسين الوضع الاقتصادي وحل المشكلات المعيشية داخل إيران، ما يزيد في تعريض قاعدته الشعبية ويمكّنه من الوقوف في وجه المتشددين. لكن المشكلة بالنسبة إلى الاسلوبين الموصوفين أعلاه اللذين ينتهجهما خاتمي ان التيار الآخر يعرف جيداً أهمية صرف انتباهه وانتباه مؤيديه عن الوضع الداخلي والوعود الانتخابية التي قطعوها للناخبين، واشغالهم بدل ذلك بتعقيدات ترتيب العلاقات الخارجية الإيرانية مع دول عربية، كمصر مثلاً، وأوروبية كايطاليا والمانيا وغيرهما. من دون شك، لا يعني هذا الكلام ان التيار المتشدد يريد من خاتمي أن ينجز شيئاً على الصعيد الخارجي، إنما يعني أن المتشددين يعرفون ان لا افق أمام نجاح أي سياسة خاتمية غايتها انفتاح خارجي أو علاقات جديدة أو حوار حضارات، من دون تحولات داخلية تضمن ديمومة الانفتاح واستمرار العلاقات الجديدة والحوار بين الثقافات والحضارات. واستطراداً، لن يمكن للمستثمرين الألمان الذين استمعوا جيداً إلى كلمات خاتمي عند زيارته برلين، ان يوجهوا أموالهم واستثماراتهم إلى أسواق إيران في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإيراني مشكلات عويصة، ويفتقر إلى الشفافية القانونية المطلوبة لاستيعاب تدفق الاستثمارات الأجنبية. كذلك لا يمكنهم دخول تلك الأسواق في وقت تفرض الدولة سيطرتها الحديدية على نشاطاتها، ان في شكل مباشر أو غير مباشر، عبر منظمات ومؤسسات تابعة لها كمؤسسة المستضعفين. وما يفاقم تعقيد هذه الحال ان المؤسسات والمرافق الاقتصادية الإيرانية الاهم تقع ضمن دائرة نفوذ التيارات الدينية المتشددة. وهذا ما يجعلها عاجزة عن التناغم الطبيعي مع النشاطات الاستثمارية الأجنبية. إلى ذلك، لا يمكن للمستثمرين، ألماناً كانوا أو غير ألمان، ان يتجاوبوا مع دعوات خاتمي الحارة الى رفع مستويات التعاون التجاري والاقتصادي إلى مستويات كبيرة، بينما التشنجات السياسية تعتصر المجتمع الإيراني وسجل حقوق الإنسان لا يني يزداد اسودادا والمحاكم الدينية الخاصة تواصل تشديد قبضتها على الحياة العامة، فيما أجهزة الأمن السرية تجعل من إقامة أي عامل أو خبير أجنبي في إيران مغامرة غير محسوبة النتائج. الواضح ان دعوات من قبيل حوار الحضارات والثقافات والشرق والغرب، تلقى دائماً أذناً مسموعة في الغرب إذا كان داعيها خاتمي أو رئيس أي دولة أخرى. والواضح ان هذه الدعوات توفر أرضية جيدة لإقامة أسس التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول. لكن الأوضح من ذلك كله ان هذه الدعوات تظل مجرد تمنيات وكلام طيب لا يمكن أن يعبر سوى عن سريرة طيبة في حال غياب المقومات الرئيسية لتجسيدها على الأرض. في إيران الراهنة التي يأمل خاتمي، بكل جد واخلاص وتفان، في تحويلها إلى إيران مختلفة، لا تبدو في الافق فرص واقعية لمثل هذه الحال طالما ظلّ الاصلاحيون الحكّام - الذين يملكون في الوقت نفسه أغلبية ساحقة في البرلمان - مجرد قوة معارضة لا تجد مكاناً للتعبير عن مطالبها سوى باحات الجامعات. خاتمي لا يزال يملك رصيداً شعبياً هائلاً. وبرامجه الاصلاحية تلقى تأييد قطاعات واسعة من الإيرانيين. والأرجح ان الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد عام تقريباً ستعود به إلى الرئاسة. لكن مع هذا كله، يعرف المهتمون بالشأن الإيراني ان أصواتاً شابة بين الاصلاحيين ممن كانوا معروفين بتأييدهم الجارف له ولطروحاته، لم يترددوا في التظاهرات الطلابية الأخيرة في جامعة طهران في توجيه انتقادات علنية إلى رئيسهم الاصلاحي واسلوبه في إدارة الصراعات.