تتصل الدلالة الثالثة التي نقرأها في محنة نصر حامد أبو زيد بما نعانيه من ازدواج المعايير في كل مجال، وعلى كل المستويات. ولنأخذ الطرفين الفاعل والمفعول به، أو الجاني والمجني عليه. أعني عبدالصبور شاهين الذي كان السبب المباشر في المحنة بتقريره التكفيري الذي جرّ وراءه كل حملات التكفير اللاحقة، فهو الذي أشعل الفتيل الذي ترتبت عليه الكوارث التي أعقبته، ابتداء من حملات التكفير التي قادها بنفسه وحرض عليها من منبر جامع عمرو بن العاص الذي كان يؤم المصلين فيه، فانتقلت العدوى منه إلى وعاظ المساجد، من مجموعات التعصب التي تقدمت إلى القضاء للفصل بين نصر وزوجه بدعوى رِدَّته عن الإسلام، فلم تحكم لهم المحكمة الابتدائية. لكنّ محكمة الاستئناف حكمت بالردة، وتبعتها محكمة النقض بغير إحسان، على رغم أن مجلس الشعب المصري كان قد أصدر قانوناً يحول دون الادعاء المباشر بقضايا الحسبة التي قصرها على النيابة العامة وكان يمكن تنفيذ الحكم في نصر وزوجه، لو أن الدفاع عنه اجتهد ونجح في استصدار حكم بإيقاف تنفيذ حكم محكمة النقض الذي كان واجب النفاذ، فلم يعد للحكم الجائر قيمة عملياً، وبقي زواج نصر وابتهال قانونياً وشرعياً. ولولا ذلك ما استطاع بعد ذلك أن يأتي إلى مصر مع زوجه، بعد استقراره في هولندا، أستاذاً في جامعة ليدن، فيما ظل منفى إجبارياً له، رغم كل أشكال التكريم التي نالها، ومنها جائزة ابن رشد الذي يشبهه نصر في محنته رغم اختلاف الزمن. وكان عبدالصبور شاهين، في ذلك الوقت، على علاقة غير بريئة بشركات توظيف الأموال على الطريقة الإسلامية فيما ادعوا وهي شركات انتهى بها الأمر إلى نهب أموال المصريين باسم الإسلام وكان عبدالصبور شاهين، فضلاً عن ذلك، أستاذاً في كلية دار العلوم التي يجمعها عداء تاريخي مع كلية الآداب لأسباب متعددة، رغم انتماء الكليتين إلى جامعة واحدة. ولكن الآداب أخرجت طه حسين، واحتفت بأمين الخولي أستاذاً لعلوم القرآن والحديث، وظلت تقود حركة استنارة عقلانية مركزها قسم اللغة العربية الذي رأسه تلامذة طه حسين من أمثال سهير القلماوي وبعدها شكري عياد مع عبدالحميد يونس، مقابل دار العلوم التي تخرج فيها حسن البنا ثم سيد قطب، ولا تزال تلعب دور مركز الإخوان المسلمين في جامعة القاهرة، وهي التي أخرجت أكثر من كتاب يدعم تكفير نصر أبو زيد، وعميدها أستاذ الشريعة، البلتاجي، هو الذي كتب لرئيس الجامعة تقرير تكفير لكتبه، أقنع الرئيس، مأمون سلامة، رحمه الله، برفض اعتراضات قسم اللغة العربية وكلية الآداب، وقاد مجلس الجامعة في حرمان نصر أبو زيد من الترقية وفي الوقت الذي كان عبدالصبور أستاذاً في دار العلوم وإماماً وخطيباً، كان وثيق الصلة بالأزهر والحكومة على السواء، فكان عضواً في مجمع البحوث الإسلامية، وعضواً بارزاً في أمانة الدعوة بالحزب الوطني، مرضياً عنه من الدولة والأزهر معاً، ومن ثم نجماً أثيراً لأجهزة الإعلام التي كان يطرح فيها نوعاً من الخطاب الديني الذي نقضه نصر الذي كان، على النقيض من ذلك كله، باحثاً فقيراً، لا يملك إلا قلمه وعقله الاعتزالي ومنصبه الجامعي الذي ظل زاهداً في أي منصب سواه، قابضاً على إيمانه بالعدل الاجتماعي الذي جعله لا يتردد في الهجوم على الذين ساندوا شركات توظيف الأموال بفتاوى مضللة. ولذلك كان من الطبيعي أن يغدو صوت عبدالصبور شاهين أعلى، وأكثر جهارة ودوياً، وأن يغلب صوت التعقل الهادئ لنصر حامد أبو زيد. لكنّ المفارقة الدالة تكمن في الفارق الهائل الذي ناله كلا الشخصين في مدى الاجتهاد، فقد انتهى عبدالصبور إلى تكفير نصر الذي صنع بداية محنته، وبعد ذلك بسنوات أصدر عبدالصبور شاهين كتابه «أبي آدم» الذي اتهمه الكثيرون من المشايخ بالتهم نفسها التي اتهم بها نصر ولكن ماذا جرى لهذا وذاك؟ نصر نعرف ما جرى له أما عبد الصبور شاهين فقد سارع أحلافه الأقوياء إلى إنقاذه، ففضوا الخلاف بينه والمعترضين عليه بدعوى رأب الصدع، في مواجهة من سمّوهم العلمانيين الملاحدة وبالفعل، تدبروا الأمر في ما بينهم، ولم يضر عبدالصبور شاهين بشيء، وأصبح كتابه «أبي آدم» من الكتب الرائجة الأكثر مبيعاً، ولم يفكر أحد في مقاضاته رغم أنه اتهم بالتهم نفسها التي سبق بها نصر، لسبب بسيط مؤداه أن التيار الذي ينتسب إليه يمكن أن يغفر لأفراده خطأ اجتهادهم، لكنه لا يغفر ذلك لأبناء غيره من التيارات، وذلك ازدواج دال، تؤدي دلالاته إلى عدم صدقية هذا التيار الذي يكيل بمكيالين. ولنقارن ذلك بموقف نصر الذي ظل يلح، حتى بعد حكم النقض عليه، بأنه من حق الجميع أن يجتهد وأن تحترم اجتهادات كل مجتهد، من دون تفريق بين تيار وآخر وبالقدر نفسه، والقياس المتسق ذاته، كان يذهب إلى أنه من حق كل القوى السياسية، أن تنشئ أحزابها الخاصة، بما في ذلك الإخوان المسلمين الذين ظل عبدالصبور شاهين أقرب إليهم من غيره، فقد كان عدم الازدواج قرين الديموقراطية التي تتكامل مواقفها ولا تتجزأ في فكر نصر ووعيه. قضية المرأة يكمل ذلك قضية المرأة التي كان نصر ينظر إلى تحريرها من منظور إسلامي عقلاني، يؤكد تحررها، ويؤصل لمساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، ويدافع عن حريتها في التعبير عن آرائها وأفكارها بحرية كاملة، لا فارق بين حريتها وحرية الرجل، ولذلك دافع عن خطاب تحررها في كتاباته، ووقف ضد الذين سلبوها حقوقها باسم تأويلات دينية ضيقة الأفق لكنه في الوقت نفسه، كان يرفض وقوع المرأة أو الرجل في شرك الخطاب النقيض، أو الانبهار بالتسامح الفكري البراق، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من الوقوع في شراك أعداء الإسلام على نحو واعٍ أو غير واعٍ، ولذلك رفض أن ينطق بالشهادة أمام المحكمة، ورفض بشدة أن أضيفها في بيان كتبه بخطه، وقاطعني بسبب ذلك فترة من الزمن، إلى أن هدأ غضبه وفهم صدق نياتي، وكان ذلك كي لا يجعل من محكمة الأحوال الشخصية محكمة تفتيش، وما كان أسهل النطق بالشهادة، ولو على سبيل التقية، ولذلك ظل على موقفه المتكامل فلم يتخل عن إيمانه العميق بالإسلام، وأعلن الشهادة في الغرب أكثر من مرة على سبيل تحديد المواقف، ولم يكن يلقي محاضرة في أي بلد أوروبي أو أميركي إلا بعد البسملة، ولم يغفر لتسليمة نسرين تهجمها على الإسلام في تقربها إلى المؤسسات الغربية، ورد عليها بقوة وحسم مدافعاً عن الإسلام، وظل قانعاً بعمله الأكاديمي في ليدن دون أن يتخطى هذا العمل إلى التجارة بما حدث له، فعاش محترماً، متكاملاً في مواقفه على عكس خصومه. ازدواجية الدولة ويمكن أن أذكر في هذا السياق موقفه من ازدواج الدولة والتناقض في معاييرها، فالدولة المصرية، على سبيل المثال، تنص على أن دينها الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للدستور، فذهب نصر إلى أنه لا فارق بين الدولة المصرية القائمة، دستورياً، والدولة التي تهدف إليها جماعة مثل الإخوان المسلمين التي تعلن أنها تريد دولة دينية، تكون الحاكمية فيها لله، ودستورها القرآن، ولا فارق بين ذلك، جوهرياً، وما ينص عليه الدستور الذي صيغ على هوى السادات، رحمه الله، في فترة تحالفه مع الإسلام السياسي، فنسيت المواد الدستورية التي أضافها، وعدّلها ترزية قوانينه، أن الإسلام ليس هو الدين الوحيد للدولة، وأنه لا معنى مع النص على أولية الشريعة الإسلامية بوصفها مصدراً أساسياً في التشريع والحجر، في الوقت نفسه، على إنشاء أحزاب دينية، ففي الأمر ازدواج واضح وقياس بمكيالين. والواقع أن محنة نصر أبو زيد كان يمكن أن تكون أبسط وأقل تعقداً وضرراً في نتائجها لو كانت الدولة متسقة مع شعاراتها المدنية، أو ادعاءاتها المتكررة بأنها دولة مدنية، فكيف تكون دولة العلم والإيمان أيام السادات دولة مدنية حديثة بكل معنى الكلمة؟ وكيف يمكن لعاقل أن يتقبل التذبذب في موقف الدولة من جماعات الإسلام السياسي من ناحية وقوى فكر المجتمع المدني من ناحية مقابلة؟ فقد تهادن الدولة أو تتقارب مع أحدهما على حساب الآخر، طلباً لمنفعتها ودفاعاً عن بقائها في السلطة، مع ملاحظة أن نظام الحكم المصري يبدو أميل إلى مهادنة تيارات الإسلام السياسي لا معاداتها، في التحليل الأخير ولا ينفصل ذلك عن وقوف النظام السياسي موقف الحياد، وهو يرى جماعات التطرف الديني تبطش بالمفكرين الأحرار من المدافعين عن الدولة المدنية، وهو حياد زائف في حقيقته، خصوصاً أن الكفة راجحة لحساب مجموعات الإسلام السياسي ومتعصبيه لاعتبارات كثيرة. ومن عجب أن هذا النظام السياسي الذي ازداد تأكيده لحضور الدولة المدنية وتمثيله لها، أخيراً، هو نفسه الذي سكت على اختراق القضاء، وتحويل القانون المدني لصالح مجموعات الإسلام السياسي. وكان الشاهد الفاجع على ذلك خطوات محاكمة نصر أبو زيد، فلم يتحرك النظام إلا بعد أن ضج الجميع من قضايا الحسبة، وأعلن رافعو دعوى الحسبة ضد نصر، أنهم يقومون بتجهيز ملفات أربعين دعوى قادمة على أعلام الفكر والإبداع، بعد نصر، وعلى رأسهم نجيب محفوظ وعندئذ، تحركت الدولة بعد أن ضغط عليها أصدقاؤها. ومع ذلك صدر قانون الحسبة غير كامل، وينقصه أمران: أولهما الإلغاء نهائياً، وليس إمساك العصا من الوسط، برد الأمر إلى النيابة، والثاني هو عدم الإلغاء بأثر رجعي، بما يجعل القانون لاغياً لكل القضايا التي كانت لا تزال معلقة، ومنها قضية نصر. وهو أمر ترتب عليه أن أصدر قاضي النقض حكمه الجائر بالتفرقة بين نصر وزوجه، فكان الحكم كارثة، ووصمة عار ستظل باقية على جبين الفكر العربي الديني والمدني على السواء، خصوصاً بعد أن أصبحنا أضحوكة لتخلفنا في أنظار العالم. ولولا أحرار الفكر الذين وقفوا إلى جانب نصر، في أوروبا، لما رُدَّ الاعتبار إلى الرجل بتعيينه في منصب جامعي رفيع القدر في جامعة ليدن، بينما لم تبادر رئيسة القسم الذي ينتسب إليه في جامعة القاهرة إلى إلغاء أو تأجيل جلسة القسم، لكي يذهب الأعضاء مع الجثمان لدفنه في مسقط رأسه. وهو موقف لا يمكن إلا أن يدعو إلى الحزن مما انتهت إليه التقاليد الجامعية في قسم طه حسين الذي أصابه ما أصابه. ولا تزال هذه الدولة على حيادها الزائف، مع تأكيداتها الأكثر زيفاً أنها دولة مدنية، تاركة أنصار الدولة المدنيين من المثقفين المدافعين عنها، تنهال عليهم أحكام المحاكم الابتدائية بأحكام الغرامات المالية الباهظة لصالح أنصار الدولة الدينية وممثلى الإسلام السياسي. وتضم القائمة أحمد حجازي وجمال الغيطاني ومحمد شعير وعزت القمحاوي وإبراهيم أبو سعده وحلمي سالم وجابر عصفور وغيرهم، رغم طول الصراخ بضرورة إصدار تشريع يوقف الشكل الجديد للحسبة، لكن ما من أحد يفعل شيئاً في النظام السياسي الذي يبعث على الحيرة، حقاً، في تحديد موقفه من كونه دولة مدنية كما يزعم. واعترف أن جعبة الذاكرة تحتوى الكثير من الذكريات المريرة الدالة على الازدواج في موقف النظام السياسي وجامعة طه حسين التي تبرأت من تقاليده، فدافعت كليته في عهد أحد العمداء عنه، وعادت لتستبعد كتبه من مكتبتها في عهد عميد آخر ويتخذ القسم قراراً بالإجماع على رفض تقرير عبدالصبور شاهين التكفيرى، بينما يعود القسم نفسه إلى رفض اشتراك نصر في مناقشة إحدى الرسائل الجامعية في عهد رئيس ثانٍ، وترفض رئيسة القسم الأخيرة تأجيل أو إلغاء جلسة القسم حداداً على واحد من أهم أعلام قسمها، ولا يخجل أكبر أعضاء القسم سناً من عدم حضور العزاء، وذلك في سلسلة من الازدواجات التي تؤكد، مرة ثانية أو ثالثة، أن محنة نصر أبو زيد محنة تتجاوز فرداً إلى وطن، وشخصاً واحداً إلى دولة، ودولة إلى ثقافة دول.