الشغب "آفة" خطيرة عرفتها الملاعب الرياضية منذ زمن بعيد، وتباينت آراء المسؤولين واساتذة علم النفس حبال اسبابها وتحدثوا طويلاً عن حلول لها من دون ان تختفي. بل ان اللافت انها شهدت بعداً جديداً وخطيراً في زمن الاحتراف الذي نعيشه الآن، بل وصارت من مستلزمات المباريات المهمة والحساسة ليس فقط في ملاعب كرة القدم التي تمثل اللعبة الشعبية الاولى وانما طاولت ايضاً باقي الألعاب. وما من شك في ان الاحتراف أدى دوراً مهماً في ازديادها بعدما صارت المنافسات الرياضية تمثل مصدر الرزق الاساسي لكل العاملين في هذا المجال، وبات الحرص على مصدر الرزق من اهم اسباب هياج الاداريين والمدربين واللاعبين ما ينعكس سلباً حكماً على الجماهير. في الماضي السحيق كان الانسان يمارس الرياضة ليمضي أوقات فراغه بطريقة تكفل له تطوراً في قدراته البدنية وممارساته الاجتماعية واغتباطاً نفسياً لأنه يحتاج دائماً الى التعبير عن ذاته من خلال المسابقات والبطولات التنافسية التي يشارك فيها. ومع مرور الوقت طغى التخصص على حياة البشر وانسحب ذلك على كل الأنشطة الحياتية ومنها بالطبع الأنشطة الرياضية وصار الاحتراف هو أمل كل "هاو"... واللعب بهدف كسب الرزق هو الوسيلة المأمونة لتأمين حياة اجتماعية مرفهة. وهكذا طغى التفرع وصارت الرياضة مهنة في حد ذاتها وانتظم الجميع، ادارياً ومدرباً ولاعباً، في عملهم بموجب عقود دقيقة مغرية. ومع الأيام تبين أن لكي يستمر "الراتب" يجب ان يقدم هؤلاء المقابل، وهذا المقابل هو الفوز، لا غير، حتى لو تم بطريقة عوجاء تعتمد قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة". ولأن كل امرئ يحاول الحفاظ على مصدر رزقه، فإنه يسعى الى ترجمة ذلك عملياً بأي طريقة ممكنة: خشونة متعمدة... اضاعة وقت... اثارة الفريق المنافس وجماهيره. وكلها امورترفع من وتيرة العنف وتزيد من الشغب تلقائياً. لا أحد ينكر أن هناك عوامل عدة وأسباباً متنوعة تقف وراء هذه الظاهرة، منها ما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي. فالأجواء المحيطة بالشباب، وهو غالباً ما يكون العنصر المحرك لأعمال العنف والشغب في الملاعب، تؤثر كثيراً في تصرفاته. وكلما قل مستواه العلمي وادراكه هذه الجوانب، كان أكثر عرضة للانفعال والقيام بأعمال متهورة بهدف التنفيث عن كبت أو التعبير عن غضب... او للتعبير عن حال معينة يمر هو بها هي في الغالب لا تمت إلى الرياضة بأي صلة. وكلما ارتفع مستوى الفرد اقتصادياً وثقافياً وقلت مشكلاته الاجتماعية، ابتعد بنفسه عن اعمال العنف والشغب، والدليل مثلاً اننا لم نسمع قط عن أعمال شغب في السويد أو النروج. إن أكثر الشعوب شغباً في الملاعب تنتمي الى دول أميركا الجنوبية التي لا تكاد تخلو مناسبة رياضية مهمة من اعمال عنف، لكن أرفعها شهرة هم الانكليز. و"الهوليغانز" مصطلح اطلق على جماعات انكليزية منظمة تحترف اعمال الشغب، وتديرها نخبة من الشباب "الصيّع" الضائع الذي لا "شغلة له ولا مشغلة". وتبث هذه الجماعات روح العنف لدى أطفالها منذ الصغر وتزرع فيهم الحقد وكُره كل ما هو جميل ومستقيم، وتدرس لهم "اصول الشغب" حتى يمكنهم حمل اللواء والتواصل جيلاً بعد جيل. وقبل أشهر قليلة عرض التلفزيون البريطاني تقريراً خاصاً عن هؤلاء الهوليغانز، واندس صحافي انكليزي مشهور بينهم... عاش معهم وأوهمهم انه منهم وعرف كل شيء عن حياة الضياع التي يعيشونها، وكيف يدربون أطفالاً في عمر الزهور على التدمير والتكسير. وخرج "صاحبنا" بشريط مصور يعرض كل صغيرة وكبيرة عن هؤلاء الخارجين عن القانون، وكيف يتباهون أنهم كانوا وراء احداث الشغب التي وقعت في هذا الملعب أو تلك المدينة، وكيف يتفاخرون بمواجهاتهم مع الشرطة وتدميرهم للمتاجر والسيارات وخلافه. والسجل الانكليزي في هذا المجال هو الأسوأ، واذا فتحنا صفحاته عبر السنوات ال25 الماضية لتعرفنا إلى وقائع مشينة. ففي عام 1975، قامت جماهير ليدز يونايتد بأعمال شغب عنيفة في باريس خلال المباراة النهائية لكأس أوروبا للأندية الأبطال، وكانت النتيجة ان حُرم الفريق الانكليزي المشاركة الأوروبية لمدة أربع سنوات. وفي عام 1977، قامت مجموعة من المشاغبين بتدمير المحلات والسيارات في لوكسمبورغ بعد مباراة للمنتخب في تصفيات المونديال. وفي عام 1983، اقتحمت مجموعة من مشجعي توتنهام بعض الأماكن العامة في روتردام ودمرتها، وكانت الحصيلة اصابة 30 شخصاً. وفي عام 1984، قتل مشجع لفريق توتنهام في بروكسل وقبض على نحو200 انكليزي عشية اللقاء مع اندرلخت في كأس الاتحاد الأوروبي. وشهد عام 1985 واحدة من أسوأ الكوارث التي شهدتها الملاعب، والتي وقعت في ملعب هيسيل في بروكسل وراح ضحيتها 39 مشجعاً أغلبهم من الايطاليين قبل دقائق قليلة من انطلاق المباراة النهائية لكأس اوروبا للأندية الأبطال بين ليفربول الانكليزي ويوفنتوس الايطالي. وعاقب الاتحاد الأوروبي الاندية الانكليزية بحرمانها المشاركة في مسابقاته القارية الى أجل غير مسمى. أما عام 1989، فشهد الكارثة الأكبر في الملاعب الانكليزية، هي التي راح ضحيتها 95 شخصاً وأصيب 300 آخرين عندما اندفعت الجماهير نحو الأسوار الفاصلة بين المدرجات والملعب فهوت على المشجعين قبل بدء المباراة النهائية لكأس انكلترا بين ليفربول ونوتنغهام فورست. ومع بداية التسعينات، تفشت ظاهرة الهوليغانز ولم يخل أي حدث كبير تشارك فيه انكلترا داخلياً أو خارجياً من أعمال شغب الا ان كل هذه الأحداث انتهت من دون قتلى، الى أن شهد العام 2000 مقتل مشجعين اثنين لفريق ليدز يونايتد طعناً في مدينة اسطنبول عشيه مباراة فريقهم مع غلطة سراي التركي في الدور نصف النهائي لكأس الاتحاد الأوروبي. ثم كانت الأحداث الاخيرة التي شهدتها أروقة نهائيات كأس الأمم الأوروبية المقامة الآن في هولندا وبلجيكا معاً. وإذا أغلقنا ملف الشغب الانكليزي، فلا يمكن أن ننسى حكاية "البرتقالة" التي أخرجت مصر من تصفيات كأس العالم 1994 بعدما تأهلت فعلاً الى دورها الحاسم والأخير. ففي لقاء مصر وزيمبابوي الذي أقيم على ملعب القاهرة الدولي وانتهى لمصلحة أصحاب الأرض 2 - 1، تهور البعض وألقوا ببعض الحجارة وثمار البرتقال على اللاعبين الضيوف الذين احتجوا لدى الاتحاد الدولي عقب المباراة. وكانت المفاجأة ان شكل الاتحاد لجنة للبحث في الاحتجاج برئاسة المكسيكي غييرمو كانيدو نائب رئيس الاتحاد آنذاك، فرأت ان المباراة اقيمت في أجواء غير طبيعية وان ثمرة برتقال اصابت لاعباً من زيمبابوي قبل أن تبدأ المباراة، ثم اصابت ثمار اخرى مدرب المنتخب الضيف وحارسه الشهير بروس غروبيلار. وقررت اللجنة الغاء نتيجة المباراة واعادتها على أرض محايدة واختارت فرنسا لاقامتها هناك فانتهت بالتعادل من دون أهداف وخرجت مصر وتأهلت زيمبابوي. وفي افتتاح الدورة الرياضية العربية الثامنة عام 1997 في بيروت، أدى تدافع الراغبين في حضور حفلة الافتتاح الى معركة بين الجمهور الذي فاق عدده قدرة الملعب على الاستيعاب، والقوى الأمنية الموجودة في المحيط. واستعانت القوى الأمنية بسيارات الاطفاء التي سارعت إلى رش المياه على الجمهور لمنعه من ارتياد الملعب أو عبور الأسوار بطريقة غير نظامية. وقام بعض المتهورين برشق رجال الأمن بالحجارة فبادروا باطلاق النار في الهواء لتفريق المتجمعين... ومن لطف الأقدار أن لم تقع اصابات. وفي الدورة نفسها حطم مشجعون سوريون مقاعد المدينة الرياضية "الجديدة" بعد خسارة منتخبهم امام نظيره الاردني في نهائي مسابقة كرة القدم وتعرض بعض الحضورلإصابات خطيرة. وفي ليبيا وفي عام 1997 ايضاً، شهدت ارضية ملعب المدينة الرياضية في طرابلس الغرب معركة حقيقية بين انصار الاتحاد الذي كان يرأسه المهندس محمد القذافي النجل الاكبر للعقيد معمر القذافي ورئيس اللجنة الاولمبية حالياً، وانصار الاهلي الذي كان يرأسه الساعدي النجل الآخر للعقيد راح ضحيتها 8 قتلى و39 جريحاً بعدما تبادل المشجعون اطلاق النار. وخرجت الجماهير الغاضبة في تظاهرات ساخطة على "نظام الحكم"، ودمرت وحطمت العشرات من السيارات وواجهات المحال التجارية. وفي النسخة الأخيرة من الدورة العربية عام 1999 في الأردن وقعت احداث شغب مثيرة في ملاعب كرة القدم تحديداً وخصوصاً في لقاء ليبيا مع فلسطين، وقام الساعدي القذافي، الذي كان يجلس على مقاعد الاحتياطيين، باطلاق اعيرة نارية في الهواء من سلاحه الخاص بينما كانت الجماهير الليبية المثيرة للشغب تهتف: "زيد يا ابن معمر زيد... احنا وراك زي الحديد"!وعندما سئل الساعدي عن تصرفه عقب المباراة، قال ان ما حدث امر عادي جداً. الأحداث المؤسفة كثيرة وتحتاج الى مجلدات لتوثيقها، لكن المهم هو السعي وراء ايجاد الحلول المناسبة والاجراءات الصارمة التي تحد من انتشارها على الأقل في ملاعبنا العربية. وان كان الشك يساورنا في أن الاصلاح ممكن لأن جل المسؤولين في بلادنا منحازون إلى فريق أو آخر ويعملون لنصرته من "تحت لتحت"، ما يزيد من مشاعر الغضب والكره لدى الآخرين الذين ينتظرون أي شرارة صغيرة فيشعلون منها ناراً كبيرة... لا يعرف احد من يقدر على اخمادها. * المحرر الرياضي في "الحياة".