أودع التركي محمد علي أقجا الذي حاول اغتيال البابا عام 1981 الحبس الانفرادي في سجن كرتال في اسطنبول، بعدما أعفت عنه ايطاليا وسلمته الى أنقرة. وأمضى أقجا 19 عاماً في السجون الايطالية وعليه أن يتم عقوبة بالسجن لمدة عشر سنوات في تركيا لادانته بقتل رئيس تحرير صحيفة "ميليت" عام 1979. وصدر قرار العفو الرئاسي الايطالي الذي طال انتظاره أكثر من ثلاث سنوات عن أقجا أول من أمس ليسدل الستار على مسرحية "الذئب الرمادي" باعتبارها واحدة من أكبر فضائح العصر التي مثل اقجا دوره المطلوب فيها: دور الشاهد والمتهم. في 13 أيار مايو 1981 أطلق علي اقجا ثلاث رصاصات على البابا يوحنا بولس الثاني وهو يمر في سيارة مكشوفة بين جماهير احتشدت في ميدان القديس بطرس، احداها اخترقت بطنه ومزقت امعاءه ومرت بالقرب من عموده الفقري، لكنه نجا بعد جراحة استأصل خلالها الأطباء الرصاصات، ومعها 30 سنتم من الأمعاء التي عادت وتورمت بعد 11 سنة، مما اضطر الأطباء الى اخضاعه لجراحة ثانية لاستئصال الورم. وأثناء محاكمته الطويلة وفي سجنه ظل علي اقجا يصرخ بأعلى صوته انه "رفيق شيوعي وصديق للفلسطينيين وخصوصاً جورج حبش"، ونفت الجبهة الشعبية وقتها كلام اقجا، وقدمت الشرطة التركية معلومات الى القضاء الايطالي تؤكد عضوية اقجا في حزب الحركة القومية التركي اليميني المتطرف، وأنه قاتل محترف هارب من سجنه في تركيا بعد اشتراكه في اغتيال الصحافي التركي ابدي ابتشكي رئيس تحرير صحيفة "ميليت"، وكان اقجا بعث الى الصحيفة بعد هروبه من السجن العسكري في انقرة برسالة يقول فيها ان خوف الغرب من أن تنشئ تركيا واشقاؤها العرب سلطة سياسية واقتصادية وعسكرية جديدة في الشرق الأوسط جعله يرسل الى تركيا على وجه السرعة قائد الصليبيين يوحنا بولس الثاني متنكراً كزعيم ديني، وكانت الرسالة حملت تاريخ 28 تشرين الثاني نوفمبر 1979 أي قبل يومين من موعد الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها البابا الى تركيا. وجاء في رسالة اقجا تلك، قوله "إذا لم تلغ الزيارة غير المناسبة والخالية من أي معنى سأقتل البابا بالتأكيد، وهذا هو سبب هروبي من السجن، أخيراً يجب أن يدفع احدهم ثمن الهجوم على مكة الذي خططت له الولاياتالمتحدة واسرائيل". تكشف رسالة اقجا هذه، بعضاً من جوانب المهزلة التي استمرت تسعة عشر عاماً على مسرح العدالة الايطالية، وظل بين الحين والآخر يوجه الاتهامات الى من يشاء، فمرة هو رفيق شيوعي، ومرة أخرى يريد الثأر لمكةالمكرمة، وثالثة يساري يتدرب مع الفلسطينيين، ورابعة يسوع المسيح ومخلص العالم، وهذه صرعته الكبيرة التي أفشى سرها الى البابا خلال زيارته له في زنزانته في كانون الأول ديسمبر 1983. سلوك علي اقجا طوال فترة سجنه أثار الشكوك في مدى صدقيته، فقد ظل يدلي باسماء ومواقع وعمليات ارهابية مليئة بالمفارقات: ادعى انه ينتمي الى منظمة "الذئاب الرمادية" التركية الفاشية التي نفذت هجوماً على محطة "راديو أوروبا الحرة" في آب اغسطس 1980، ولم يشترك هو في الهجوم الذي ألحق اصابات بثمانية من العاملين في الاذاعة، وأضاف انه اجرى محادثات مع ديبلوماسيين بلغار. وأحد هؤلاء جرت محاكمته غيابياً في هذه القضية، والمحادثات حسب زعمه استهدفت وضع خطة لاغتيال الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، ورئيس دولة مالطا السابق مالتوف اثناء زيارة الأخير لتونس، والخطة كانت تقضي، كما ادعى اقجا، بوضع قنبلة يجري تفجيرها لاسلكياً داخل سيارة على الطريق المؤدية الى بيت الرئيس التونسي السابق، وألغيت المحاولة بسبب معرفة الشرطة التونسية بمؤامرة تستهدف حياة بورقيبة. أما الضجة الأخرى التي أحدثها احد تصريحاته، فهي قوله ان جهاز الاستخبارات الايطالية كان على علاقة بمحاولة اغتيال البابا، وان الجنرال موسو ميجي نائب مسؤول الجهاز السري المذكور الذي توفي في سجنه قبل سنوات بتهم مسؤوليته عن عدد من الجرائم، خصوصاً تلك التي تتعلق بتفجير القطارات، وعلاقته بالمجمع الماسوني ب2 المحظور، كان على علاقة ومعرفة بمحاولة الاغتيال، كما ان رئيس الجهاز السري السابق باتسينسا المسجون حالياً مدى الحياة بتهم عدد كبير من الجرائم، كان وعد اقجا باطلاق سراحه اثناء احدى زياراته للسجن قبل الكشف عن فضائح الجهاز السري التي أثارت ضجة كبيرة في الوسط الايطالي، وعجلت بسقوط صرح الديموقراطية المسيحية التي حكمت البلاد أكثر من خمسين عاماً. وبيّن اقجا ان لعصابات المافيا والكومورا ضلعاً في المؤامرة ايضاً، وأوضح ان عراب الكومورا كوتلا الذي يقضي عقوبة بالسجن مدى الحياة كان على علم بالمحاولة، وأيد أقوال اقجا هذه الارهابي الشهير بانديكو الذي عمل سنوات طويلة مع كوتلا. ويذكر ان عصابات الكومورا اغتالت والدة بانديكو بعد أيام قليلة من أجل إيقافه عن مواصلة اعترافاته. واعترف بأن الطفلة مانويلا المخطوفة منذ سنوات طويلة ولم يعرف مصيرها، وهي ابنة أحد كبار الموظفين في دولة الفاتيكان، خطفتها عناصر من المجمع الماسوني الذي طالب بالافراج عن اقجا مقابل اطلاق سراحها، إلا أن اقجا رفض ذلك العرض واصفاً اياه بأنه "عملية قذرة". وضمن هذا المسلسل الطويل من الاعترافات والادعاءات قال اقجا انه تدرب مع مجموعة من البلغار والسوفيات من أجل القيام بنشاطات ارهابية موجهة الى جميع انحاء العالم، كما كشف عن العملية الارهابية التي نفذت في ميدان القديس بطرس زاعماً وجود شريك تركي ثالث يطلق على نفسه اسم عاكف وشخصه اقجا بالصور الفوتوغرافية التي تمتلكها المؤسسات الأمنية الايطالية والتقطت اثناء محاولة الاغتيال. وقبل سنتين وجه البابا رسالة الى رئيس الجمهورية الايطالية السابق اوسكار لويجي سكالفرو يستوضح من خلالها عن قرار الحكومة الايطالية ورئاسة الجمهورية بالافراج عن اقجا، واصدر الفاتيكان في الوقت نفسه بياناً مفصلاً في القضية بعدما غفر البابا للتركي في مناسبات عدة كان آخرها استقباله لشقيقه ابراهيم الذي جاء الى روما متلمساً تدخل البابا لدى رئيس الجمهورية لاصدار عفو رئاسي خاص، وقال البابا في حينه "إذا وافق رئيس الجمهورية فأنا موافق". إلا أن ملف القضية الذي رافقه تقرير ايجابي من قاضي الرقابة في السجون الايطالية يثني فيه على السلوك "النموذجي" للسجين ظل مركوناً على طاولة رئيس الجمهورية السابق على ضوء طلب القاضي انطونيو ماريني الذي كان يمثل الادعاء العام في محاكمة اقجا باحتجاجه على اطلاق سراحه لأن ملف القضية فتح من جديد، ولأن شهودا في هذه القضية ما زالوا يدلون بشهادات خطيرة، وان اقجا لم يذكر أي جانب من الحقيقة وأن "هناك رؤوساً كبيرة مشتركة في هذه المؤامرة لم يكشف عنها النقاب". كما ان عضو مجلس الشيوخ الايطالي فيرناندو ايمبوزيماتو الذي كان قاضياً خلال محاكمة اقجا طالب هو الآخر بعدم اغلاق ملف القضية بانتظار وضوح مساهمة الديبلوماسي البلغاري السابق في روما ايفان دونتيكيف الذي يعتبر مفتاح القضية بأكملها وهرب من ايطاليا بعد اتضاح أمره، وكان عميلا للاستخبارات السوفياتية التي استخدمت اقجا.