منذ أيام مصطفى كمال، والأتراك - جزء كبير منهم على الأقل - يريدون أن يثبتوا أنهم اوروبيون، حتى وإن كان الجزء الأكبر والرئيس من أراضي بلادهم يقع داخل القارة الآسيوية التي يحبون أن ينفصلوا عنها بأي شكل من الأشكال. وفي الأزمان الحديثة لا تفتأ الحكومات التركية المتعاقبة تبدي الرغبة في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي كجزء من تحقيق تلك الرغبة العزيزة على قلوبهم والتي يرون في تحقيقها مكاسب، ما بعدها من مكاسب. لكن "الدخول" الى أوروبا دونه، دائماً، شروط يرى الأوروبيون أنها لا تتوافر لدى السلطات التركية. ومن هنا، في كل مرة يلوح فيها الى الأتراك ان رغبتهم باتت على وشك أن تتحقق، يطالعهم الأوروبيون بالشروط ويحدثونهم بما يعترض ذلك من عقبات، وتكون النتيجة تأجيل ذلك كله. في العشرين من حزيران يونيو 1995، حدث شيء من ذلك القبيل. لكنه حدث في وقت بدا فيه الأتراك مؤمنين بأن الأمور هذه المرة صارت أيسر وان الدنو من أوروبا صار أسهل. ففي ذلك الحين كانت تركيا تشعر انها أدت الى الغرب خدمات كبيرة خلال حرب الخليج الثانية، وان "علمانيتها" وسط بيئة تتخبط في صراعاتها و"ظلاميتها" أمر من شأنه أن يجعلها ضرورية للغرب، ولأوروبا بالتحديد. فإذا اضفنا الى هذا واقع أن امرأة - ذات اتجاهات غربية - كانت ترأس حكومة تركيا في ذلك الحين، يمكننا أن نفهم اشتداد الأمل التركي واستشراس الاتراك في محاولتهم "الأوروبية" كما عبروا عنها في ذلك اليوم. يومها، أمام مجلس اتحاد اوروبا الغربية انطلقت تانسو تشيلر، رئيسة الحكومة التركية، تدافع عن قضية انضمام بلدها الى تركيا. وكانت تبدو، في ذلك اليوم، عازمة وبكل قوة على اقناع حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وبالتالي اعضاء الاتحاد بأن عملية ايصال تركيا الى الديموقراطية سائرة على قدم وساق في هذا البلد. ولكن كان من سوء حظ تانسو تشيلر ان تظاهرات عنيفة كانت قد جرت في اسطنبول قبل ذلك بثلاثة أشهر أوقعت ضحايا كثيرة، ولفتت انظار العالم الى ذلك "النوع الغريب من الديموقراطية" في تركيا، اضافة الى أن الجيش التركي كان عمد بعد ذلك الى شن عمليات قمع عجيبة وقاسية ضد الثوار الأكراد في جنوب شرقي الأناضول. كان هذا كله ماثلاً، بحيث أن السيدة تشيلر أحست على الفور بأنها سوف تعود هذه المرة أيضاً خائبة من مسعاها. وفي مواجهة دفاعها الحار عن "الديموقراطية" على الطريقة التركية، وجدت السيدة تشيلر يومها أصواتاً كثيرة ومرتفعة تنادي بالاعتراف بحقوق الأقلية الكردية في تركيا، وبأن على القوات التركية ان تبارح الجزء الذي تحتله من جزيرة قبرص. والحال أن ذلك الاحتلال كان، ولا يزال، يشكل واحدة من العقبات الرئيسية التي تعترض مبدأ قبول تركية في أوروبا، خصوصاً أن الأوروبيين يرون أن القوات التركية المرابطة في الجزيرة تمارس نوعاً من التطهير العرقي أسفر، كما يرى الأوروبيون، عن طرد القبارصة اليونانيين من الأماكن التي كانوا يعيشون فيها "في الجزء التركي" من الجزيرة، ليحل محلهم مزارعون أتراك جيء بهم من الأناضول ليزيدوا من عدد أتراك قبرص. عندما جوبهت السيدة تشيلر بهذا كله، تحدثت عن التعديلات التي ستدخل على دستور العام 1982، والتي سيكون من شأنها حين تطبق أن توجه النظام التركي في دروب أكثر ليبرالية، غير ان الأوروبيين ردوا بأن تلك التعديلات لا تزال قيد النقاش. وذكروا كيف أن الاسلاميين الاتراك، عن طريق ممثليهم في البرلمان، لا يزالون يناضلون لكي تلغى المادة 24 من الدستور التأسيسي الذي كان قد صيغ ضمن روحية كمالية خالصة، وفيه نص على عدم جواز تشكيل احزاب ذات أساس ديني. إزاء ذلك كله كان يبدو واضحاً أن الطريق مسدودة تماماً من دون وصول تركيا الى اوروبا. ومن المعروف أن ذلك الوصول كان يشكل الرهان الأكبر الذي راهنته تانسو تشيلر، التي كانت وصلت الى مركز رئاسة الحكومة اثر موت تورغوت أوزال في ربيع العام 1993، إذ على أثر رحيل هذا الأخير، وكان يشغل منصب رئيس الجمهورية، صار سليمان دميريل، رئيس الحكومة، رئيساً للجمهورية، وعلى الفور رفعت تانسو تشيلر من منصب وزيرة الاقتصاد الى رئاسة الحكومة. وتشيلر، ابنة العائلة البورجوازية الثرية، كانت معروفة بليبراليتها وتوجهها الغربي، ومن هنا راحت تسعى الى تحقيق حلم تركيا الأوروبي، غير أن سوء حظها جعلها تخطو خطواتها تلك في مناخ تفاقمت فيه الأزمة الكردية، وبات فيه الاسلاميون مسيطرين تماماً على الشارع، وراح فيه الأوروبيون يتشددون دون قبول تركيا بينهم. وهكذا خسرت تشيلر معركتها الأساسية. الصورة: تانسو تشيلر، معركة أوروبا.