بما ان كل الطرق الى لبنان تمرّ في سورية، فقد حرص الرئيس الاميركي السابق جورج بوش على التقيّد بهذه القاعدة اثناء زيارته الخاصة لبيروت في عهد الرئيس الياس الهراوي. وفي دمشق لبى جورج بوش دعوة الرئيس الراحل حافظ الأسد الى مأدبة عشاء تخللتها أحاديث سياسية متنوعة. ولما شعر الضيف الأميركي بأن وتيرة النقاش حول ازمة الشرق الاوسط ازدادت حدّة، اختار موضوعاً آخر بهدف تغيير مجرى الحديث. قال انه رأى على شاشة التلفزيون مشهداً أثار غضبه وامتعاضه، عندما سلّطت الكاميرا أضواءها على امرأة روسية مسنّة بادرت الى تسديد صفعة قوية على وجه غورباتشوف أمام حشد من الناس. وذكر بوش ان الجمهور المتحلّق حول الرئيس السوفياتي السابق لم يردعها او يؤنبها، خصوصاً عندما اتهمته بتدمير الاتحاد السوفياتي وإفقار الشعب وتخريب النظام. وعلّق بوش على الواقعة بلهجة المؤيد لغورباتشوف، لأنه في نظره أعتق المنظومة الاشتراكية من الخوف الذي زرعه ستالين في النفوس، واستبدل النظام الشيوعي الموجّه بنظام السوق وسياسة الانفتاح والمنافسة الحرة. قبل ان يتمادى الرئيس الاميركي في تعداد الإنجازات التي حققها غورباتشوف، طلب الرئيس الأسد من المترجم ان ينقل الى ضيفه اعتراضه على التفسير الخاطئ، معرباً عن تعاطفه مع السيدة الروسية التي عكست بحركتها العفوية مزاج المواطن العادي. واسترسل الأسد في إظهار الاخطاء السياسية المميتة التي ارتكبها غورباتشوف يوم أمر بحلّ الحزب الحاكم وتدمير بنية القوات المسلحة. وبسبب اتباعه هذا النهج المناهض لطبيعة الحكم، وقع الانهيار الكبير الذي أدى الى الشلل السياسي والفوضى الاقتصادية. اختصر الرئيس السوري الراحل في تعليقه اهمية الحزب والجيش في استقرار النظام السوفياتي السابق قبل إزالة هاتين القاعدتين اللتين ترتكز عليهما قوة النظام، وبناء على هذا التصوّر ظل محافظاً على صمود موقعه على رغم الانهيارات المتلاحقة التي حلّت بالدول الحليفة والصديقة لموسكو. وبدلاًَ من ان يقلّد نموذج غورباتشوف في "البيريسترويكا"، آثر تقليد النموذج الصيني الذي تعاطى مع حركة التغيير العالمية بحذر وبطء، تماماً مثلما فعلت كوبا وكوريا الشمالية. وربما تشكّل سورية مع هاتين الدولتين النماذج السياسية الوحيدة التي خلفتها المرحلة السابقة، اي مرحلة الحرب الباردة. يوم الاثنين المقبل الموافق 17 تموز يوليو - شهر الثورات - سيؤدي الدكتور بشار الاسد القسم على ولاية رئاسية اولى مدتها سبع سنوات تنتهي في 17 تموز سنة 2007. ومن المتوقع ان يرسم في خطابه امام مجلس الشعب الخطوط الاساسية للمرحلة الجديدة. وهي مرحلة بالغة الاهمية لأنها ستُعنى بتحديث النظام من خلال حركة تصحيحية راديكالية ستؤثر على بنية المؤسستين المركزيتين، الحزب والجيش. ولقد أُنيطت به مثل هذه المسؤوليات السياسية والعسكرية باعتباره القيّم على ثلاث مهمات متلازمة: رئاسة الجمهورية، والامانة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، والقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية. وبما ان سورية عانت كثيراً من مساوئ الانقلابات العسكرية والحزبية المتواصلة، لذلك حرص الرئيس الراحل على مواجهتها بإحداث انقلابات مضادة سُميت "الحركات التصحيحية". ولقد دشّن القادة السوفيات هذا النمط من الحركات السياسية الهادفة الى اعادة ترتيب الاوضاع الداخلية بما يتناسب والدور الجديد الذي يُعدّه الحاكم لنفسه ضد خصومه، او ضد المُسيئين الى نظامه. ففي عام 1970 أُعلنت الحركة التصحيحية الاولى، ثم تبعتها حركة تصحيحية ثانية داخل الجيش عقب تمرد "الاخوان المسلمين" عام 1982. وبعد مرور سنة اجرى الاسد حركته التصحيحية الثالثة داخل اللجنة المركزية اثر خلافه مع اخيه رفعت، الامر الذي أدى الى الغاء سلطة الأخير وتصفية جماعته، وتغيير تركيبة فرقه "سرايا الدفاع". اي الفرقة التي تحمل الآن اسم وحدة 569 ويتولى قيادتها العقيد ماهر حافظ الاسد. اما "الحركة" الرابعة فقد بدأت قبل اربعة اعوام بتدشين حملة واسعة قام بها الدكتور بشّار بدعم من والده. واستند في بداية عمليات الملاحقة على معلومات جمعها شقيقه الراحل باسل ضمن ملفات عُرفت بملفات "الامن الاقتصادي". واضطر بشّار الى توسيع حملة مكافحة الفساد ومحاسبة المقصّرين والمسيئين لمؤسسات الدولة، الامر الذي انتهى بإقالة 32 مسؤولاًَ في الحزب والجيش وإحالتهم على التحقيق. ومن المتوقع ان تستمر عملية اعادة النظر في خطة الانتساب الى الحزب بحيث يتعرض لتنظيف صفوفه من العناصر المنتفعة. ويستدلّ من مضمون الخطاب الذي ألقاه الدكتور بشّار في الجلسة النهائية للمؤتمر التاسع لحزب البعث الحاكم، انه ميّال الى تطوير شعارات الحزب بطريقة مرنة لا تسمح بالتدخل في اعمال الادارة والسلطة، كما لا تسمح في الوقت ذاته للسلطة الادارية بأن تهيمن على المؤسسة الحزبية. وهذا يستدعي بالضرورة اعتماد العناصر الشابة المؤهلة لتحمّل المسؤوليات القيادية، ووضع قوانين حديثة تحقق التوازن بين المهمات الحزبية والصلاحيات الادارية. ويبدو ان عملية التحديث والاصلاح تخضع حالياً لمراجعة كاملة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي. وهي تكتسب قوة التجديد عن طريق تحسين المناخ الاستثماري، وتطوير اجهزة الدولة والرقابة، وتوسيع قاعدة القطاع الخاص بعد ازالة العوائق البيروقراطية. ومن المنتظر ان تصدر خلال الاشهر الثلاثة المقبلة مجموعة انظمة مالية وادارية تتيح للمؤسسات الخاصة حرية العمل وفق سياسة ضريبية عادلة تشجع على زيادة الانتاج والتصدير. يقول المراقبون في دمشق ان الرئيس الراحل حافظ الأسد حاول تعبيد طريق السلام الخارجي أمام نجله بشار لكي يسهل عليه الانصراف الى مهمته الداخلية. ولكنه فوجئ بالموقف المتبدل الذي وقفه الرئيس بيل كلينتون في مؤتمر جنيف، وكأنه يوافق بحياده على العرض الاسرائيلي القاضي ببقاء قوات الاحتلال على الضفة الشمالية الشرقية لبحيرة طبريا. ثم تأكد بعد وفاة الرئيس الأسد ان الحكومة الاسرائيلية هي التي ضغطت على الرئيس الاميركي لمنعه من المساهمة في احداث اختراق على المسار السوري. وتقول الصحف الاسرائيلية ان ايهود باراك تلقى معلومات عن اعتلال صحة الأسد شجعته على رفض التفاوض بحجة ان الوضع السوري بعد موت الرئيس، سيتعرض للاهتزاز بشكل يحول دون مواصلة عملية التسوية. ويبدو ان اسرائيل وزعت معلوماتها على العواصم الغربية التي توقعت بدورها حصول اضطرابات في حال وفاة الأسد قبل ان يسلم نجله مقاليد الحكم. وكان هذا التنبيه كافياً لتخفيض مستوى تمثيل الدول الغربية في الجنازة، باستثناء مشاركة جاك شيراك الذي قوبل حضوره بالشكر والمديح. ولكي تعوض حكومة طوني بلير عن قصورها، دعت مع حزبي "المحافظين" و"الأحرار" الى حفلة تأبين تناوب فيها الخطباء على تكريم ذكرى حافظ الأسد. وكانت لهذه الخطوة المفاجئة دلالات سياسية بعيدة المدى تؤكد حصول تقارب بين لندنودمشق. من هنا تتوقع الصحافة البريطانية ان تلعب حكومة طوني بلير دور المرمم لمشروع السلام على المسار السوري الى حين انتخاب رئيس اميركي جديد. الرئيس الراحل كان متخوفاً ان يدركه الموت قبل استكمال عملية ترسيخ دور نجله ضمن مؤسستي الحزب والجيش. لذلك وضع وصيته على شكل برنامج واضح حدد فيه أساليب المواجهة لمختلف الصعوبات والعراقيل الداخلية المحيطة بموضوع الارث السياسي. ونصح بضرورة استباق الاحداث لتنفيذ وصيته فور وفاته، لا بعد أربعين يوماً كما تقضي الاعراف. وكان قلقاً من اضاعة الفرصة... ومن دخول عناصر غير متوقعة قد تفسد حال الاستقرار التي ميزت عهده طوال ثلاثين سنة. وبناء على هذه الوصية طبق البرنامج بحذافيره بمعاونة وزير الدفاع العماد أول مصطفى طلاس والعميد بهجت سليمان، مدير المخابرات العسكرية والعميد آصف شوكت، وثلاثة من اللجنة المركزية. وقاده الاهتمام بتفاصيل هذه الوصية ان طالب حافظ الأسد، بأن تقام له جنازة شعبية يشترك فيها المواطنون، وان يصلي على جثمانه شيخ سني حدده بالاسم. وهذا ما أحدث بعض الإرباك في الجامع، الى ان حسم الأمر بالامتثال الى رغبة المتوفى. مع دخول سورية عهد التواصل، تتساءل الصحف عن الأولويات التي سيباشر بها الفريق الدكتور بشار الأسد تدشين ولايته، وما اذا كان لديه تصور سابق وضعه خلال تجربته كرئيس وريث. اختصر الجواب على هذه التساؤلات الدكتور بشار في حديث مسهب أجرته معه مجلة "الوسط" في شهر آب اغسطس الماضي. قال ان لديه برنامج حكم، لكن البرنامج يحتاج الى قيادة تقرر... والى آلة تنفيذية. و"مع ان عناوين برنامجي مستوحاة من خطاب السيد الرئيس، الا ان التأكيد عليها يشير الى أهميتها... والى ضرورة زيادة وتيرة عملية التحديث في سورية بسبب سرعة قطار العصر. المهم في نظري، هو ان يتنبه الشخص المختار لتبوّؤ منصب معين الى أمرين: أولاً - ان يكون المسؤول على مستوى المنصب بحيث يستحقه. ثانياً - ان يمكنه هذا المنصب من تنفيذ الافكار التي يبني عليها برنامجه، على اعتبار ان المناصب هي مجرد وسائل لتحقيق الاهداف وليس العكس". يستدل من النشاطات السابقة ان الدكتور بشار الأسد سيكمل ما باشر بتنفيذه منذ أربع سنوات تحت اشراف والده ومراقبته. وربما يبدأ بمعالجة الوضع الاقتصادي وتطوير البنية التحتية الصناعية وزيادة الانتاج على نحو يزيد الاستثمارات ويرفع مستوى المعيشة. ومع انه يعتبر الحزب الحاكم القوة المركزية للنظام، إلا انه قد يسمح لاحزاب "الجبهة التقدمية القومية" بممارسة نشاط مضبوط، خصوصاً وان جميع الجبهات القومية واليسارية والأصولية أيدت انتخابه، وتوقعت ان يرفع عنها الحظر. وربما يتأخر اعلان هذا الموقف الى حين تثبت المؤسسة العسكرية من ان تعدد الاحزاب لن يخل بالمعادلة الحساسة التي وفرت لسورية الاستقرار وأبعدتها عن مرحلة الانقلابات. ويتوقع الصحافيون في دمشق ان يدشن الرئيس الجديد عهده بإطلاق سراح عشرات المعتقلين السياسيين المنتمين الى "حزب العمل الشيوعي" و"الاخوان المسلمين" وأحزاب محظورة اخرى. في مطلق الاحوال، تبقى الأشهر الستة الأولى مرحلة اختبار بالنسبة للدول التي تراقب باهتمام أداء الرئيس الجديد. أي الأداء الذي يجعله أكثر مرونة في القضايا الاقتصادية، وكل ما يؤمن الحلول لمشاكل سورية المعقدة. وهو بالتأكيد سيولي اهتماماً خاصاً بالتكنولوجيا لعله ينقل البلاد الى عصر المعلومات والانترنت. كما يجعل من النزاع مع اسرائيل النقطة المركزية في سياسته الخارجية، تماماً مثلما فعل والده... ومثلما أوصى دستور الحزب الذي يحكم بشار الأسد باسمه. بعد توليه الحكم خلفاً لوالده الملك حسين، سئل الملك عبدالله الثاني، عن مدى تقيده بتوجيهات العاهل الراحل وخطه السياسي؟ فأجاب الملك الشاب على سؤال مراسلة "سي.ان.ان" كريستيان أمنبور بالقول: طبعاً، سألتزم وصايا والدي وسأحاول تقليده في كل الخطوات، انما أريد ان اؤكد لك انني لست والدي! وهذا الجواب ينطبق على وضع الرئيس بشار الأسد ايضاً. * كاتب وصحافي لبناني