عندما وصل الأمين العام للأمم المتحدة إلى بيروت تلطفت الفاظه وتواضعت تصريحاته عما كانت عليه قبل وصوله. فهو يعرف أنه ارتكب في حق لبنان خطأ يكاد يسلب البلد الصغير الانتصار الذي حققه. حتى ان أنان تصنع الغباء عندما قال إنه فهم ان لبنان يعترض على الخط الذي حددته الأممالمتحدة للانسحاب خط لارسن في حين أن الاعتراض يركز على اختراقات إسرائيلية لهذا الخط، ولم يقل من أفهمه ذلك، بل لم يقل لماذا لم يشر فريقه المشرف على التثبت من الانسحاب إلى تلك الاختراقات. كان في تصرف أنان شيء من الاحتقار لدولة صغيرة يراد ترهيبها بفرض أمر واقع عليها. وأقل ما في هذا التصرف أنه لا يليق بالرجل الأول في الأممالمتحدة. وهو زاد عليه تجاهل لمدة يومين للاعتراضات اللبنانية المحقة، وأصرّ على وجوب إصدار مجلس الأمن بيانه قبل أن يصل إلى بيروت، وانتهى إلى "التهديد" بعدم زيارة لبنان إذا تعرقل إصدار البيان. ووسط هذه الصبيانيات غير المعهودة، اضطرت مادلين أولبرايت للتدخل لإنقاذ الموقف، فأنان رجل الإدارة الأميركية في الأمانة العامة وطالما أنه متورط في قصة متسرعة ومكشوفة فلا بد من مساندته. وفي مجلس الأمن نفسه تولى المندوبان الأميركي والبريطاني إدارة اللعبة لتفادي أزمة ناجمة أصلاً عن تقرير للأمين العام يقول إن الانسحاب الإسرائيلي اكتمل، لكنه في الواقع لم يكتمل حتى هذه اللحظة. يقال الآن ان الاختراقات الإسرائيلية قابلة ل"المعالجة"، أو أنها ستعالج. وهذا في حد ذاته مخالف للمنهج النظري الذي اتبعه أنان منذ بدء البحث في الانسحاب. ولا يعني وجود الاختراقات سوى شيء واحد، هو ان الانسحاب لم يكتمل، وبالتالي فإن هذا الإصرار المريب على تزكية تقرير الأمين العام لم يكن مبرراً، واستطراداً لم يكن الوقت قد حان فعلاً لكي يطير أنان إلى العواصم استدراجاً للشكر والتبجيل. والواقع ان الشكر الوحيد الذي يستحقه هو شكر إسرائيل، لأنه قدم إليها الخدمة التي طلبتها منذ اللحظة الأولى: الانسحاب يتم إلى "خط موفاز" على اسم رئيس الأركان الإسرائيلي وليس إلى "خط لارسن" على اسم مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. أي ان أنان قبل ب"التفسير" الإسرائيلي للقرار 425 وترك لمبعوثه مهمة الاقتراب ما أمكن من "خط موفاز" ثم ترك للإسرائيليين مهمة تثبيت هذا الخط، وتولى هو شخصياً اخراج الخطوة الأخيرة فقدم تقريره ثم... إلى الطائرة لتتفجر المشكلة عندما لا يكون "على السمع". ينسب ديبلوماسيون إلى المندوب الأميركي في الأممالمتحدة ريتشارد هولبروك قوله إن أنان تعلم جيداً متى يظهر ومتى يختفي أمام الأضواء، ويعني ذلك تحديداً أنه يسير تماماً في الخط الذي رسمته له واشنطن، إذ أنه اختفى تماماً في بعض الأزمات الدولية كوسوفو مثلاً، وها هو يظهر للايهام بأن الأممالمتحدة في صدد إحياء دورها الممنوع أميركياً في عملية السلام في الشرق الأوسط. هذا على الأقل ما يريد أنان - أو بالأحرى ما كلف - بثه خلال جولته الحالية. وليس مؤكداً أنه سيقول ذلك أو سيجرؤ على طرحه أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي، فحتى كلينتون وأولبرايت لا يفعلان ذلك، لأن إسرائيل هي التي استبعدت الأممالمتحدة وقراراتها منذ بداية ما يسمى "عملية السلام" ولم تقبل تنفيذ القرار 425 إلا عندما تبنى الأميركيون تفسيرها له. وعندما يتبنى الأميركيون يتبنى أنان. "كلهم موظفون عند باراك"، على حد تعبير ديبلوماسي عريق في الأممالمتحدة. الأرجح ان كل جولة أنان ليست سوى مهمة أميركية - إسرائيلية، فلا هو واهم بأن الأممالمتحدة ستستعيد دورها المسروق في عملية السلام، ولا الأميركيون - الإسرائيليون في صدد إحداث انقلاب في هذه العملية. هناك أسئلة محددة عن سورية ولبنان يريدون اجابات عنها، خصوصاً من إيران، وقد كلفوا أنان بهذه المهمة.