تم التعارف بين ميخائيل وآنَّا قبل خمس سنوات، أثناء معرض في أورغوم. وكانت أورغوم مشهورة يوماً بمعارضها المرحة التي تقام على نُهير بيلَيا. كان ميخائيل أكثر من يحظى بالترحيب بين ضيوف المعرض، لأنه كان يعزف على آلة الهرمونيكا بالقرب من الأرجوحة الدوارة. هناك كانوا ينفخون في المزامير وينقرون الدفوف، غير أن الصدارة كانت للهرمونيكا. كان ميخائيل يعزف موسيقى الأغاني الراقصة في منطقة فياتكا، مثل "دبكة الحصان" و"أمواج الدانوب" و"كالينكا" طبعاً، ويدفعون له مقابل ذلك نصف روبل في الساعة. ليس المبلغ كبيراً، ولكن مع ذلك، وبصرف النظر عن هذه النقود كان ميخائيل يحب المعرض منذ الطفولة، يحب صخبه وألوانه البراقة والمناديل المارية ** الملوّنة، يحب عروضه التهريجية وفطائره وطبق اللحم بالعجين، يحب الغجريات المحتالات بتنوراتهن الزاهية الألوان، والفنانين الملتحين ذوي القبعات الضخمة، والباعة الدهاة، والنصابين المنبوذين. هناك تعرف بأنيوتا. كانت سمراء، رقيقة كأنها تطير. يتذكر ميخائيل الآن أنهما غادرا المعرض بواسطة الحصان الكولخوزي "غنيدكا"، إذ تركه له المدير أليكسي نيقولايفتش الذي دعاه أقرباؤه الى وليمة في المدينة. كان الحصان كميتاً والعربة مطلية بالقطران لضمان متانتها، أما ثوب آنَّا فكان أبيض كنُدف الثلج. حين جلست لم تتحرك خشبة واحدة في العربة، إذ شدَّ ما كانت خفيفة، كأنها من هواء. وطوال الطريق الى بينتيوخِنا كانت تعرب عن إعجابها بما رأت، وتتذكر أشياء مسلية وتضحك مثل طفلة. تقول له بصدق: - أنت اعتدت على ذلك، أما أنا فما زالت روحي تغني حتى الآن. ولم أرَ أبداً شبيهاً لهذا، لكنني كنت أعرف أن المعرض سيعجبني، فأنا أيضاً إنسان روسي و روحي تنطوي على شيء ما. هل تفهمني؟ فيرد عليها ميخائيل: - كيف لا أفهمك. دائماً كان والداي يعودان بي من المعرض بالقوَّة. كم كنت أبكي وأحاول الفكاك منهما! أظن أنني كنت قادراً على قضاء حياتي كلها في المعرض. - وهذه الأرجوحة الدوارة، ما أروعها! أنت تعزف هناك والناس يستمعون إليك ويطيرون حولك. كالطيور تماماً. - هذا ليس بفعل الموسيقى. تكفي هذه الألوان، المزاج. - لكن هناك... - ماذا؟ - في الأرجوحة الدوارة نفسها. كأنك تسمع وقع خطوات ما، كأن هناك من يركض... - حقاً، هناك يركضون. - أسرع ميخائيل بالجواب. - كيف؟ - إنهم رجال، يدوِّرون الأرجوحة من الداخل. هناك خشبة مثبتة على مركز، وهي تحمل الأرجوحة كلها، والرجال يركضون وهم يدفعونها بقوة ويدوِّرونها. - أحقاً هم رجال؟ - وكيف لا! بهذه الطريقة يكسبون المال. أنتِ عندنا لأول مرة، ولذلك لم تفهمي هذه الأشياء. - كنت أظن أن هناك آليَّةً ما. بعدئذ تزوَّج ميخائيل من آنَّا. وشيئاً فشيئاً دفعتهما الحياة الى مركزها الأساسي، فأرتهما أين وكيف يجب أن يدفعوها بقوة لتدور. تحوَّلَت آنّا من هشّة ورقيقة الى قوية وسريعة، أما ميخائيل فتحوَّل من عَجول ومتلهِّف الى صبور ومتأنٍّ. عملت آنا وفق اختصاصها ممرضة في مصلحة محلية صغيرة كان ينتجع فيها معظم مسؤولي المقاطعة... واستمر ميخائيل يعمل بتقطيع الأخشاب في قسم الوقود بالمنطقة. وفي الأرض التابعة لهذا القسم كان ثمة آلة لتقطيع الأخشاب منذ زمن بعيد، ولكن لم يتمكن أحد من تشغيلها، فتهرَّأت بالتدريج نتيجة الصدأ، وفككها الرجال بدافع الفضول. وفضلاً عن هذه الآلة المفككة كان ثمة في المركز أيضاً مدير دفعه الفراغ للعمل رئيساً لمجلس البلدة الذي قلّما كان يتردد عليها كذلك، إذ كان لديه سيارة من نوع "موسكوفيتش" حكومية، وكثير من المعارف بين مسؤولي المنطقة، واهتمام ملحوظ بالنساء الباهرات زوجات أولئك المسؤولين. بعد العرس عاش ميخائيل وآنَّا حياة جيدة، غير أن لحظات الإعجاب شرعت تقلل من زياراتها اليهما تدريجياً. ولكن كان بوسع كل منهما أن يعجب بصاحبه، وأن يعلّقا آمالهما على المستقبل السعيد. في الصباح كانت آنَّا تستيقظ قبله دائماً، فتنظر من النافذة علَّها ترى هناك شيئاً جديداً وغير عادي. لكنها في الغالب لم تكن تقع على أي شيء جديد فتسرع لتوقظ زوجها الذي يحبُّها حبّاً يجعله حتماً يقول لها قولاً طيباً للغاية. - إنهض يا ميشا. لقد استيقظت أنا فأصابتني الكآبة فجأة. أحقاً أن الحياة كلها ستنقضي الآن هكذا، من الداخل. - إنها أرجوحة دوّارة. - كلا، إنها الصباح. يردُّ عليها ميخائيل بصوت نعِسٍ أجش وهو ينهض على كوعيه وينظر عبر النافذة: - كل شيء ورديٌّ في البداية. حقاً، إن العنابر خلف النافذة وردية، والزريبة وردية، والسور وردي، وآثار الأقدام وردية على الثلج. وتحت تساقط نُدف الثلج يطيب للمرء أن ينام، والنعاس في الشتاء رقيق ومخملي. - ولماذا يا ميشا لا يزورنا أحد؟ - لأنه لا وقت لدى الناس. - ونحن لا نزور أحداً. - لا وقت لدينا أيضاً. - ومتى سنعيش؟ وفجأة، في الوقت المناسب تماماً، جاءهم من لينينغراد المهندس شقيق أنيوتا وحلَّ عليهما ضيفاً. إنه جميل، ينبض بالشباب، أحمر الوجنتين. قدّم هدايا للأطفال، حلوى وشوكولاته واثني عشر سروالاً مجورباً، حدثهما عن الحياة الثقافية في المدينة، قال إنه يزور معارض الفنانين الفردية، وشدّ ما أذهله إيليا غلازونوف، فهو بالغ الخصوصية، إنه فنان روسي جداً. أكد لهما فولوديا انه لم يندم على هجره القرية، وأثنى على حياته الميسورة المريحة في المدينة، ونصحهما بالاقتداء به قبل أن تبتلعهما القرية تماماً، وقبل أن يشتريا بقرة بقرنين. بحلول المساء أصبح ميخائيل يكن له شعوراً بالامتنان العميق، وأحس بنفسه أمامه حشرة صغيرة لا تفتقر فقط لما تفتخر به، بل ومن المحرج لها أن تتلفظ بشيء. لم يكن بوسع ميخائيل وهو ينظر الى فولوديا أن يتصوَّره واحداً من سكان القرية. ولكن لا ننسى أنه كان يركض يوماً عبر الأزقة الضيقة في القرية، بين الأسوار المائلة يطارد الدجاج والإوزّ. كان يذهب لاصطياد السمك في نهر فياتكا، سبح مع الجميع، ومع الجميع يتشمّس. وها هو الآن يعلو وجهه شيء من الشحوب، نظرتُه متسامحة، وبسمة ساخرة في زاويتي شفتيه الرقيقتين. ما سبب ذلك يا تُرى؟ لا شك في أن فولوديا جميل، إلا أن جماله على نحو ما أنثوي، شفّاف، جمال يليق بحياة أخرى لا يعرف ميخائيل عنها شيئاً... صباح اليوم الثاني عاد فولوديا يتحدث عن ليننغراد، وشعر ميخائيل كم هو وزوجته منقطعان عن الثقافة الرفيعة، كما يبدو. ثم ذهب الأخ مع أخته الى المطبخ. ظل ميخائيل مع الأطفال كأنه مشغول بهم، ولكنه لسبب ما راح ينصت للحديث بين فولوديا وأنيوتا. كانا يتكلّمان بصوت خفيض عن أمور حياتية جدية، وفجأة سألها فولوديا: - أحقاً أنه يعزف في معرض ما؟ ردَّت عليه باستهجان: - وماذا في ذلك؟ - هذا شيء متخلّف في زماننا. أحقاً لم يكن بوسعه الحصول على شهادة؟ - وهل تعتقد أن الحصول على شهادة يعفي من العمل؟ - لا، ولكن يعفي من العمل باليدين! وعموماً ما الشيء المشترك بينك وبينه؟ - الأطفال! البيت، الحياة، بل كل شيء. في البداية صعق ميخائيل بكلمات فولوديا، بل وتسنّى له أن يفكّر بالضمير، وبالحشمة وبغيرها من الأشياء المكنونة. ولكنه أدرك فجأة: إن فولوديا إنسان من ركَّاب الأرجوحة الدوّارة... فهو بهيّ الطلعة، وأمثاله في معظم الأحوال ينسون من يدوِّر الأرجوحة من الداخل. إنهم، في معظم الأحيان، لا يفكّرون بهم. والأرجوحة تغري بالثياب الأنيقة وتربك بمنظرها الصاخب. الجميع يريدون حياة جميلة وباهرة. ومن بعيد يخيَّل أن تحقيق ذلك كله أمر بسيط. ما عليك إلا أن تصل فتحتل المكان الأكثر راحة لك وتركّز عليه عجيزتك، وهذا كل ما في الأمر. وأكثر من ذلك، كما يُظَنُّ، فإنه لا حاجة الآن لشيء. المهم أن يكون هناك ما تجثم عليه، وبماذا تجثم عليه. وعندئذ سرعان ما يتراكض الرجال، ينفخون في المزامير، وكل شيء ينطلق ويدور. كل شيء على ما يرام ما دامت الآلة تدور، ما دام أمثال ميخائيل يدوِّرونها من الداخل. ولكن ماذا سيحصل حين يملُّون من تدويرها؟ على أنه لا بد من تدويرها، وإلا فلن يصمد البيت الذي على ضفة النهر، إن الضفة لن تتحمَّل... ستغمر المياه العكرة كل شيء، وتجري الأنهار الى الوراء وتنزلق آخر شجرة باتجاه الماء عبر المنحدر الطيني الزلق. * كاتب روسي من مواليد 1955، عضو في اتحاد كتّاب روسيا، يعيش ويعمل في مقاطعة فياتكا في أواسط روسيا. ** نسبة الى جمهورية ماري في روسيا الاتحادية.