في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بدا الأمن في الخليج وقد ارتدى مضامين أكثر وضوحاً في الجمع بين ما هو إقليمي ودولي. وبدت البيئة الخليجية في طريقها نحو تعويم متزايد، بالمعيارين السياسي والاستراتيجي. وبعد عقد على اندثار الحرب الباردة، ثمة وضوح نسبي يمكن تلمسه على مستوى الخيارات الدولية لهذه البيئة. بيد أن الصورة غير الواضحة حتى الآن تتعلق بماهية الخيار الداخلي للبيئة الخليجية - بما هي نظام إقليمي فرعي. ولا يقلل من هذه المعضلة حقيقة وجود مؤسسة خليجية موحدة الرغبات. والسؤال المطروح بقوة متزايدة هو أي أمن جماعي يصبو له الخليج؟ وأي معايير تحكم هذا الأمن؟ بل من المخول تعريف ماهيته، فضلاً عن بلورة إطاره. إن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن معضلة المعطيات الجغرافية وعالمية الصراع على النفط والأنماط السالبة للموروث السياسي قد شكلت العوامل البنيوية الأولى لمعضلة الأمن في الخليج. بيد أن هذه المعضلة يمكن أن تشهد إعادة إنتاج أكثر مأزقية في ظل تفسير انتقائي للموروث التاريخي. وكذا السعي لإعادة رسم غير متوازن للمقوم الجغرافي والسياسي، والجغرافي على وجه التحديد. وهذا النمط من مقاربة المعضلة كان عاملاً مباشراً وأساسياً في تفجير حربين إقليميتين في غضون عقد واحد. وهو مرشح لأن يفجر مزيداً من الحروب الواسعة أو المحدودة، ويعطي المزيد من المبررات لتكثيف الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، ويجعل منه وجوداً ثابتاً ومقيماً. بل إن هذا النمط من مقاربة المعضلة يتناقض تماماً مع فلسفة وجود مؤسسة إقليمية تطرح مقولات السعي الى التعاون، فالتوحد والاندماج. إن التشكل الجيوسياسي، بما هو اللبنة الأولى في قيام الدول، لا يجوز بأي حال من الأحوال إلا أن يكون تشكلاً جامداً. وعلى وجه التحديد، لا يجوز النظر لهذا التشكل باعتباره حالاً خاضعة للجدل السياسي، ونمطاً للتحالفات السائدة، أو تحديداً النمط المتغير لموازين القوى. وفي الخليج، حيث يتكاثف الجدل حول العلاقة بين حاضر الدولة وماضيها، بين الجغرافية والتاريخ، لا بد من التأكيد على المضمون النسبي للتلازم بين الأمرين، حيث لا يتقدم الشك على اليقين. فلا تنازع دولة على أرض كانت جزءاً منها منذ تكوينها، ولا تدعي دولة الحق في أرض لم تكن تحت سيادتها في لحظة من اللحظات، لمجرد القرب الجغرافي. و هذا على وجه التحديد المدخل الذي يمكن اعتماده لمقاربة النزاع الحدودي بين البحرينوقطر. فمن منظور القانون الدولي لا يجوز اللجوء الى القرب الجغرافي وحده كأساس للملكية، وإن كان يقبل به كعنصر إضافي معزز لتدابير ممارسة الملكية أو ممارسة السلطة. وبالنسبة للجزر، يظل هذا المنظور صحيحاً سواء كانت الجزر محل النزاع تقع داخل المياه الإقليمية للدولة المجاورة أو خارج تلك المياه. وكنموذج لهذه المقولة، جاء في حكم التحكيم الصادر في قضية النزاع بين اريتريا واليمن ما نصه: "يشترط القانون الدولي الحديث في شأن حيازة الإقليم أو نسبته الى طرف ما أن يكون هناك تعبير صريح عن ممارسة القوة والسلطة على الإقليم محل البحث من خلال ممارسة اختصاص الدولة ووظائفها بصورة مستمرة وسلمية ويمكن تكييف المعيارين الأخيرين بما يتناسب وطبيعة الإقليم وحجم سكانه إن وجد به سكان". وعلى رغم ذلك، هناك مقولة مؤداها أن أي جزر قبالة السواحل يمكن افتراض تبعيتها لذلك الساحل ما لم تبرهن الدولة الواقعة على الساحل المقابل أنها تمتلك تلك الجزر. بيد أنه في حال النزاع البحرينيالقطري، وبعد الكشف عن 82 وثيقة قطرية مزورة، تخلت قطر أمام المحكمة الدولية عن ادعائها وجود دليل على امتلاكها لجزر حوار موضع البحث، أو ممارسة أي سلطة حكومية عليها. ومن هنا، فإن ادعاءاتها في ملكية تلك الجزر لم يظل أمامها سوى سند مبدأ القرب الجغرافي وحده. وهذا لا يمكن في ذاته، بحسب القانون والعرف الدوليين، أن يعطي قطر حقاً على تلك الجزر، لاسيما إذا كان ذلك في مواجهة ما تمتعت به البحرين من ملكية للجزر من دون منازع. ومن المنظور التاريخي، يمكن أن نلحظ أن عدم تغلغل أسرة آل ثاني في عمق شبه جزيرة قطر، باعتبارها كانت موجودة في الدوحة وما حولها في القرن التاسع عشر، بل وحتى جزء من القرن العشرين، يعني غياب أي سلطة فعلية لآل ثاني في جزر حوار بما في ذلك جزيرة جنان. وكذلك على ساحل شبه الجزيرة المقابل لتلك الجزر. وتفيد الوثائق التاريخية المتداولة، أنه في العام 1934 أتيحت الفرصة للمقيم السياسي البريطاني في الخليج أن يقرر، من واقع الملاحظة، أن شيخ قطر يعتبر تاجراً كبيراً أكثر من كونه حاكماً، ولا يتمتع من الناحية الفعلية بأي سلطة على الجزء الداخلي من دولته حيث كان من المتوقع أن تجرى عمليات استخراج النفط. وفضلاً عن ذلك فإن المنطقة الواقعة بين الساحل الغربي والساحل الشرقي لشبه جزيرة قطر كانت ولا تزال أرضاً صحراوية لا يمكن عبورها إلا بمشقة بالغة، على عكس السهولة التي تمتاز بها المواصلات البحرية في المياه الضحلة الواقعة بين جزيرة البحرين الرئيسية وبين جزر حوار. وبهذا المعنى فإن الوحدة الطبيعية هي تلك الوحدة القائمة بين جزر حوار والمنامة وليس بين حوار والدوحة. والواقع أنه حتى عندما بدأت شركة النفط عملياتها على الساحل الغربي لقطر في منطقة دخان وهي لا تقابل جزر حوار مباشرة، وإنما تقع الى الجنوب منها، فإن الشركة كانت تتخذ من البحرين قاعدة لها وكانت تأتي إليها جميع امداداتها بالقوارب من البحرين. وعلاوة على ذلك فإنه ليس من سبب يحمل على الاعتقاد بأن الوحدة الجغرافية التي تحتج بها قطر، كوحدة قائمة بين شبه الجزيرة وجزر حوار، لا تنسحب كذلك على جزيرة البحرين الرئيسية، أو على السعودية، أو حتى على إيران. فللمرء أن يتساءل الى أي مدى ينبغي أن تمتد الآثار السياسية للوحدة الجغرافية. ولو أتيحت الفرصة لمحكمة العدل الدولية في لاهاي للنظر مرة أخرى في نسخة المرافعة القطرية التي تحتوي على فقرات مظللة باللون الأصفر، وهي الفقرات التي تمثل استخداماً للوثائق المزورة - التظليل قدمته البحرين على الوثيقة الى رئيس المحكمة في جلستها المنعقدة في تشرين الثاني نوفمبر 1997- لكان في مقدور المحكمة أن تلاحظ وجود حذف في النص الأصلي للمرافعة القطرية، حيث حذف الفصل الخامس من هذا الدفع والمعنون "وحدة أراضي قطر وسيادتها على جزر حوار". وتلك الفقرات المحذوفة من شأنها أن تنال من الحجج المطروحة في ذلك الفصل على نحو يدحضها. سوف تكتشف المحكمة أن ذلك النص أصبح خالياً من قسم فرعي عنوانه "أمثلة محددة تبرهن على الاعتراف" في القسم الرئيسي المعنون: "الاعتراف بالأراضي". وكذلك اختفاء ما سمي بخريطة المساحة العثمانية لعام 1873م التي حفلت بالعديد من الأختام، وثبت من تمحيصها أنها اشتريت جاهزة من أحد متاجر الهدايا الصغيرة في لاهاي وهي خريطة ذكرت فيها عبارة "حوار القطرية" التي وجدت فيها قطر ما يساعدها في موقفها وتضمنت رسماً لخط حدود يقع على مسافة بعيدة الى الغرب من تلك الجزر. كذلك ستكتشف المحكمة اختفاء الإشارات الواردة في الحاشية رقم 58 في الدفع الإضافي المقدم من قبل قطر بادعاء سيادتها على حوار حيث أن تلك الإشارات عارية عن الصحة. وعلى رغم كل ذلك، فإن الجدل هنا ليس جدلاً في إطار التاريخ، ولا هو معضلة محددات جغرافية، أنه معضلة مقاربة غير متوازنة لخيار التعايش الإقليمي، ورؤية غير واضحة لشروط الأمن الجماعي وضروراته. إن السؤال الأكثر مركزية هو أين تتجه مقولات التعاون الخليجي والوحدة الخليجية في ظل إصرار دائم على تجاوز البيت الخليجي والقفز عالياً على خصوصياته، إصرار على رفض مبدأ الحوار الأخوي في العلاقات الخليجية، وتجاهل مساعي الأشقاء، بما في ذلك المساعي الحميدة التي نهض بها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية. وإن ما يجب التشديد عليه هنا هو أن انفراط مبدأ الحوار الأخوي في العلاقات الخليجية لن يكون سوى بداية مؤلمة لانفراط المزيد من لبنات الأمن على الصعيد الإقليمي، ما قد ينطوي عليه من تهديد للمصالح الدولية في منطقة تتسم بحساسية متزايدة على الصعيد الجيوبوليتيكي. لقد كان من الواضح تماماً أن حرب الخليج شكلت خطاً فاصلاً بين عصرين، وكان من الواضح أننا أمام بيئة استراتيجية ذات وضع انتقالي بالكثير من المعايير. وضع بدت فيه الكثير من المقولات والنماذج وقد تحولت فعلياً أو كادت، وبرزت مفاهيم الأمن هنا كمثال جلي. إن النمط المتغير للعلاقة بين الأمن الإقليمي والأمن الدولي في عالم ما بعد الحرب الباردة، وحدود المفاضلة بين العناصر المكونة لنظام الأمن الجماعي في ظل انهيار مريع للتوازن الاستراتيجي في المنطقة، تشكل خطوط عريضة لمعضلة يجب التصدي لها بمزيد من الوعي والإدراك. وفي مقاربتهم لهذه المعضلة فإن الخليجيين مطالبون، أولاً وقبل كل شيء، بتحديد ماهية الخيار الذي يجب أن ترسو عليه علاقاتهم على الصعيد الثنائي، درجة المرونة في هذه العلاقات، والمرجعية التي تبت في الخلافات القائمة أو التي قد تحدث مستقبلاً، درجة القناعة الفعلية بآليات العمل المشترك القائمة، ممثلة بمجلس التعاون الخليجي وأمانته العامة والهيئات المنبثقة منه. والخلاف البحرينيالقطري الراهن يشكل اختباراً حقيقياً للمقولات الوحدوية السائدة، بقدر ما هو اختبار صعب لواقع الأمن الإقليمي في الخليج الذي قد يكتشف الكثيرون أنه أكثر هشاشة مما يعتقدون. * كاتب بحريني.