«الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    الهلال يهدي النصر نقطة    لحظات ماتعة    ما سطر في صفحات الكتمان    السدرة وسويقة.. أسواق تنبض في قلب الرياض    «التلعيب» الاستراتيجية المتوارية عن المؤسسات التعليمية    ثمرة الفرق بين النفس والروح    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    بندقية للإيجار !    جودة خدمات ورفاهية    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    مدرب الأخضر يستبعد عبدالإله العمري ويستدعي عون السلولي    الأزرق في حضن نيمار    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    حقبة جديدة    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    الحياة قوانين وليست لعبة!    «زهرة» تزرع الأمل وتهزم اليأس    مقال ابن (66) !    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    نعم السعودية لا تكون معكم.. ولا وإياكم !    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    ضبط شخصين في جدة لترويجهما (2) كيلوجرام من مادة الحشيش المخدر    شرطة النماص تباشر «إطلاق نار» على مواطن نتج عنه وفاته    «السوق المالية»: إدانة 3 بمخالفة نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية ونظام الشركات وتغريمهم 3.95 مليون ريال وسجن أحدهم    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    «دار وإعمار» تكشف مشاريع نوعية بقيمة 5 مليارات ريال    رحيل نيمار أزمة في الهلال    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    الدولار يقفز.. والذهب يتراجع إلى 2,683 دولاراً    ليل عروس الشمال    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    التعاطي مع الواقع    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدبّ القطبي والفارسة على الحصان الأبيض
نشر في الحياة يوم 07 - 01 - 1998

كان يا ما كان، يا سعد يا كرام، في سالف العصور وغابر الأزمان - وحتى الآن - دبّ قطبي ابيض ناصع البياض يجوب السهول والأصقاع والرياض ويشق الثلوج ببدن ضخم واثق وقادر لا يقاومه مقاوم ولا يجرؤ على منازلته سبع ولا إنسان.
أعطيت "تيا" بنت ايمن، حفيدتي الصغيرة اللامعة العينين هدية عيد الميلاد، ذلك الدبّ القطبي الابيض كانت له "فيونكة" حمراء، فكتها "تيا" وحاولت إعادة ربطتها فامتنعت عليها عقدتها وتركتها مدلاة على بطنه السمينة الناعمة.
قلت لها: ماذا تسمينه يا تيا؟
قالت بتحدٍ وفخر بالمعرفة:
اسمه بولار بير "POLAR BEAR"
قلت لها: دبّ .. دبّ قطبي، بالعربي
قالت: دبّ قطبي
كانت "تيا" قد حصلت على الدرجة النهائية في اللغة العربية ومع ذلك قالتها لي بالانكليزية: فيفتي اوفر فيفتي "FIFTY OVER FIFTY"
قلت لها: يعني إيه بالعربي؟
قالت: يعني النمرة النهائية يا جدو.
لم تكن مورمينسك المحطة النهائية، بل كانت آخر محطة قبل ان نصل الى هافانا. كانت الطائرة التوبوليف الهائلة الشاسعة الجناحين ترتفع طابقين من الداخل تربط بينهما سلالم دائرية حديدية.
اعضاء السكرتارية الفنية البنات والأولاد، مع واحد واثنين من المندوبين الافارقة، متربعين على السجادة الكازاخستانية الثمينة تحت السلم، يلعبون الكوتشينة، والمترجمون الروس متحلقون حولهم يتفرجون او يرقبون ويرصدون الحركات والسكنات والعلاقات والتعليقات. لم نكن قد وصلنا بعد الى تلك الساعات الطويلة التي ظللنا نعاصر غروب الشمس فيها من نوافذ الطائرة، ظللنا نتعشى الوجبات الثلاث مادمنا طول الوقت في آخر النهار، الطائرة والشمس لا تستطيع إحداهما ان تسبق الأخرى، نتناول "الشوربة" - اسمها بالروسي شوربة - حمراء تعوم في دهنها الدسم هبر اللحم المعصّب والبطاطس المنبعجة ثم قطعة الستيك التخينة تحتاج الى سكين حادة او منشار مسنن، قلبها نيء طري يقطر بالدم البني، ثم الماروجني الثلجي الناصع البياض ألذ ما في الوجبة المتكررة التي أوشكنا بعد قليل ان نكره كل الأكل من تكرارها. عندما تهل المضيفة وتقدم الوجبة يهتف المصريون - تعلمها منهم الأفارقة بعد ذلك - تاني حتى ظنتها المضيفات عبارة فرح وترحيب.
مهما حلقت التوبوليف على ارتفاع اكثر من الف قدم وبسرعة الف كيلو متر فإننا نظل نرى الشمس توشك على المغيب في الافق المحمر على البحر المحيط الذي يبدو بعيدا - تحت - وساجياً وصامتاً في هدير المحركات الجبارة.
لم نكن قد وصلنا بعد الى تلك الساعات التي نظل نراوح فيها بين النوم وشفط سائل الشوربة وقضمة الستيك، من غير نِفْس، وترشف الآيس الكريم وحده الجميل، وبين اليقظة القلقة ومحاولة القراءة او لعب الورق او التهريج او التعسيل.
تلك كانت ايام مؤتمرات القارات الثلاث الذي دعا اليه كاسترو في 1961 وكان التضامن الافريقي - الاسيوي يرعاه، والمهدي بن بركة من المغرب وعبدالله دياللو من غينيا يضعان الخطط والتدابير للآتي من الايام. ازمة الصواريخ السوفياتية في كوبا ما زالت ماثلة في الأفق السياسي الدولي، ومحظوراً على الطائرات السوفياتية أن تحط في اي مطار على القارة الأميركية بل عليها ان تواصل الرحلة من آخر محطات الاتحاد السوفياتي دفعة واحدة حتى هافانا، دون ان تخرج من الأجواء الدولية المفتوحة بحذاء المحيط الاطلنطي.
وهكذا نزلنا في مورمينسك. الترمومتر الضخم المعلق على جدار المحطة الخارجي، تحت كلمة "ايروفلوت" بالروسية، يشير الى 40 تحت الصفر. اربعين، يعني البرد، كان مستحيلاً وغير إنساني.
لبست الشابكا الفرو الثقيلة وأحكمتها فوق رأسي والقفازات الجلدية الثقيلة رفعت بأصابعي فيها حتى النهاية والمعطف الروسي الثقيل من الصوف الأسود، فقد كان حصني المنيع، وقبل ان أنزل كنت ارتديت السراويل التحتانية الصوفية الطويلة تحت البنطلون الذي أحسسته فجأة رقيقاً وخفيفاً مع الجوارب السميكة تحت الحذاء، وقد كان في حسي هشاً كأنه مصنوع من قماش خفيف لا من الجلد المتين.
لم أكد ألمس سياج سلم الطائرة الخارجي الشاهق حتى ندت عني - وسمعتها من الجميع - صرخة رعب من البرد. المسافة بين سلم الطائرة والباص بضع خطوات على جليد صلب فوقه طبقة متراكمة من الثلج الناعم غاصت فيه احذيتنا. لم نستطع الجلوس على مقاعد الباص شعرنا، بها مثلوجة وصل ثلجها حتى نخاح العظم من خلال كل الحواجز والتحصينات. وجدت اننا جميعا آثرنا الوقوف متساندين على بعضنا البعض حتى هبطنا جرياً الى باب المحطة الجوية وأنا اسمع حولي وحوحة الزملاء وطقطقة أسنانهم.
كانت السماء صافية عالية عميقة الزرقة، نجومها متناحرة ومزدحمة تلمع ولم تكن تثلجنا، لحسن الحظ.
لم تكن المحطة إلا كوخاً خشبياً ضخماً محكم الصنع من جذوع اشجار قوية متلاصقة.
قال لي آنفر فاليبكوف - أعود به الى اصل اسمه فأناديه انور والي بك - مترجمنا الاوزبكي المتوفز بالحيوية، ان المحطة كانت في الأصل كوخاً لأمير من عائلة القيصر الارشيدوق ميخائيل ميخائيلوفيتش رومانوف، وانه هو وحاشيته وكلابه وخيوله وعرباته وزحافاته كانوا يأتون هنا لرحلات حين يتعقبون فيها الدبّ القطبي الابيض ويطاردونه حتى الموت، كان انور يتكلم باللغة العربية وبلكنة شامية، ولكني فكرت ان الاسم بشكل ما لم يكن غريبا عليّ.. عندما دخلنا كان الساموفار يطقطق بتوقد الفحم البهيج في احشائه، وكان جسم المدفأة الصاعد الى السقف له ثمانية اضلاع من القاشاني الابيض الذي اصفر قليلا بعد تلك السنوات، وهو مزخرف بنمنمات زرقاء داكنة دقيقة بارعة التفريعات، المدخنة تخترق السقف الخشبي من ثقب دائري يحتضنها بوثاقة وإحكام، وتنبعث من المدفأة الرأسية الخزفية تلك حرارة مشعة موزعة في كل اتجاه، ليس فيها حدة، وليست مسددة الى ناحية دون اخرى.
صعد بخار الشاي المغلي وندى الدفء الى عيني وغبش نظارتي وبدأنا جميعا نخلع الشابكات والمعاطف والتلافيع، واحسست العرق يتقطر من ملابسي الداخلية.
اهم ما في هذه الحكاية كلها - إن كان له أدنى اهمية بعد كل تلك السنوات - انه في اللحظة الخاطفة الهاربة التي جريت فيها من باب الباص الى باب المحطة وفي وهج الغروب القطبي، الذي هو الى غسق الليل اقرب، لمحت على البُعد ذلك الدبّ الابيض الضخم يهرول بعيداً، جسمه المتمكن يميل من ناحية الى ناحية. وهو وحده صاحب هذا البلاج الثلجي الشاسع، لا يمكن ان ينازعه فيه احد ولا شيء، لا التوبوليف ولا سكانها و لا طاقم المحطة الارضية، ونحن ندرج في هذا اليباب الذي لا نهاية له، حيوانات صغيرة سوداء مذعورة تلتمس الدفء والحمى.
فجأة تذكرت الاسم وصاحبه.
قبل سفرنا كانت اللجنة السوفياتية للتضامن الافريقي - الاسيوي قد نظمت لنا رحلة الى قصر آركنجل على مبعدة ساعة او نحوها بالسيارة من موسكو. وعبر طريق رملي مفروش بالحصى الملون من البوابة الحديد المشغولة. تزاحمنا في الردهة الضيقة مع مترجمينا وخلعنا الأحذية، لبسنا نعالاً من اللباد الطري حتى لا نخدش او نجرح الباركيه الثمين في غرفات القصر المكدسة بتحف من الخزف النادر، فازات صينية تاريخية، سرفيسات فنية، فناجين شاي منقوشة بالازرق الصافي في غاية الدقة والرهافة ووضوح التفاصيل للرعاة الذين ينفخون تحت اشجار الغابات بمزامير نحيلة، واللوحات الزيتية القديمة عليها طبقة من تراب الزمن اكسبتها عراقة وطعماً، او تلك التي نالتها يد الترميم فلمعت لمعة فجة قليلا بالألوان الصارخة الطازجة، كأنها خرجت بالأمس من تحت يدي الرسام، والخزانات من خشب الموجنة الداكن اللامع المنحوت، وواجهاتها من الزجاج السميك المضلع المقسم بين أطر رقيقة من النحاس.
شأن كل البيوت التي تحولت الى متاحف أحسست فجأة أنني في داخل مقبرة نظيفة جداً وحسنة الإضاءة جداً، العناية بها غير مضنونة على الاطلاق، لكنها تنفث رائحة موت خفي يسري في كل شيء، وفجأة سقط صمت شامل حولي، سبقني الفوج الى داخل القصر وجدت نفسي اقف امام بورتريه الارشيدوق رومانوف في الردهة الرئيسية الخارجية التي انحسرت عنها ضجة لفظ الأدلاء السياحيين والمترجمين والافارقة والآسيويين في بابل لغاتهم المتداخلة واصدائها، ترددها الجدران القديمة.
الأمير من داخل لوحته المؤطرة بالذهب يحدجني بعينين نفاذتين مازالتا تفيضان بحيوية خارقة، وانا ألبس في قدمي تحت الجورب الصوف الطويل ذلك الخف القماشي الناعم، أنعم بالدفء والهدوء والصمت لحظة وحدي.
سمعت دقات حذاء على الباركيه دهشت التفت وشهفت من الصدمة، كان الامير ميخائيل امامي ينظر اليّ نظرة مستطلعة، قلت في نفسي "إدارة المتحف تعد لنا مفاجأة، هذا بلا شك ممثل يأخذ دور صاحب القصر الذي مات من مئتي عام".
كان هو، الخالق الناطق، الباروكة المصففة المذرورة بالمسحوق الابيض. شممت رائحة عطر قوي فيه نفحة صندل، المعطف الرمادي بأكتافه العريضة المحشوة. منسدل على قامته السرحة الجسيمة، ذيله المبطن بالأحمر مزرر بالسروال الضيق المخملي اللامع السواد، جيب المعطف مثل مخلاة أنيقة صغيرة متدلٍ من الخارج، وفي لمحة خاطفة رفع الجورب الابيض الذي يحبك ساقيه الطويلتين حتى ما تحت الركبة، حيث تلتصق به حافة السروال القطيفة السوداء، الحذاء اللامع الأسود المصقول، كيف سمحت له إدارة المتحف بارتدائه؟ له كعب عريض عالٍ قليلا تماماً مثل اللوحة، وعلى وجه الحذاء إبزيم مربع كبير يومض ذهبياً.
تقدم الأمير نحوي خطوة في السكون المحيق ورأيت تحت معطفه الصديري المحبوك والسلسلة الذهبية السميكة وساعة الجيب المدورة، صلصل السيف الرابض في غمده، وتحت الصديري هفهفت ياقة القميص الأزرق السماوي المفوفة بالدانتيلا تحمي عنقه الذي ادهشني نحوله وهشاشته.
بادرني الرجل بفرنسية أنيقة لا تشوب لكنتها الباريسية أية شائبة ولكن بصوت خشن قليلاً.
- أعجبتك اللوحة؟
قلت بالفرنسية أيضا:
- جداً، أنت تمثله تمثيلاً رائعاً، صورة مطابقة للأصل.
قال بما خيل اليّ انه شيء من الاستهجان كأنه يستحمقني قليلا:
- صورة مطابقة للأصل؟ اللوحة تعني؟ دعك من هذا وقل لي: هل احببت زيارتك للقصر؟
قلت: طبعا، جميل جدا، كل ما فيه ينم عن ذوق مرهف، لا شك أن الأمير عاش في باريس وتذوق فنونها وعرف متعة الحياة.
قال بشيء من الحدة والاستغراب: لماذا تتكلم عني كأنني غائب؟
لم أجد جواباً بالطبع ولم استطع ان أضحك. قلت في نفسي: "هذا ممثل يعيش دوره حقاً". رفعت اللوحة من جديد كأنني أريد ان أستوثق، ولما التفتّ لم أجده.
جاء أنور والي بيك ملهوفاً قليلا، كان يبحث عني، ثم خرجنا بعد ان استرددنا أحذيتنا ملففين بالمعاطف والشيلان والملافح والقفافيز والقبعات والشابكات، تجولنا في عز البرد بين ممرات الحدائق المحيطة بالقصر. أشجار الصنوبر والجوز ساقعة مثقلة بالثلج أغصانها، تماما مثل البطاقات البريدية في الكريسماس ورأس السنة، الممرات زلقة قليلا بتجمد الجليد او المبتلة قليلا بذوبه.
ثم أهرعنا الى المطعم الدافئ - بل الحار - المحاط بألواح زجاجية ساطعة النظافة وجلسنا متزاحمين متقاربين جدا على المقاعد الخشبية الطويلة المصقولة، شربنا فودكا موسكو فسكايا، وكونياك من أرمينيا ونبيذاً من جورجيا، وأكلنا وجبة روسية دسمة وحافلة فيها أطايب غريبة مثل لحم الغزال من استونيا، ولسان الدب القطبي من سيبيريا، وكان طعمه جافاً وحريفاً قليلاً، ولكنه كان مقبولا بل لذيذاً الى حد ما، مع الكرّات الاخضر من اذربيجان والكافيار من البحر الاسود، وخصوصا مع الضحك والشرب ودفء البنات المُطَمْئن، ورفع الأنخاب باللغات الروسية والانكليزية والفرنسية ووشوشة الترجمة التتبعية يهمس بها المترجمون والمترجمات الروسيات الجميلات - كلهن كن على علاقة بالمخابرات طبعا! - باللغات الاسبانية واليابانية والهندوستانية والأردية في آذان المندوبين المستمعين اليها بنصف أذن والناعمين بحضور أنثوي حميم للمترجمات.
كانت الفودكا قد وثبت الى رأسي. عندما قال لي أنور والي بيك: هل رأيته أنت ايضا؟
ولم يكمل؟
ولم أسأل، أما الفرو الابيض الناعم تحت يدي فهو نعمة في الملمس، بل نُعْمى، فقد انجاب عن حرير الجسد الضخم الشامخ. مرّ واختفى مثل رؤيا. ولم يكتمل شيء. نتعاقب الرؤى من فلوريدا الى اوزبكستان.
عندما كنا نسافر بالسيارة الى باكو راثان في فلوريدا على الطريق السريع 39 جنوباً مررنا من نيويورك الى واشنطن وبالتيمور وريتشموند ثم فيرجينيا وكارولينا الشمالية والجنوبية وجورجيا، بين الغابات المتكاثفة على جانبي الطريق، تبدو الاشجار مدجّنة ومروّضة. لعل ذلك مجرد مخايلة ولعل عنف العراقة الاولية البدائية مازال رابضاً ومتربعا، مازالت هذه الغابة تنفث شيئا من عبَق بكارة وحشية مكبوتة او محاصرة، توقفنا ودخلنا عند "العمة سارة" نشرب شوب بيرة ستاوت سوداء ضخماً مرغياً بالزَّبَد.
كان المطعم مبنياً بالخشب المدوّر المتلاصق بإحكام ووثاقة وفي الحرّ الجنوبي الاميركي كان داخل المطعم رطباً منعشاً للقلب. قال لنا الجرسون الزنجي النحيل لامع السواد: إن الخشب يعود الى ايام الحرب الاهلية الاميركية وإن المائدة التي نجلس اليها شهدت جنود الكونفيديرالية مرة وجنود اليانكي الذين حرروا أجدادنا مرة اخرى، فرمقه صاحب المطعم الابيض السمين من وراء المنصة بنظرة شريرة ولم يقل شيئا.
كانت المائدة معمولة من قرص خشبي عريض واحد، مجزع بحلقات الشجرة العملاقة التي شُق من جذعها الهائل، مصقولاً الآن لامع السواد به خروم دقيقة منقورة بخفة في جسم الخشب العريق بفعل سوس قديم قضى عليه من زمان بائد، وعلى القرص الدائري قطع الكرتون المطبوع عليها بحروف عتيقة الطراز مرنقة وموشّاة "آنْت سارة" تنزلق بنعومة تحت ثقل اكواب البيرة البلورية الضخمة المضلعة إذ تفيض رغوة البيرة بيضاء ولها وشيش من على حواف الزجاج السميك.
لماذا طافت بي عندئذ رؤى من سمرقند؟
عندما كنت في التاسعة او العاشرة ربما - ياه .. يعني سنة 1935 او 1936، أليس هذا زمناً بائدا ايضا؟ كنت أحفظ قصيدة بالانكليزية عن السفر الى آخر أقاصي الارض، الى جنة لم تطأ مثلها قدم بشر، الى موطن سحري خارق الجمال كأنه يقع فوق السحاب عند افق مضيء بنور شمس ناعمة لا تخبو ولا تغيب، الى "سمرقند".
أنسيت الشعر ولكنه لم يبارحني.
الطريق الى سمرقند هو المجاز الى ما وراء هذا العالم، ما وراء هذا الواقع، طريق طويل لا نهاية له ولا وصول فيه إلا بمعجزة، وان إيقاع الشعر كانت فيه نغمة مرقّصة لها وقع غبب جواد لا يناله وَصَب ولا كلال بل يمضي تيكا توك تيك حوافره لا تذوب ولا يعتورها البلى تدق أرض الطريق تيكا توك تيك نحو قلاع ذهبية عربية المعمار تومض قبابها المنقوشة بآي الكتاب الكريم في شمس لا غروب لها وتعلو مآذنها سامقة الى قلب سماء زرقاتها الرائعة لا تشوبها أدنى عكارة. أبواب سمرقند من نحاس لامع وأسوارها طوبة من ذهب وطوبة من كهرمان تتماوج ألوانها وتشع بألف شعاع من كل الالوان.
الطريق الى سمرقند.. هل خطوت عليه اصلاً أم أنني ما زلت على أوله - بعد هذا العمر - لم أقطع فيه شوطاً ولم أمض فيه الى بعيد؟.
عندما تأخر رئيس الوفد الشيخ وأوشك الوقت ان يفوت دخلت عليه في غرفته في فندق "طشقند" المبني على طراز "عصري".
كان نائماً، أو يتناوم، قلت له: يا عبدالرحمن صباح الخير ما زلت نائما؟ الرحلة الى سمرقند الآن. الوقت راح.
تقلّب في راحة، وتثاءب، وقال لي: صباح الخير... لا... لن أذهب.
قلت: يا خبر...! كيف يمكن؟ أنت رئيس الوفد، وأصحاب الدعوة؟ ماذا أقول للناس الذين أعدوا كل شيء!.
قال دون مبالاة في ما يبدو: قل لهم... قل لهم كسلان ابن كلب
ضحكنا...
ومع ذلك تأخرنا نحو نصف ساعة او اكثر، حتى جاء معنا.
شوارع سمرقند السحرية بدت لي مثل شوارع دمنهور في الاربعينيات او شوارع البصرة في الف ليلة وليلة او شوارع الكويت في التسعينيات: بيوت من دور واحد. جناين وأشجار توت ورمان وكافور. فوانيس الشوارع الكهربائية من الثلاثينيات، مضاءة بأنوار صفراء مدغمسة في عز الظهر، تماما، كما هي عندنا، والحواري الواسعة ترابية غير مسفلتة، وفي الميدان الفسيح الذي يبدو مهجورا قليلا وعلى مصطبة دائرية تصعد اليها درجتين ثلاثاً، الدكاكين من حجرة واحدة صغيرة متلاصقة، أصحاب الحرف والمتاجر والصناعات بملابسهم الشرقية الفضفاضة أقرب ما تكون الى الجلاليب البلدي، بالأحزمة العريضة اللامعة حول الوسط، وعلى رؤوسهم العمم او الطواقي المربعة المشغولة بتطاريز فضية او ملونة، متربعين على سجاجيد قديمة. يخيطون او يرتقون. بعضهم يطرق المواعين النحاسية بمطارق حديد صغيرة لها رنين وصليل، وبعضهم جالس القرفصاء أمام بضاعتهم من البطيخ والشمام الاصفر الطويل والتفاح الناضج - خدود العذارى التي تضرب بها الامثال، وبعضهم أخيرا، ساكن، يتمتع، ينتظر الفرج.
قبل الغروب مشينا في الشوارع الهادئة، وقد هيّج المساء رائحة الياسمين في الجناين، نغني في السكينة الشاملة أغاني سيد درويش القديمة.
أما الجوامع الكبرى فقد انبثقت فجأة أمامنا من عصور بائدة لكنها مازالت بشكلٍ ما حيّةً وباقية.
من بين الصروح الشاهقة في "مدرسة شيردور" والقباب الفخمة بنقوش عربية تتحدى تصاريف الزمن في ضريح "جور أمير" ومن تحت أقواس العقود الباذخة في مجموعة "شيخي زنده" استدرتُ في وسط الفوج كله وقلتُ بلهفة لأنور والي بك بهمس متوتر:
- انظر... انظر يا أنور... هل ترى هذه الفارسة السامقة على الحصان الابيض، هناك في السماء؟ انظر هناك... تطير بين النجوم.
يا أخي هناك... انظر؟
لم يقل أنور شيئاً، ولم يبدُ عليه أنه حتى اندهش.
كانت الفارسة تحلّق فوق ضريح "رُخ أباد"، حصانها رافع الرأس جامح على خلفية سماءٍ داكنة الزرقة يضرب لونها الى السواد. واختفت لحظة وراء جامع بيبي خانم ثم باتت من جديد، ساطعة الجمال. ساقاها العبلتان وفخذاها العظيمتان تحيطان بجسد الحصان تمسكانه بقوة، ذراعاها مسترخيتان الى جانبها لكنها مع ذلك تحكُم الجواد المنطلق في صفو السماء. كان شعرها قصيراً، على خلاف "جودايفا" التي تغطي غدائرها المسترسلة، جسدها العفيّ العاري، أما فارستي على جوادها من غير سرج ولا لجام فلم أر منها في العلوّ غير الظهر المنسرح.
قلت لأنور: يا أخي ألا تراها؟
هز رأسه بالنفي.
ثم قال: هل رأيتها أنت ايضا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.