لا أزال أذكر ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه لجنة ترقيات الأساتذة للنظر في تقارير ترقية زميلنا نصر حامد أبو زيد منذ ثماني سنوات على وجه التقريب، تحديداً في يوم الخميس الثالث من كانون الأول ديسمبر 1992، في إحدى قاعات كلية الآداب في جامعة القاهرة، فقد كان رئيس اللجنة شوقي ضيف أستاذاً مرموقاً في قسم اللغة العربية، كما كان أمين اللجنة محمود حجازي وكيلاً للكلية، ولذلك كان من الطبيعي أن تعقد اللجنة اجتماعاتها في الكلية نفسها التي ينتسب إليها رئيس اللجنة وأمينها. ولم أكن عضواً في اللجنة العليا لترقيات الأساتذة بعد، على رغم مرور السنوات اللازمة للأقدمية، وعلى رغم استحقاقي لعضوية هذه اللجنة، لكن لأمر ما قرر البعض إقصائي عنها، والاكتفاء بكوني عضواً في لجنة ترقية الأساتذة المساعدين. ولم أهتم بالأمر كثيراً، فقد كنت، ولا أزال، موقناً أن الحقوق لا بد أن تصل إلى أصحابها في النهاية مهما كانت العقبات. لكن الاحتمالات السلبية لهذه العقبات، تحديداً، هي ما كانت تؤرقني في عملية ترقية زميلي نصر أبو زيد. ولذلك ذهبت إلى قسم اللغة العربية الذي كنت أعمل رئيساً له في ذلك الوقت، وكلي توجس وقلق، فسياق الأحداث العامة وتتابع الوقائع الخاصة لم يكونا يبعثان على الاطمئنان بحال. وكانت أسباب ذلك عديدة، فقد كنا في نهاية العام الذي تصاعدت فيه ممارسات العنف العارم لمجموعات التطرف الديني باغتيال المفكر فرج فودة في منتصف شهر حزيران يونيو من العام نفسه، وتصاعد آثار ممارسات الرقابة ضيقة الأفق التي قام بها بعض أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، ناهيك عن فضائح شركات توظيف الأموال المتأسلمة التي ارتبط بها بعض أساتذة الجامعة المنتسبين إلى تيارات التأسلم السياسي من أمثال عبدالصبور شاهين الذي كان مستشاراً لأقوى هذه الشركات. وذلك كله في سياقات غير بعيدة عن ما كان يترامى إلى آذاننا من قبول الحكومة محاولات التوسط بينها وبين جماعات الإرهاب المتأسلم، وقيام بعض "المعتدلين" من تيارات التأسلم بهذه المحاولات. وأخيراً، وجود تيار تقليدي داخل اللجنة العليا للترقيات، تيار معاد للتجديد، مناهض للاجتهاد المغاير، مستعد للبطش بالخصوم بحق أو بغير حق. وكان من أبرز ممثلي هذا التيار عبدالصبور شاهين مستشار شركات توظيف الأموال المتأسلمة وأحد الذين قيل إنهم ضالعون في محاولات التوسط، ورمضان عبدالتواب ممثل النهج الاتباعي في علوم اللغة، وقد صدر ضده حكم قضائي لارتكابه سرقة علمية فادحة، كما نسبت إليه - في ما بعد - مخالفات أخلاقية تصدّت لها إدارة جامعة عين شمس. وكان ثالث الثلاثة محمد مصطفى هدارة الذي وصل به الأمر إلى حد استعداء رئيس الجمهورية عليّ شخصياً، حين توليت رئاسة تحرير مجلة "فصول"، وأخذت أستعد لإصدار عدد خاص عن "الأدب والحرية". وقد أحدثت شكوى هدارة ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية في حينها، خصوصا بعد أن نشرتها مجلة "إبداع" بتعليق من الصديق أحمد عبدالمعطي حجازي قبيل صدور عدد "فصول" عن "الأدب والحرية". وكان من أكثر العناوين دلالة في مقالات هذه الضجة عنوان "غدارة هدارة" الذي صَدَّر به الصديق حازم هاشم مقالته المتميزة في صحيفة "الوفد" في تلك الأيام. وكان زميلنا نصر أبو زيد تقدّم بإنتاجه العلمي إلى اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية في التاسع من شهر أيار مايو سنة 1992، وتم توزيع الإنتاج في الثامن والعشرين من الشهر نفسه، وتشكلت لجنة لقراءة الإنتاج العلمي من شوقي ضيف وعبدالصبور شاهين وعوني عبدالرؤوف. وطبعاً، لم أستبشر خيراً بوجود عبدالصبور شاهين في اللجنة، فهو أبرز ممثلي التيار الذي انتقده نصر في مقدمة كتابه "نقد الخطاب الديني". أقصد إلى ما كتبه نصر عن ظاهرة المد الديني المتأسلم والاتجاهات الثلاثة إزاء هذه الظاهرة، وأولها اتجاه المؤسسة الأزهرية وبعض رجال الدين المنتسبين إلى صفوف "المعارضة الدينية"، وثانيها ما يسمى باتجاه "اليسار الإسلامى" الذي مثلته كتابات حسن حنفي، وثالثها الاتجاه الذي يتمثل في كتابات "التنويريين" أو "العلمانيين". وكان عبدالصبور شاهين ينتسب إلى التيار الأول، خصوصا في جناحه الذي حاول مهادنة الحكومة والتوسط بينها وجماعات التطرف الإرهابي، كما أنه حاول الإفادة المالية من ازدهار المشاريع التي ظهرت تحت مسمى الاقتصاد الإسلامي، وهي المشاريع التي حمل عليها نصر أبو زيد بحق حملة شديدة، سواء في ما كتبه عن "مفهوم النص" أو "نقد الخطاب الديني". وقد كتب نصر عن هذه المشاريع في حماسة سلبية لم يغفرها له المنتفعون أو القائمون على هذه المشاريع. وكان عبدالصبور شاهين على رأس هؤلاء، ولذلك أصبحت سمعته العلمية موضع جدال، خصوصا بعد أن تورط مع "شركات الريان" التي نهبت أموال المودعين، وخلط العلم بالإيديولوجيا في خطبه التي كان يلقيها كل صلاة جمعة في جامع عمرو بن العاص. ولكنني اطمأننت إلى وجود أستاذنا شوقي ضيف في اللجنة واشتراك زميلنا العالم الجليل عوني عبدالرؤوف إلى جواره، وقلت لنفسي: إن حضور هذين الاثنين ضمان من الاحتمالات الخطرة للتقليدية الجامدة أو التحزب أو حتى محاولة الثأر. ولكن جاء اعتذار شوقي ضيف عن الاشتراك في اللجنة لأسباب صحية بمثابة إنذار، لم يخفف من وطأته وجود محمود علي مكي الذي أشهد له بالريادة في العلم والجدية في البحث وسعة الأفق في قبول الاجتهاد المخالف. وحاولت معالجة قلقي وتوتري، في ذلك اليوم، بالانشغال بتصريف أمور القسم إلى أن فرغت اللجنة من مداولاتها التي طالت أكثر من المعتاد، والتي انتهت إلى نتيجة انعكست على وجوه أعضائها بما يتناسب والنوايا المسبقة التي انطوى عليها كل عضو منهم. وقيل لي - في ما بعد - إن أستاذنا شوقي ضيف خرج من اجتماع اللجنة إلى منزله مباشرة كي لا يقابل أحداً من قسمه الذي رفضت اللجنة التي يرأسها ترقية واحد من أنبه أعضائه، بينما ذهب أعضاء جبهة التقليد في اللجنة إلى مكتب محمود حجازي الذي كان يظهر لهم الود لمصالح يرجوها من المتنفذين منهم. وقيل لي - في ما بعد، والعهدة على من روى، في السياق نفسه - إن الدكتور كمال بشر حضر على نحو استثنائي لدعم هذه الجبهة، وإن الدكتورة نبيلة إبراهيم صوتت في صف الجبهة نفسها لغضبها على نصر أبو زيد لأنه قبل العمل معي في مجلة "فصول" التي كنت نائباً لرئيس تحريرها وتوليت رئاسة تحريرها خلفاً لأستاذنا الدكتور عزالدين إسماعيل. وكنت لا أزال جالساً إلى مكتبي في قسم اللغة العربية، حين دخل الدكتور محمود علي مكي ومعه الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة الأسبق، وكلاهما يحمل على وجهه علامات الأسف والحزن والضيق على السواء. ولم أكن في حاجة لسؤالهما عن النتيجة، فقد كانت مرسومة على ملامح وجهيهما، كما كانت ماثلة في العبارات التي حاول بها الدكتور أحمد هيكل تخفيف الصدمة وتهوين الأمر، متعللاً بأن زميلنا نصر أبو زيد لا بد أن يترقى في المرة المقبلة بلا مشاكل. ولا أذكر بماذا أجابني حين قلت له: ولكن عدم ترقية نصر أبو زيد مسألة جامعية لا يمكن أن تمر بهذه البساطة، فنحن جميعا نعرف مكانته العلمية، وسمعته الأكاديمية الطيبة تسبقه إلى كل مكان يذهب إلىه، ومؤلفاته ودراساته معروفة في الكثير من الأقطار العربية برصانتها وعمق اجتهادها، ولا يهم أن نتفق مع نصر في ما ذهب إليه، أو نختلف، فما تشكلت اللجان العلمية للاختلاف أو الاتفاق مع اجتهادات المتقدمين، وإنما تشكلت للحكم على جدية الاجتهادات وأصالة الدرس وعمق التحليل واتساق المقدمات مع النتائج، أما الاتفاق أو الاختلاف الشخصي فهذه مسائل لا علاقة لها بالقيمة العلمية التي هي مناط عمل اللجنة. ومضيت أقول للدكتور هيكل الذي أشهد له باحتمال ثورتي وانفعالاتي، طوال لقائنا، إن اللجنة التي ينتسب إليها لن تستطيع أن تبرر لأحد تبريراً علمياً كيف أنها رفضت ترقية باحث متميز مثل نصر أبو زيد الذي يفخر به قسم اللغة العربية، في الوقت الذي لم تتردد في ترقية من هم أقل منه علمياً بدرجات ودرجات، لا لشيء إلا لأنهم ساروا في الطرق الممهدة التي يعرفها المتنفذون في هذه اللجنة، وإن أي عاقل لا بد أن يقارن علمياً بين المستوى العلمي لمجموعة الأساتذة الذين ترقوا بوساطة هذه اللجنة والمستوى العلمي لنصر أبو زيد الذي قد تتميز كتاباته عن كتابات بعض أعضاء هذه اللجنة نفسها، خصوصا أولئك الذين وصلوا إليها بالأقدمية المطلقة، وكنا نتندر على القليل الذي يكتبونه لدلالاته الفادحة أو الفاضحة. ولم يكن الدكتور هيكل يجيب عن تساؤلاتي، أو عباراتي الانفعالية التي تدافعت على لساني، سوى بعبارات التهدئة التي شاركه فيها الدكتور محمود علي مكي الذي أكّد لي أنه كتب تقريراً يوصي فيه بالترقية، شأنه في ذلك شأن زميله عوني عبدالرؤوف، وأن اللجنة انقسمت حول الأمر، لكن الجبهة التي كان يستند إليها عبدالصبور شاهين غلبت في التصويت النهائي بفارق صوت واحد لا غير، ولذلك اعتمدت اللجنة تقرير عبدالصبور شاهين الذي أوصى بعدم الترقية. ولم يكن واحد من الاثنين اللذين كتبا تقرير التوصية بالترقية بقادر على فعل شيء، فتقبلا الأمر الواقع الخاص بالتصويت، ذلك على الرغم من أن عضو اللجنة الدكتور سيد حامد النساج ثار ورفض التوقيع وانسحب من الاجتماع. ومضى الدكتور مكي في محاولة تبسيط المشكلة، ونصحني بالرضا بالواقع، والسكوت على ما حدث، ما دام هناك وعد بالترقية في المرة المقبلة. ولم أستطع قبول النصيحة، فقد شعرت بالإهانة البالغة لكل ما أنتسب إليه من قيم جامعية، فلم تكن المسألة مجرد ترقية وإنما انحراف متعمد عن كل التقاليد التي ورثناها وتشويه لها، ومن يرضى بهذا النوع من الانحراف لا يمكن أن يكون جديراً بانتسابه إلى قسم طه حسين. وقلت لنفسي: إنه من الأكرم للمرء أن يستقيل من منصبه ولا يقبل هذه النتيجة غير العادلة، غير العلمية، غير الموضوعية، بل غير الأخلاقية. وزادني إصراراً على ما انتهيت إليه أنني كنت على صلة وثيقة بإنتاج زميلي منذ بداياته، وسبق لي أن كتبت عن كتابه "مفهوم النص"، وأعرف اجتهاداته الفكرية التي دفعت به إلى التعمق في دراسة نظريات التأويل الهرمنيوطيقا وعلوم اللغة بمذاهبها المعاصرة، مثل البنيوية وغيرها، كما كنت أعرف حلمه المنهجي في تأسيس منهج نقدي لدراسة الخطاب الديني على أسس علمية حديثة، يقصد إلى طرائق الخطاب الذي يصنعه البشر عن الدين وحوله، من حيث هي طرائق مرتبطة بمصالح صنّاع الخطاب ومنافعهم الدنيوية بالدرجة الأولى. وكل ما كتبه نصر أبو زيد يدخل في هذه الدائرة من دراسة الخطاب الذي ينتجه البشر عن دينهم، وعبارته "نقد الخطاب" الديني لا تنصرف، قط، إلى نقد الدين وإنما نقد مفاهيمه التأويلية وتصوراته التفسيرية في أذهان المؤمنين به أو الممارسين له أو الدارسين لنصوصه على السواء، كما أن إطاره المرجعي في ذلك كله هو الميراث العقلاني للمعتزلة على وجه الخصوص، ولذلك أطلقت على دراستي عن كتابه الذي لفت أنظار القراء إليه على نحو استثنائي عنوان "مفهوم النص والاعتزال المعاصر". وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة "إبداع" القاهرية في شهر آذار مارس 1991. ولا أذكر بقية الحوار الذي دار بيني وبين الدكتور أحمد هيكل ومحمود علي مكي، فقد غلبتني المشاعر الحزينة الساخطة، وشعرت بأن الجامعة التي حلمت بها، والقسم الذي أشرف برئاسته على شفا جرف هار، وأن التقاليد العلمية التي ورثناها عن أساتذة أجلاء من طراز طه حسين وأحمد أمين وكامل حسين وعبداللطيف حمزة وعبدالعزيز الأهواني وسهير القلماوي وغيرهم مهددة بالدمار، وأن تيارات التعصب المعادية للعلم قد فرضت نفسها على لجنة الترقيات بسبب تخاذل العلماء الحقيقيين الموجودين في هذه اللجنة، وإيثارهم الصمت في المواقف التي تستوجب الصدام، ومن ثم اللجوء إلى ما يسمونه "الحل الوسط" الذي أتاح المجال لأعداء العلم في لجان الترقيات الجامعية كي يقلبوا موازين القياس الموضوعي للعمل الأكاديمي ويرتكبوا من الجرائم ما يندى لها الجبين.