غيب الموت الدكتور حنا بطاطو، أحد ألمع المؤرخين العرب المعاصرين، والمشهور بدقته العلمية، وإحاطته الموسوعية بالموضوعات التي تفرغ لها واعطاها عمره كله. ولد في القدس عام 1926، ودرس في الولاياتالمتحدة الاميركية، وعاش وعلم في بيروت، وأعطى عمره لدراسة العراق وسورية، ثم اختار ان يقضي بقية عمره في جامعة جورجتاون في واشنطن استاذاً للدراسات العربية الحديثة، الى ان تقاعد ووافته المنية بعد صراع طويل مع مر ض السرطان. شهدت الجامعة الاميركية في بيروت التي التحق بها مطلع الستينات، فترة عطائه العلمي، مدرساً وباحثاً ومؤرخاً، وبقي فيها فترة طويلة محاطاً بالاحترام والتقدير من زملائه وتلاميذه الكثر، الى ان احتلت اسرائيل العاصمة اللبنانية عام 1982، فرفض العيش تحت الاحتلال وسافر الى الولاياتالمتحدة. قضى حياته عازباً ومترهباً للبحث العلمي، وكان يحمل الجنسية الاميركية التي حصل عليها منذ فترة دراسته الأولى هناك. نشأ في عائلة فقيرة ما كانت تستطيع توفير تعليم جامعي له، فتولى الأمر عمه المهاجر الى اميركا، ووفر له الدراسة في أرقى الجامعات هناك، حتى حصل على شهادة الدكتوراه، وظهر من خلالها اهتمامه المبكر بدراسة العراق، اذ كان موضوع رسالته للدكتوراه "الفلاح والشيخ في النظام الاقطاعي في العراق". وبدأ بطاطو وهو يعلم في الجامعة الاميركية في بيروت، اعداد كتاب عن الحزب الشيوعي العراقي، لكن الكتاب اتسع معه ليصبح كتاباً شاملاً عن العراق، وقد أمضى في تأليفه اكثر من 15 عاماً، وأصدره باللغة الانكليزية عام 1978. وهو كتاب ضخم يتكون من 1250 صفحة، صدر في طبعته الأولى عن جامعة برنستون قبل ان يصدر مترجماً الى العربية عام 1990 في بيروت، عن "مؤسسة الابحاث العربية". صدر الكتاب في ثلاثة اجزاء، وترجمه عفيف الرزاز، وهو يحمل اسم "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية". خصص الجزء الأول من الكتاب للحزب الشيوعي، وساعده في انجازه انه استطاع الاطلاع على وثائق الأمن العراقي في عهدي نوري السعيد وعبدالسلام عارف، ولهذا جاء الكتاب متضمناً معلومات مدققة، لا يعرفها حتى كبار المطلعين على تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في تلك الحقبة. ومنذ هجرته الأخيرة الى الولاياتالمتحدة بدأ اعداد كتاب عن سورية، وأمضى في اعداده ما يقارب العشرين عاماً، وأصدره في العام 1999 بعنوان "فلاحو سورية وأبناء وجهاء الريف الأقل ثراء الكولاك وسياستهم"، وصدر الكتاب بدوره عن جامعة برنستون، ولم يترجم الى العربية حتى الآن، لكنه يعتبر مرجعاً تاريخياً واجتماعياً عن سورية، يماثل مرجعية كتابه عن العراق. وإذا كان الفقيد حنا بطاطو غير معروف على نطاق شعبي، الا ان مكانته في الأوساط العلمية والأكاديمية، العربية والعالمية، مكانة كبيرة، ومن غير المستبعد ان نشهد في الشهور القادمة، احتفاء علمياً بذكراه تتولاه اكثر من جامعة أو مؤسسة علمية عربية. ووصف البروفسور هشام شرابي، الاستاذ في جامعة جورجتاون في واشنطن، الراحل الدكتور بطاطو بأنه كان في مقدم الباحثين في موضوع السوسيولوجيا والسياسة في العالم العربي. وأضاف شرابي في حديث هاتفي اجرته معه "الحياة" ان بطاطو "كان فذاً بكل معنى الكلمة، وكنت موجوداً معه في جامعة جورجتاون اثناء تأليف كتابه عن سورية، وعرفت منهجيته في البحث معرفة تجعل المرء يفتخر فعلاً بأن يكون زميلاً له". وعن تفرغ الراحل للعمل الاكاديمي والبحث والقراءة والكتابة قال شرابي ان بطاطو كان يعيش وحده "وعندما كان في الجامعة الاميركية كان يسكن في منزل صغير في الشويفات ولا ينزل الى المدينة الا للتدريس. وقد فعل الشيء نفسه في اميركا، اذ سكن في بيت كبير في قرية نائية تبعد عن واشنطن مسافة ساعتين ونصف ساعة بالسيارة، وكان من يزوره يضطر للسير عبر غابة للوصول الى منزله الذي كانت غرفه كلها مليئة بالكتب والدوريات. كان شبه متنسك". وعن علاقة الدكتور بطاطو بالطلبة الذين درسهم قال الشرابي: "طلابه في جورجتاون وبيروت يعتبرونه من أفضل الاساتذة. كانت محاضراته دائماً دقيقة، مبنية على وثائق أمامه، وكان يهتم بالطلبة اهتماماً فردياً وكان مثالياً كأستاذ وباحث". خرج الدكتور بطاطو من بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وتوجه للتدريس أولاً في جامعة هارفارد لنحو ثلاث سنوات، انتقل بعدها للتدريس في جامعة جورجتاون حيث أمضى السنوات ال15 الأخيرة من حياته. واذا لم يكن الفقيد معروفاً على نطاق شعبي، الا ان مكانته كبيرة في الأوساط العلمية والاكاديمية، العربية والعالمية. وتستعد جامعة جورجتاون ومؤسسات علمية أخرى لإحياء ذكراه. وشيع الدكتور بطاطو امس الثلثاء في ولاية كونيكتيكت حيث أمضى أيامه الأخيرة قريباً من أنسباء ىقيمون هناك.