«ايها الإخوة والأبناء: الموت للإخوان المسلمين المجرمين، والمأجورين الذين حاولوا نشر الفوضى والدمار في الوطن. الموت للإخوان المسلمين الذين استأجرتهم المخابرات الاميركية والرجعية والصهيونية». بهذه العبارات خاطب الرئيس السوري حافظ الاسد الجماهير الصاخبة التي حملته على الاكتاف في شوارع دمشق من قصر الضيافة الى البرلمان (7 آذار / مارس – 1982). وكان ذلك الخطاب بمثابة إيذان لنهاية معارك ضارية استمرت ثلاثة اسابيع في مدينة حماه المطوقة من اربع جهات بواسطة دبابات الجيش النظامي والوحدات الخاصة وسرايا الدفاع. وقد سقط في ذلك النزاع الداخلي عدد كبير من المسلحين قدّره البعض بثلاثة آلاف قتيل، بينما ضخّمته صحيفة «واشنطن بوست» وقالت انه تجاوز العشرين ألف قتيل. ومع ان أقمار التجسس الاصطناعي الاميركي التقطت مجموعة صور للمساجد التي هدمت عندما لجأ اليها «الاخوان المسلمون»، إلا ان ذلك لم يكشف عن حقيقة عدد القتلى. ووفق ما اوردته الدراسات التي قامت بها منظمة العفو الدولية، فإن عدد الضحايا من الجهتين، لم يتجاوز التسعة آلاف قتيل. وحول الاسباب التي قدمها الرئيس حافظ الاسد لتفسير الاضطرابات في حماه، اتهم في حينه الولاياتالمتحدة وإسرائيل وألمانيا والاردن، باستخدام «الاخوان المسلمين» كأدوات لتشجيع العصيان ضد النظام. ورأى ان معارضته القوية لمعاهدة كامب ديفيد ودعمه المطلق لثورة الخميني، سببان مهمان لإثارة دوافع الانتقام في أحداث مفتعلة. هذا بعض ما واجهه رئيس النظام السوري من متاعب قبل 28 سنة. واليوم يتكرر المشهد مع نجله الرئيس بشار الاسد، وانما في اكثر المدن السورية وليس في حماه فقط، مع تغيير كامل في قائمة الاولويات والمطالب الشعبية. ولكن الاسد استبق وصول حركة التمرد الى سورية بإجراء حديث مع صحيفة «وول ستريت جورنال» عبّر فيه عن انتقاده للاوضاع المهترئة في تونس ومصر. ووصف ما حدث في البلدين العربيين «بأنه نتاج مياه آسنة لا يمكن ان تخفي في جوفها سوى الجراثيم والامراض». وكان بهذا التفسير يريد الايحاء للرأي العام بأن بلاده محصنة ضد الامراض السياسية، ومستثناة من زلزال التسونامي الذي ضرب العالم العربي. وعندما خيبت درعا آماله، اعترف امام البرلمان بأن سورية تتعرض لمؤامرة تعتمد في توقيتها وشكلها على ما يحصل في الدول العربية. ووعد بإجراء سلسلة اصلاحات لتلبية حاجات الناس، بينها إلغاء العمل بقانون الطوارئ المعمول به منذ سنة 1963. وكان بذلك يرمي الى تهدئة الشارع الغاضب المطالب بقوانين تضمن اغلاق ملف الاعتقال السياسي ووقف العمل بقوانين محكمة امن الدولة، وحرية تشكيل الاحزاب، وإلغاء المادة الثامنة التي تنصّب حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع. وترى المعارضة السورية ان هيمنة الحزب الواحد على مصير البلاد والعباد منذ اعلان الحركة التصحيحية قبل 41 سنة، لم يعد امراً مقبولاً في عالم تعدد الاحزاب واختلاف الآراء. ولما اتسعت حركة الاحتجاج والعصيان، اتهمت الحكومة في دمشقالولاياتالمتحدة وإسرائيل والعراق والاردن ولبنان، بإثارة الاضطرابات ومحاولة تمرير اسلحة الى المعتصمين. وقد وظفت وثائق «ويكيليكس» لتأكيد مزاعمها بأن واشنطن ضالعة في عمليات التحريض على النظام السوري. وتكشف تلك الوثائق ان وزارة الخارجية الاميركية قدمت دعماً مالياً لجماعات المعارضة السياسية السورية والبرامج الخاصة بها، ومن بينها القناة التلفزيونية «بردى». وهي قناة باشرت البث من لندن في نيسان (ابريل) سنة 2009. وتنقل في شكل متواصل الاحتجاجات الشعبية من سورية كجزء من حملة اسقاط النظام. وكان من الطبيعي ان تكثف حملتها عقب انفجار الشارع في درعا يوم 18 آذار الماضي. صحيح ان الرئيس الاميركي السابق جورج بوش هو الذي صادق على تمويل حملة المعارضة السورية... ولكن الصحيح ايضاً ان خلفه اوباما استمر في عملية الدعم، على رغم تعيينه اول سفير لأميركا في دمشق خلال ست سنوات. وبرر اوباما ممارسة سياسة «العصا والجزرة» مع دمشق بالقول انه يريد اعادة بناء علاقات طيبة مع بشار الاسد بهدف إبعاده عن ايران. يقول المراقبون ان الحلف الذي اقامه الاسد الأب مع نظام الخميني كان رهاناً رابحاً للطرفين، خصوصاً بعد انقلاب ايران من دولة مؤيدة لاسرائيل في عهد الشاه، الى دولة معادية في عهد الملالي. وقد قوبل هذا الخيار باعتراض دول عربية مؤيدة لعراق صدام حسين. ولكن حافظ الاسد ظل مقتنعاً بصوابية موقفه، لأن صدام كان يمثل لنظام البعث السوري خطراً اقوى من أي خطر آخر. لذلك قام نجله بشار بتطوير علاقته مع طهران الى محور استراتيجي بلغ ذروته في السيطرة على لبنان بواسطة «حزب الله» وفي السيطرة على قطاع غزة بواسطة «حماس». كما نجح ايضاً في اخراج تركيا من الدائرة المؤيدة لإسرائيل. وفي ظل هذه التحالفات الاقليمية استطاعت ديبلوماسية بشار الاسد نقل سورية الى شاطئ الامان، وتحسين صورتها الخارجية كمعقل للعلمانية وسط بحر الطوائف والمذاهب. عندما وافق الرئيس بشار الاسد على القرار الذي اتخذه الجيش والحزب بضرورة محاصرة درعا وبانياس، ظهر ذلك القرار كمؤشر على تغيير اسلوب المعالجات التي اتخذت سابقاً. وواضح من طبيعة هذا التغيير ان الجيش والحزب لم يؤيدا اعفاء محافظ حمص اياد غزال الذي كان مرشحاً لخلافة رئيس الحكومة السابقة ناجي العطري، نظراً للإنجازات العمرانية التي حققها للمدينة. كذلك اعترض الجيش والحزب على التنازلات التي قدمت للأكراد من طريق الوعد بتجنيس 300 ألف كردي حرموا من الجنسية. ثم جاءت ردود فعل الاكراد لتطالب بإسقاط النظام والمناداة بمحاكمة رموزه. لهذه الاسباب وسواها قررت قيادة الجيش والحزب عدم الاصغاء الى نصائح انقرة وباريس والدوحة، على اعتبار ان الحرس القديم يرفض التنازلات المتواصلة التي تقود الى استسلام النظام. والثابت ايضاً ان النظام السوري المتوتر فشل في استمالة اجهزة الإعلام الخارجية المؤثرة. وقد ازعجه جداً اداء قناة «الجزيرة» التي تحولت الى اداة معارضة منذ بدأت حملة الاعتقالات في المدن السورية. ومثلما حمل وزير خارجية تركيا احمد داود اوغلو الى دمشق رسائل التهدئة والابتعاد من العنف، كذلك حمل مبعوثو أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني نصائح تطالب بعدم افراغ رئاسة الجمهورية من رصيدها الشعبي. والثابت ان تحالف الصداقة الذي اقيم بين الشيخ حمد والرئيس بشار، قد تعرض للاهتزار عقب الحملة الشرسة التي شنتها قناة «الجزيرة» ضد الحكومة السورية. وركزت وسائل الاعلام السورية على اتهام قطر بالعمالة لواشنطن، وعلى استخدام قاعدة «العديد» الاميركية مرأباً لطائرات حربية استخدمت ضد اهداف عربية. كما اتهمت دمشق حكومة قطر بأن طائراتها تشارك طائرات الحلف الاطلسي في ضرب اهداف ليبية! وفي رأي بعض المطلعين على سجل العلاقة بين البلدين، ان التحالف السابق خضع لعمليات مصالح مشتركة. ذلك ان قطر كانت تمول مشاريع إعادة إعمار الجنوب اللبناني بعد حرب صيف 2006. مقابل هذا العمل الاقتصادي المميز، سمحت سورية لقطر بملء الفراغ السياسي الذي احدثه تغييب الدور السعودي لدى الطائفة السنية في لبنان. وهكذا دخلت قطر من هذا الباب على مؤسسات اعلامية عدة ناجحة. ومعنى هذا ان فك الارتباط بين الدولتين يمكن ان يساعد دول مجلس التعاون الخليجي في بناء جسر المصالحة بين قطر والبحرين. ولكن تغيير المواقع يطرح اسئلة بالغة الحدة: ماذا يفعل اصدقاء بشار الاسد لإخراجه من الورطة التي فرضها عليه الشارع؟ «حزب الله» مرتبك لأن امينه العام السيد حسن نصرالله أيد «الثورة» ضد الحكم الفاسد في مصر، وسرّه ان يرى معمر القذافي يواجه المصير الذي اختاره للإمام موسى الصدر سنة 1978. الولاياتالمتحدة بلسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، اعلنت ان بلادها لن تتدخل عسكرياً لإسقاط النظام، مثلما فعلت في ليبيا. والسبب ان انهيار النظام السوري يفتح الباب واسعاً امام ايران لاجتياح العراق والاستيلاء على الحكم في لبنان بواسطة «حزب الله». خصوصاً ان سقوط تحالفها الاستراتيجي مع سورية، يضطرها الى عدم مراعاة النظام الذي انتهى. اما بالنسبة الى تركيا، فإن قلقها على مصير سورية لا يعادله الا قلق ايران. والسبب ان سقوط حليفتها سيسرق اوراقها الشرق اوسطية ويجبرها على اقامة تحالفات جديدة ربما تعيد اسرائيل اليها. وكي لا تضطر الى اعتماد هذا الخيار الصعب، فقد اشيع في انقرة ان اردوغان سيقترح على الاسد الاحتكام الى استفتاء شعبي ربما ينقذه من دوامة العنف، ومن تهديد قيادة الجيش بانقلاب عسكري امتنع الرئيسان التونسي والمصري عن التعلق بأذياله! * كاتب وصحافي لبناني