العارض الصحي المفاجئ الذي أودى بحياة الرئيس حافظ الأسد يوم السبت الماضي، هو الثالث بعد عارضين مماثلين داهماه عامي 1972 و1983. ومع انه خلال المعالجة السريعة الاولى استطاع ان يخفي النبأ المُقلق حتى عن ضباط القيادة… إلا ان نقله الى مستشفى "الشامي" يوم 12 من تشرين الثاني نوفمبر 1983، لم يترك أي مجال للتكتّم او لحجب الحقيقة. وكان من نتيجة وقوعه آنذاك في غيبوبة عميقة وطويلة، ان تضاربت الأخبار حول مدى خطورة وضعه الصحي، الأمر الذي استغلته الصحف الغربية لتشيع ان الحكومة السورية تكتّمت على اعلان النبأ بانتظار الاتفاق على الوريث السياسي. ويبدو ان الادارة الاميركية يومها تلقت معلومات مُضللة بخصوص الأسد، بدليل ان الرئيس ريغان أبلغ أحد الحكّام العرب نبأ الوفاة مؤكداً له ان رفعت يسيطر على الوضع. وظلت موجة الغموض تتنامى فوق أعمدة الصحف الاجنبية طوال مدة المواجهة بين معسكر رفعت الأسد سرايا الدفاع من جهة… وبين معسكر علي حيدر القوات الخاصة وعدنان مخلوف وشفيق فياض، من جهة اخرى. وفجأة ظهر الرئيس حافظ الأسد وسط القوات المستنفرة، ليحسم الخلاف بطريقة حازمة، أنهت نفوذ رفعت، ودفعته الى مغادرة البلاد. يوم الاحد الموافق 30 نيسان ابريل الماضي نشرت صحيفة "صانداي تلغراف" البريطانية خبراً مفاده ان الرئيس حافظ الأسد أصيب بجلطة، وانه يعاني من اشتراكات السكّري والتهاب الأوردة، الأمر الذي أضعف قلبه وعرّضه لخطر الوفاة المفاجئة. وادعت الجريدة انه أُعطي جرعات اضافية من المنشطات قبل اجتماعه بالرئيس كلينتون في جنيف، وان تغيّبه عن مناسبتين وطنيتين يؤكد الانباء المتعلقة بتدهور صحته. وتوقعت الصحيفة حصول صراع على السلطة في حال تمت الوفاة قبل ان يُحسم دور الدكتور بشّار الأسد في عضوية القيادة القطرية ونيابة الرئاسة. واستندت "التلغراف" في تحليلها الى احداث 1983 لتشير الى احتمال وقوع ازمة خلافة بسبب تدخل رفعت الأسد. نشرة "فورين ريبورت" السرية توسعت في تفاصيل الخبر، واكدت بشكل جازم ان الرئيس حافظ الأسد يعيش اياماً محدودة بسبب تدهور وضعه الصحي، وان الاطباء يحذّرونه من مساوئ الارهاق. ولما استوضحت الحكومة الاسرائيلية عن حقيقة هذه الانباء، تلقت من سفارتها في باريس معلومات اضافية مستندة الى مصادر الخارجية الفرنسية تؤكد تعرض الرئيس السوري لانتكاسة صحية حادة منعته من مزاولة نشاطه المعتاد. وتخوّفت المصادر الفرنسية الرسمية من ظهور انقسامات داخل القيادة يستفيد منها رفعت الأسد في حال توفي الرئيس قبل ان يرسّخ مكانة نجله في الحكم. ويبدو ان الكلام الذي نُسب الى الوزير الفرنسي هوبير فيدرين حول تشكيكه في قدرة الدكتور بشّار على الاستمرار طويلاً في الحكم، يعكس تصوّر الخارجية قبل حصول الوفاة… وقبل ترتيب عملية انتقال السلطة من دون إرباك او تشويش. الادارة الاميركية تعزو قرار الانسحاب الاسرائيلي المفاجئ من جنوبلبنان، الى مجموعة مصادر موثوقة وفّرتها الاجهزة الاوروبية التي أجمعت على تأكيد تدهور صحة الأسد. وفي ضوء هذه المعلومات اتخذ ايهود باراك قراره المنفرد بضرورة تقديم موعد الانسحاب لاقتناعه بأن "حزب الله" والمقاومة الفلسطينية ستتحرران من ضوابط التوجيه السوري. ومعنى هذا ان التقهقر الميداني سيتعرض للإرباك، الامر الذي يؤدي الى مزيد من الاشتباكات والضحايا. ولكي يتحاشى نتائج الانسحاب المتأخر في غياب رقابة الأسد، أمر باراك بالانكفاء المبكّر من دون ان يطلع وزراءه على ذلك خوفاً من تسريب الخبر. يمثل غياب الرئيس حافظ الأسد عن مسرح الاحداث، غياب زعيم استطاع خلال ثلاثين سنة ان يكون العنصر المؤثر في النظام الاقليمي. ولقد رسم لنفسه في اذهان المواطنين صورة شبيهة بصورة يوسف العظمة… وأعطى بلاده الصغيرة حجم الدول الكبرى، ودور اللاعب الأبرز في ازمة الشرق الاوسط. من هنا تبدو صعوبة المهمة التي سيضطلع بها نجله، خصوصاً وانه تعهد بالحفاظ على الخط السياسي الذي حدده والده، من دون ان يتخلى عن دعوته للاصلاح الداخلي ومكافحة الفساد الاداري. وعليه يتوقع المراقبون ان يكون المؤتمر القطري التاسع الذي سيفتتح اليوم في دمشق، منبراً لاعلان تبني سياسة حافظ الأسد، داخلياً وخارجياً. وهي سياسة معقدة سيسعى "الأسد الثاني" الى ضبط ايقاعها بطريقة تنسجم مع متطلبات العصر، خصوصاً وان والده كان قد منحه خلال السنوات الثلاث الماضية هامشاً من التحرّك يقضي بتصحيح مسار الحركة التصحيحية. ومثل هذا التصحيح ظهر في الحملة المُعلنة التي شنّها الدكتور بشّار لمحاربة الفساد. وأعتُبرت الحملة في نظر الحزبيين اول اختبار عملي لمدى تجاوب مراكز القوى المؤثرة مع التحول التدريجي في الحكم لصالح الإبن. كما أعتُبرت اول عملية سياسية لإقحام نجل الرئيس في العمل العام عن طريق تحديث اجهزة الدولة، ومحاربة الفساد المستشري وكان من نتيجة ذلك فتح التحقيقات مع اكثر من ثلاثمئة مسؤول في الجهازين الامني والاداري. وربما توقفت هذه الحملة موقتاً بانتظار التغييرات الهادئة التي ستُجرى في صفوف الحكم لصالح المرحلة المقبلة. الدول الاجنبية فوجئت بسلاسة انتقال السلطة، وبالطريقة السريعة التي جرت خلالها عملية المبايعة كأن الرئيس الوالد أعد السيناريو سلفاً، ثم أوكل الى عبدالحليم خدام المُلقّب "بميكويان العهود" مهمة التنفيذ. أي الرجل الذي اختاره في 11 آذار مارس 1984 ليكون نائبه الاول، وشاهداً على اقصاء نائبه الثاني شقيقه رفعت، بعد قيامه بحركة اعتُبرت تهديداً للنظام. ويقول السوريون للمراسلين الاجانب ان العاهل المغربي الشاب او الملك عبدالله بن الحسين، لم يتدربا على الحكم قبل وفاة والديهما… بعكس الدكتور بشّار الذي أمضى اربع سنوات في مدرسة والده. ومعلوم انه أمضى نصفها الاخير في زيارات عواصم عربية واوروبية بهدف استكشاف آفاق السياسة الخارجية والتعرف الى زعماء العالم. ويعني ذلك ان الرئيس الراحل كان يدرّب نجله على اسلوب الحكم، ويقدمه للرأي العام المحلي والعربي، كوريث جاهز لتحمّل المسؤوليات. وهذا ما قاله عنه صديقه الملك عبدالله بن الحسين الذي قدّمه على شاشات التلفزيون كمسؤول عصري التوجه، قادر على تطوير بلاده بطريقة تتماشى والتغييرات الحاصلة على الصعيد الدولي. الرئيس الاميركي كلينتون دعا سورية الى الاستمرار في دعم عملية السلام والانخراط في المفاوضات من اجل التوصل الى سلام نهائي في المنطقة. وهذا ما قاله للدكتور بشّار الأسد اثناء مكالمته الهاتفية للتعزية بوفاة والده. بل هذا ما حمّله للوزيرة مادلين اولبرايت التي مثّلت بلادها في جنازة الرئيس الراحل، وأعربت عن املها في ان يعطي تغيير القيادة في سورية دفعة جديدة لعملية السلام، ولكن ايهود باراك يشكك في احتمالات حدوث اختراق على المسار السوري قبل انقضاء ستة اشهر تقريباً بحيث يكون الحاكم الجديد قد ثبّت مكانته داخل الحزب والجيش والمخابرات والمؤسسات الرسمية الاخرى. وهو يتوقع ان يكون الدكتور بشّار متشدداً مثل والده، في الامور المتعلقة بالسيادة السورية والمصالح القومية. ومع ان فاروق الشرع سيكون الوزير المؤتمن على تطبيق مبادئ الديبلوماسية السورية، الا ان الرئيس الجديد سيشرف شخصياً على سير المفاوضات، تماماً كما كان يفعل والده. في حربه ضد الاجهزة البيروقراطية الآسنة، يصرّ الدكتور بشّار على فصل عملية الاصلاحات الاقتصادية عن عملية التسوية مع اسرائيل. وهو يرفض انتظار السلام الاقليمي لكي يعيد تنظيم خطط التحديث بطريقة تتلاءم وسياسة الانفتاح على نحو يعزز مناخ الاستثمار. ومن المتوقع ان يقوم بانتقاء فريق عمل يعهد اليه مهمة الاصلاحات الاقتصادية، واعادة بناء النظام التعليمي، وتجديد المؤسسات الرسمية على نحو بعيد عن الأيديولوجيات العتيقة والافكار المحنّطة الرافضة كل المتغيرات الدولية والاقليمية. وفي هذا السياق لا بد من ادخال دماء جديدة على المؤسسات الحزبية التي ولدت في الخمسينات، واستمرت تعمل بعقلية مراحل تاريخية بائدة. بعد اختيار الدكتور بشّار الأسد خلفاً لوالده تحدثت صحيفة "التايمز" الى الطبيب الاختصاصي الذي أشرف على تدريبه في مستشفى "سانت ماري بادينغتون". وعدد الدكتور ادموند شولنبرغ مزايا تلميذه فقال انه كان جدياً ومثابراً في تعاطيه مع جميع الامور العلمية. ووصفه بأنه يتحلى بخصال التواضع والابتعاد عن مظاهر البذخ او التبجح الى حد انه لم يذكر مرة واحدة انه نجل الرئيس السوري حافظ الأسد. ومعنى هذا انه كان يطلب من الاساتذة والطلاب معاملته بطريقة عادية لا تختلف عن الطريقة التي يُعامل بها رفاقه في الصف. ويقول البروفسور ادموند ان اختيار مهنة طب العيون تحتاج الى صفات خاصة أقلها هدوء الاعصاب، والقدرة على التركيز الطويل، والتحلي بالصبر اثناء القيام بعمليات جراحية لأغلى اعضاء الجسم. وقد تكون سورية من اكثر بلدان المنطقة خبرة بحكم الاطباء الذين تناوبوا على تحمّل مسؤوليات رئاسية ووزارية مدة طويلة من الزمن. ولكنها بالتأكيد لم تختبر بعد حكم اطباء العيون إلا في هذه المرحلة الصعبة. وهي تتمنى - كما يتمنى اللبنانيون - ان تساعد صفات الصبر والهدوء والتواضع والتركيز، الدكتور بشّار الأسد، على إنجاح العملية الجراحية المطلوبة لتحسين رؤية سورية الى نفسها اولاً، والى جاراتها ثانياً. * كاتب وصحافي لبناني.