ليس من السهل أن يجمع الكاتب بين حب القراء وإشادة النقاد ونيل الجوائز. تلك المعادلة استطاع مكاوي سعيد أن يحققها. هو شاعر الجامعة حينما كان طالباً، والحاصل على جائزة سعاد الصباح عن مجموعته القصصية الأولى «الركض وراء الضوء»، والذي وصلت روايته الثانية «تغريدة البجعة» إلى القائمة القصيرة في الدورة الأولى لجائزة البوكر العربية، وحققت رواجاً ملحوظاً فأعيد طبعها غير مرة، بينما تصدرت روايته الأحدث «أن تحبك جيهان» قائمة الأكثر مبيعاً. وهو أيضاً كتب السيناريو وقصص الأطفال والمقالات إلى جانب القصة القصيرة التي صدرت له فيها مجموعات عدة. هنا حوار معه: من شاعر الجامعة إلى روائي وسط البلد... كيف كانت الرحلة؟ - في مرحلة المراهقة بدأت بكتابة الخواطر. هي أشبه بما يسمى اليوم المدونات. ثم التحقت بكلية التجارة وشرعت مع السنة الأولى في كتابة الشعر، وعرضته على الزملاء فأعجبهم، ما شجَّعني على الاستمرار والتنافس حتى أصبحت «شاعر الجامعة». كان اتحاد الطلاب يدعمنا، فطلب مني أن أجمع ديواناً لنشره، على أن يتكفل بشراء 100 نسخة، وكانت كُلفة طباعة ألف نسخة لا تتجاوز 150 جنيهاً. عملت بهمة حتى انتهيت من الديوان. غير أنني في السنة الأخيرة في الجامعة كانت لي محاولة قصصية، وكنت أتردد حينذاك على مقهي «علي بابا»، وقرأت قصتي الأولى وإذا بتوفيق حنا ينتحي بي جانباً ويخبرني أن القصة مبشرة جداً وأن عليَّ أن أستمر في كتابة القصص. توفيق حنا هو من اكتشف عبدالرحمن الأبنودي وأمل دنقل وعبدالرحيم منصور. كانت شهادته كفيلة بأن أعيد حساباتي، وقلت لنفسي: لن أستطيع أن أنافس في الشعر. وقلت أيضاً: سأعمل على مجموعة قصصية وأنحي الشعر جانباً. كتبتُ مجموعة «الركض وراء الضوء»، وكنت في حاجة إلى من يقدمني. فكرت في أن أطلب من يحيى الطاهر عبدالله أن يكتب المقدمة. غير أنني خفت، فقد كان حاد الطباع. كتب لي المقدمة صلاح الراوي. يحيى الطاهر لما عرف بعدها عاتبني بمحبة وأخذ قصة من المجموعة ونشرها في مجلة «الدوحة». كانت أول قصة منشورة لي. وعرفت أن طباعة المجموعة ستتكلف 200 جنيه وأنا لا أملك غير 20 جنيهاً ويصعب أن أقنع أسرتي بالمساهمة، فكان عليَّ أن أعتمد على الأصدقاء، وهم لم يخيبوا ظني. بعدها كتبت روايتي الأولى «فئران السفينة»، وحاولت نشرها بواسطة «الهيئة العامة للكتاب» مِن طريق صديق لي، لكن بعد مرور ستة أشهر اكتشفت أنها لا تزال في درج مكتب صديقي. تأثرت جداً وغضبت فأخبرتني موظفة في الهيئة ذاتها بأن هناك مسابقة أدبية يمكنني أن أشارك فيها. أرسلتُ ثلاث نسخ إلى مسابقة الدكتورة سعاد الصباح، ومرت شهور عدة، وإذا بأحدهم يبلغني هاتفياً بأني الفائز. بعدها انغمست في مجال المحاسبة المالية، ثم عملت في المقاولات لمدة 15 سنة، كتبت خلالها ثلاث مجموعات قصصية كانت تشبه الأدب الروسي الذي تأثرتُ به بشدة. ظللت في عملي حتي وصلت إلى منصب المدير المالي، فقررت أن أتفرغ للكتابة. تركت الوظيفة وعملت في شركة إنتاج سينمائي لمدة سنتين. في تلك الفترة كتبت روايتي الثانية «تغريدة البجعة». «تغريدة البجعة» تناولت تشكيلة مختلفة ومتباينة من شخوص وسط البلد... فلماذا هذا المكان تحديداً؟ - كل عاصمة في العالم هي صُرّة جاذبة لكل أصناف البشر، ومصر قلب الوطن العربي، والقاهرة قلب مصر، ووسط البلد قلب القاهرة النابض بالحياة والزاخر بشخوصه المتناقضة. هنا ستجد كل أطياف البشر. الخرتية، الأجانب، الباحث عن الفرصة، البلطجي، المثقف، الفنان. ومن تأملي تلك النماذج تبلورت «تغريدة البجعة» التي تميمة الحظ، في مشواري الأدبي. أولاً وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في أول إطلالة لها، وكان من دواعي سروري أن أشارك الكاتب الكبير بهاء طاهر هذا الحدث، وهو كاتب أحبه لدرجة أنني كنت أتمنى أن أكتب عنه فيلماً تسجيلياً. وكان ترشحي للبوكر بداية تعارف مع القارئ العربي. ثانياً: لاقت رواجاً كبيراً داخل مصر عبر طبعات عدة. تنوعت كتاباتك بين الشعر والقصة القصيرة والسيناريو والرواية والكتابة للأطفال... فأي تلك المجالات هو الأقرب إليك؟ - الكتابة للطفل، فأنا تعرفت على القراءة من طريق مجلة «ميكي». حتى اليوم، حين تتراكم عليَّ ضغوط الحياة أنسحب من الدنيا بمجلد ل «ميكي». لها الفضل أيضاً في أن أول أجر أحصل عليه من الكتابة كان نظير قصص للأطفال نشرتها مجلة «ماجد». كنتُ أكتب وصلاح عناني يرسم، ولم أتوقف عن الكتابة للأطفال حتى اليوم وقد أصدرت بالتعاون مع الدار المصرية - اللبنانية كتباً عدة ومنها: «جني يبحث عن وظيفة»، «الببغاء الأخرس». هي محاولات مني لرد الجميل بصرف النظر عن العائد المادي. مقالاتك ترتكز في شكل كبير على التاريخ... لماذا التاريخ تحديداً؟ - الشعوب العربية لا تقرأ التاريخ للأسف، مع العلم أن مقولة التاريخ يعيد نفسه هي مقولة صحيحة تماماً. قراءة التاريخ تجنبنا مصائب قد تحدث في المستقبل. هناك من يقرأون التاريخ في شكل خاطئ، يعتقدون أن الماضي جنة والواقع جحيم، وهو أمر طبيعي أن يعتقد الإنسان أن الماضي أجمل، نحن ننعى اليوم الذي رحل، ولكن قراءة التاريخ مختلفة، ولا تجوز قراءته بعقلية أننا كنا في وضع أفضل؛ فالحقيقة تقول إنه كان هناك فقر أفظع، ولعلك سمعت عن مشروع القرش من أجل الحفاة، كان أكثر من 60 في المئة من المصريين حفاة وقتها. هذا يعني أن الماضي والحاضر يعانيان المشاكل نفسها، سواء لجهة الاستغلال أو البطش. وربما لذلك أعمل حالياً على كتاب يرصد أغرب حكايات القاهرة وما مرَّت به من نوادر. كيف تنظر الآن إلى تجربتك كناشر؟ هل فشلت التجربة؟ - أصدرنا بعض العناوين الجيدة. غير أنني لا أنصح المبدع بأن يقدم على مثل تلك التجربة. النشر يحتاج إلى تاجر شاطر، والتاجر من الممكن أن يتغاضى عن القيمة الفنية في مقابل الربح، بينما المبدع لن ينحاز لغير الفن. تلك المعضلة أفشلت التجربة مع الأسف. «أن تحبك جيهان» جاءت متعددة الرواة... كيف عملت على ذلك؟ وهل تخطط لأعمالك قبل كتابتها؟ - استغرقت في كتابة «أن تحبك جيهان» أكثر من ثلاث سنوات. كان التحدي الأكبر فيها أن أحكي بلسان سيدتين مختلفتين تماماً، ريم وجيهان، لكل واحدة منهما ثقافة وخلفية تاريخية وهموم وطموحات مختلفة حد التناقض، وكان التحدي في كوني رجلاً، كيف يكتب الرجل بوعي امرأة وتبدو كتابته صادقة؟ كان هذا هو التحدي الأكبر بالنسبة لي، أن تقرأ لي امرأة ثم تشعر بأنها لا تقرأ لرجل وإنما لامرأة. أما عن التخطيط للعمل، فأنا أكتفي بالخطوط العريضة، مجرد خطوط أو عناوين رئيسة في رأسي ثم أتبع الإلهام. يعتبرك البعض صائد جوائز... كيف ترى الجوائز العربية؟ وهل يكتب المبدع من أجل جائزة؟ - الجوائز ضرورية من أجل المبدع، خصوصاً الروائي الذي يعكف على نصه لسنوات ربما وينشر بلا مقابل في غالبية الأحيان، وفي أحيان أخرى قد يدفع من جيبه. كيف سيتحمل كل هذا من دون أمل بأن يحصل على جائزة؟ أنا أدعو رجال الأعمال والمؤسسات والدول إلى أن تقدم المزيد من الجوائز. ما يؤخذ على الجوائز لا يمس الجهات المانحة وإنما في بعض الأحيان هيئات التحكيم، فبعضها قد ينحاز إلى مبدع استناداً إلى علاقات شخصية. ولكن في تلك الحالة سوف ينال العمل السيء منها، فالنص سوف يسقط بيد القارئ، والقارئ ناقد في الأساس. في الحقيقة الكاتب الجيد لا يكتب من أجل الجوائز وإنما لإشباع رغبة فنية داخله، وللقارئ أيضاً، لا بد للقارئ أن يجد قيمة ومتعة، هو اقتطع من قوت يومه في سبيل فنك، فعليك ألا تخذله. أما الكاتب الذي يكتب للجوائز فهو في الغالب غير متحقق ويرغب في أن يحتمي خلف جائزة، وفي النهاية أيضاً سوف يقيّم القارئ عمله، ثم كيف تكتب لجائزة وأنت لا تعرف معاييرها ولا ذوقها؟ ومن قال إن الجوائز حكم مطلق على العمل، هناك أعمال عظيمة وخالدة ولم تحصل على جائزة وفي المقابل هناك أعمال اندثرت وقد حصلت على جوائز عالمية... على الكاتب الجيد أن يستمر في الكتابة والجوائز سوف تأتيه حتماً. هل لديك أمنية فنية تطمح لتحقيقها؟ - أن أكتب فيلماً وأخرجه. أنا درست السينما مدة عامين، ولي تجارب في كتابة السيناريو لأفلام قصيرة وطويلة. غير أنني أحلم بالإخراج أيضاً. في الغرب انتشر المخرج الذي يكتب فيلمه وقد حققت تلك التجارب نتائج عظيمة، وهنا أيضاً بعض المخرجين يكتبون أفلامهم، منهم داوود عبدالسيد. أنا أرغب في العكس: كاتب يخرج فيلمه الروائي الأول، ولكن المشكلة تكمن في إيجاد جهة إنتاجية تدعم الحلم.