أنا مدين للأخ علي طه بالاعتذار... علي طه هو بطل فيلم "القاهرة 30" قام بدوره عبدالعزيز مكيوي وكان يطاردني اينما كنت، فكلما رأيته بعدت، وكلما اقترب مني فررت، وكلما لمحني جريت. حتى اكتشفت ان علي طه هو ظل كل مثقف وكاتب مصري. ويستحسن حتى لا نرهق دورتنا الدموية الا نجري هرباً من ظلنا، فإذا كان لديك ظل لا يعجبك افضل كثيراً ان تفقده اساساً. عندما انهيت 170 صفحة من رسالة دكتوراه لا احب تعبير اطروحة، فهو شبيه النسب اللغوي بتعبير ارجوحة وقد تضمنت الصفحات محاولات السابقين الاولين من المفكرين لتعريف كلمة المثقف، شعرت ان المفهوم حائر وتائه بدرجة الحيرة والتيه نفسها لدى المثقف في صحراء وطنه السياسية والانسانية. لكنني خرجت من التعريفات كلها بتعريف استهواني وأحببته، وهو للكاتب الفرنسي جان بول سارتر، ينص على ان المثقف هو الشخص الذي يتدخل في ما لا يعنيه... ونسي سارتر ان يضيف "ليفسده"... فصحة التعريف عندي هي: المثقف هو الشخص الذي يتدخل في ما لا يعنيه ليفسده... ولعلك تتذكر معي علي طه حين كان يصاحب سعاد حسني في شوارع "القاهرة 30"، فإذا به يترك جمال عينيها، ورشاقة جسدها، وابتسامتها وحلاوة روحها، ويتحدث معها عن اوغست كونت وفرنسيس بيكون. ومن المؤكد ان اوغست كونت شخصياً لو كان يصاحب في مشيته سعاد حسني، لترك الفلسفة وتعلق بعنقها وركع عند قدميها، ولكن ماذا تفعل للمغفل علي طه؟ وفي المناسبة، الفيلم عن رواية "القاهرة الجديدة" للمبدع الاعلى نجيب محفوظ، وصاحب حوار الفيلم لطفي الخولي، ومخرجه البديع صلاح ابو سيف. في احداث الفيلم كلها ترى علي طه متجهماً ومكشراً ويتعارك مع ذباب وجهه، وينهر زملاءه - الطلبة - في الشقة. ويمسك طول الوقت بكتاب في يده يذكرني بالاطفال الذين لا ينامون الا ودميتهم في احضانهم، وحين اكتشف ان حبيبته انحرفت، كان ما فعله النظر الى السقف وتأمله، ثم النظر سخطاً اليها، والى الزمن الرديء، ثم امطرها بوابل من الكلام الاجوف الفارغ عن المستقبل... و"راحت" سعاد حسني عليه ألف ستين خيبة. لكن علي طه لم يكتف بما فعله، او بالأدق بما لم يفعله... بل واصل "كفاحه" بعد التخرج في الجامعة، فعمل في الصحافة ما الكفاح في ذلك؟ ثم رفض الالتحاق بركب الجرائد الموجودة طبعاً لأنها مقروءة، واختار اصدار صحيفة اشتراكية من مستودع عمارة، حدد سياستها التحريرية بخطبة افتتاحية وجهها الى زملائه المحررين كلهم ثوار طبعاً، وأشك في ان احداً منهم يعرف كيف يصوغ خبراً وركز على ان تخلو الصحيفة من زخارف القول، والصور، طبعاً كي تكون جادة، ومؤثرة في الناس !. ولم يقدم الفيلم الينا اي معلومة عن توزيع مجلة علي طه الاشتراكية، او تأثيرها، ولكن استناداً الى التاريخ يمكن ادراك انها مجلة لم تكن توزع اكثر من ستين نسخة، وان تأثيرها لم يتجاوز "بارات" وسط البلد ايامها، بل من الواضح في الفيلم ان سعاد حسني نفسها لم تقرأها. فإذا كانت حبيبته السابقة لم تضع على قلبها بصلة وتقرأ مجلته، فمن، اذاً جرؤ على ان يقرأها؟ ولا بد طبعاً للمثقف من ان يعاني، ولهذا مرض علي طه فجأة. ثم لا بد له من ان يكون شريفاً، فرفض المنحة المالية التي قدمتها اليه حبيبته السابقة، سعاد حسني. ولا بد طبعاً من ان يطارده البوليس السياسي، بوليس اهبل جداً، فماذا يفعل اساساً علي طه طول الفيلم كي يعيره البوليس السياسي او حتى بوليس المرور اهتماماً؟ لكن اجمل ما في الفيلم نهايته، اذ يطارد البوليس علي طه الذي يمسك منشوراته لا احد يعرف ماذا فيها بالضبط؟ ويجري جريحاً، وشبه مقتول في الشوارع يرمي عليهم المنشورات. ومن المؤكد، وقد قدم الفيلم نهايته على هذا النحو، ان الناس قرأوا المنشورات من هنا، والتفت كل مواطن الى زميله: "مسألة صعبة قليلاً، الاسهل ان نكتب نحن منشوراً مثل علي طه ونوزعه، وهكذا نكون تحركنا وجاهدنا وتعبنا فقط في مقابل ثمن علبة السجائر التي سندخنها، ونحن نعكف على المنشور الساخن". اخطأ علي طه - ونحن معه - حين تصور ان النضال ضد الاستعمار وضد الفساد، في بلاده، ان نكتب منشورات ونوزعها في نهاية الفيلم. وقد تحول المثقفون كلهم خطباء في مقار جرائدهم الهشة، التي لا يقرأها الا زملاؤهم في البارات الفقيرة. وحين يفكرون في تصعيد النضال يكتبون منشورات وبيانات يرسلونها الآن بالفاكس بديلاً من "البهدلة" في توزيعها، على الناس في الشوارع. ثم يعودون الى الحديث عن اوغست كونت وفرنسيس بيكون. وقد حاول المرء طول حياته ان يبعد شبح علي طه عنه، لكنه اكتشف ان شبح علي طه ارحم بكثير من شحم ولحم محجوب عبدالدايم الذي يضرب كتفه بكتفك كل يوم ويصرخ: "طظ!!" في الفيلم نفسه.