وُلدت في العام 1944 في قرية الخياطة في محافظة دمياط، وهي قرية مائية، إذ يحدها غرباً نهر النيل وشرقاً بحيرة المنزلة، والبحر المتوسط من الشمال. وكان ترتيبي الأول بين اخوتي. وفي صغري سافرنا الى مدينة المنصورة حيث كان يعمل ابي موظفاً. واضطررنا الى البقاء هناك مغتربين الى حرب العام 1956. وعدنا الى دمياط ثانية، وبعدما حصلت على الاعدادية التحقت بمدرسة دمياط الثانوية العسكرية، وبعد حصولي على الثانوية العامة كان حضوري الاول في القاهرة للالتحاق بكلية التجارة، على رغم انني كنت ارغب في الالتحاق بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وكان والدي يحلم بأن ألتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لكن، لنقص مجموعي درجتين ونصف الدرجة التحقت بكلية التجارة باعتبار انه كان يحق لي اذا حصلت على تقدير جيد الالتحاق في السنة الثانية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. لكنني أكملت دراستي في كلية التجارة الى أن تخرجت فيها في العام 1966. خلال مرحلة الجامعة وما قبلها كنت قارئاً نهماً، ما أحدث مشاكلات كثيرة بيني وبين اسرتي التي كانت ضد القراءة الكثيفة لانها تعرقل المذاكرة. واذكر انه اثناء دراستي الثانوية كانت لدي كتب كثيرة في الأدب، أحرقتها أسرتي. في القاهرة سمحت دراستي في التجارة ان اقرأ بشكل مكثف، وأذاكر في الشهر الاخير من العام الدراسي، وكنت اكتشفت محلاً لبيع الكتب القديمة، وتحديداً الروسية، واصبحت زبوناً دائماً لدى هذا المحل في شارع عماد الدين، واطلعت على الأدب الروسي. وكانت الرواية الاولى التي أقرأها نهر الدون الهادئ لشولوخوف، وأفزعتني هذه الرواية لأنها فتحت لي طاقة مدهشة على عالم روائي كان بكراً بالنسبة اليّ، وكانت مدهشة في قوتها وتدفق أحداثها وشكل واقعيتها وطريقة بناء شخصياتها، وأحدثت لي انتباهة لأنني وجدت نوعاً من الأدب مغايراً تماماً لما سبق وقرأته، فقرأت جميع أعمال تشيخوف وشولوخوف وتولستوي وغيرهم. كنت اقرأ في تلك المرحلة 18 ساعة او يزيد يومياً من دون توقف ضارباً عرض الحائط بالكلية. ثم اكتشفت السينما في القاهرة. ففي دمياط كنت أتردد على السينما مرتين في الاسبوع، وكنت أتوقع الضرب من الاهل لأنهم يعتبرون السينما نوعاً من اللهو. وفي القاهرة اصبحت حراً، واكتشفت ذلك المربع الذهبي الذي يحوي محل الكتب القديمة وثلاثاً من دور العرض السينمائية كابيتول وربتس وباب اللوق ومحل كشري جحا، فكانت الكتب رخيصة وكذلك السينما والكشري، الى جانب سهولة وسيلة المواصلات، وكانت رحلتي في هذا المربع تتكرر مرتين او ثلاثاً يومياً. في مرحلة الجامعة اشتركت في فريق التمثيل وكتبت محاولات مسرحية لكنها لم تكتمل بالمعنى الحقيقي، حاولت كتابة الشعر والقصة القصيرة، وكانت مطروحة عليّ كأي شاب الاسئلة التي لا إجابة عنها مثل الوجود والعدم، ولماذا؟ والى أين؟ الى جانب أن بداية الستينات شهدت بداية التأميمات والمد القومي المدهش، وسمعنا عن قضية فلسطين والامبريالية العالمية، وكانت الاجابات جاهزة عن سارتر وكامو وماركس، وكان علينا أن ننهل من كل تلك المصادر التي كانت متاحة ورخيصة. وسمعنا وحفظنا العهد القديم، اذ كانت ثقافتنا مفتوحة في كل الاتجاهات. كما أسسنا جمعية النقد في كلية التجارة، ودعونا اليها صلاح جاهين في مناسبة الاحتفاء بسنوية بيرم التونسي. وأذكر جيداً ان جاهين في هذه الندوة التي لم تتجاوز ساعتين ساعدنا بشكل غريب وهو يتحدث عن بيرم، وصلاح كان مشهوراً جداً في تلك الفترة لكنه لم يتحدث عن نفسه ولكن عن عم بيرم، ووصفه له بأنه عم كانت مفتاحاً غريباً وكنتُ واحداً من الذين التقطوا هذا الخيط، وأنه يمكن ان يكون هناك إنكار ذات وحديث عن قيم واعتراف للآخرين القيم والقدوة والاستاذية. قرأ جاهين علينا بعضاً من أشعاره وأدخلنا في عالم مدهش هو عالم الشعر العامي الذي خرج وقتها على أيدي جاهين وفؤاد حداد وبدايات الابنودي. كل ذلك كان يوحي أن هناك عالماً مدهشاً وزاخراً ومملوءاً بالوعود ليست المحلية او الوطنية وحدها، ولكن الانسانية بشكل عام. وأهم ما ميز هذه الفترة بالنسبة اليّ كان القراءة الغزيرة الى درجة مروعة، وربما أدى هذا بي الى درجة من التقوقع او الانغلاق، فلم يسمح لي بالمشاركة في النشاطات الاجتماعية في الكلية والجامعة، لا سيما ان هذا كان قبل بداية انتعاش الجامعة القوي جداً في العام 1967، ولعبها دوراً سياسياً ومشاركتها في الأحداث العامة. تخرجت في الجامعة وعُدت الى دمياط موظفاً في التربية والتعليم، واستمرت الحال على ما هي عليه لمدة ثلاثة أعوام، وكنت مدركاً تماماً انني لن استمر في دمياط، وسأعود الى القاهرة مرة أخرى للكتابة. اثناء فترة العمل في دمياط شاركت عدداً من الزملاء والاصدقاء في احياء جمعية الرواد الأدبية التي كانت قائمة بالفعل، لكننا اعطيناها نبضاً ودماً جديدين وفتحناها على آفاق اكثر رحابة، كنا نكتب الشعر العامي والفصحى والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية وكان يغلب على هذا الانتاج الطابع الثوري. واصدرنا كتابين، واقمنا العلاقات مع الجمعيات الادبية في القاهرة والاسكندرية، وتبادلنا الزيارات والمناقشات النقدية، وكان كل هذا توطئة لمؤتمر ادباء الاقاليم الاول الذي اقيم في مدينة الزقازيق، وعقد بعد ذلك غير مرة. ثم قامت حرب 1967، واكتوينا بنارها، وانضممنا الى منظمات الشباب، وعشنا المرحلة بكل ابعادها كمجموعة من الشباب نحاول التعبير عن أنفسنا على رغم الاحباط الذي أصابنا في الصميم. ومع ذلك تبلور الأمل مرة اخرى في النهوض على رغم قسوة الانكفاء والهزيمة، لا سيما في بدايات حرب الاستنزاف. وأذكر اننا في هذه المرحلة كمجموعة شباب يحاول أن يصبح مثقفاً ويمتلك أدواته التعبيرية كنا نقيم معسكرات للقراءة فنجتمع خمسة أو ستة أشخاص ومعنا عدد من أمهات الكتب وننعزل في شقة أحد اصدقائنا على شاطئ البحر، ونظل نقرأ هذه الكتب ونناقشها ونجهز ملخصات عنها. وكان يغلب على تلك الفترة طابع الصوت العالي، ربما بدافع الحماسة، وربما بسبب قلة الخبرة، وكنت أنفر من هذا، اذ كانت لدي حساسية تكاد تكون مرضية من خلط السياسة بالأدب. كنت اخاف من ان يكون الأدب بديلاً من للسياسة، فيتحول الى أدب زاعق فيه حسن نية أكثر ما فيه قيمة أدبية. وفي احدى زيارتنا للقاهرة كجمعية أدبية التقينا جمعية اسمها رابطة الأدب الحديث كما التقينا بعمنا عبدالفتاح الجمل الذي كانت له اياد بيض على كل هذا الجيل من دون استثناء، لأنه كان يشرف على الصفحة الأدبية في جريدة "المساء" اليومية. وكان ينشر عدداً كبيراً من تجارب الشباب في تلك الصفحة. وكان يرعى الجيد منه ويشجعه، لا سيما ما هو ضد الصوت العالي. ذهبنا الىه صباح يوم الندوة ولم نجده ووجدنا شخصاً آخر يشرف على الصفحة وجلسنا في مقهى في عمارة جريدة "الجمهورية" في انتظار اللقاء في المساء، وقررنا، وكنا نحو خمسة شبان، ان نكتب قصة كالقصص السائدة فاقترح احدنا عنواناً هو شراع النافذة المكسور. وبدأ كل منا يكتب جملة من الجمل غير المفهومة، حيث لا تخرج من القصة بشيء حقيقي غير تلك الجمل التي لا يربطها إلا هذا النوع من التغريب الذي يحدث التباساً وايحاء بالثقافة الضخمة. صعد أحدنا الى مقر الجريدة وترك القصة في إطار التهريج. وفي اليوم التالي واثناء عودتنا الى دمياط وجدنا القصة منشورة. والأكثر دهشة ان صديقنا الذي اقترح الاسم اصدر بعد ذلك مجموعة قصص في كتاب، وفوجئنا ان القصة بينها، وهذا يعكس مدى الاختلال الذي كان موجوداً في تلك المرحلة الناتجة من دخول الأدب في السياسة والعكس والايحاء بالثقافة. انتقلت بعد ذلك الى القاهرة وشاركت في جمعية كتاب الغد، وكانت جمعية راديكالية في بداية انشائها. ثم نشرت عدداً من القصص في "المساء" وفي "المجلة" التي كان يديرها يحيى حقي، ثم كتبت قصة فوجئت عندما قدمتها الى أحد العاملين في المجال السينمائي أنه رحب بها جداً، واعتبرها شيئاً عظيماً، وكان المخرج علي عبدالخالق، فكان هذا الاحتكاك الاول لي بعالم السينما. بدأ الأمر في دمياط إذ كنت انتهيت من كتابة قصة سينمائية فيها التصور البصري عال جداً والانتقال الى المشاهد اقرب الى الانتقال في السيناريو وان كانت في صيغة أدبية. كان ذلك في العام 1968، وكان علي عبدالخالق يصور في دمياط فيلمه "أغنية على الممر"، وعندما عرفت أن فريق العمل يجلس في مقهى ذهبت اليهم، فوجدتهم مشغولين بمناقشة أمورهم الخاصة، فخجلت ان اقتحم خلوتهم، وبعد عام انتقلت الى القاهرة وعرفت بالمصادفة أن السيناريست مصطفى محرم موجود في مكان ما من طريق أحد اقاربي، فارسلت اليه القصة نفسها وهو اعطاها بدوره الى علي عبدالخالق، وبعد فترة وجدتهما يبحثان عني ويؤكدان سعادتهما بالقصة ويريدان تحويلها الى فيلم سينمائي. وبدأ محرم وعبدالخالق ينقلانني الى قلب القلب من عالم السينما. لكن، نتيجة عرض فيلم "أغنية على الممر" في الجامعة في هذه الفترة، وبسبب ما سُمي ب"لجنة النظام للاتحاد الاشتراكي" مُنع عبدالخالق من الاخراج لفترة، وتوقف مشروعي، لكن صلتي بمحرم كانت توطدت، وبدأت الدخول الى عالم السينما من خلال الفيلم الاول الذي كتبته "مع سبق الاصرار" عن رواية دوستويفسكي الزوج الابدي. كتبت القصة والحوار، وكتب محرم السيناريو، ولعب بطولة الفيلم نور الشريف ومحمود ياسين وميرفت أمين واخرجه اشرف فهمي، واحدث الفيلم صدى واسعاً اثناء عرضه في شباط فبراير عام 1978، وبدأت رحلة الالف ميل مع السينما التي لم تكن في مخيلتي، لكنني كنت عاشقاً للسينما تلك الوسيلة المدهشة القادرة على حمل الافكار والمشاعر والتي كانت بالنسبة اليّ هماً كبيراً، بمعنى أني كتبت قصة الى السينما مباشرة، في حين كان حُلمي الأكبر أن أكون أديباً على غرار همنغواي او تشيخوف. بشير الديك مؤلف وسيناريست مصري