انتظم عبدالله النفيسي بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج في سلك التدريس في قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت في شتاء عام 1972. وفي سيرته الذاتية (من أيام العمر الماضي)، تكلم عن ملحوظاته على الجامعة والمناخ العام فيها. وفي كلامه عن المناخ العام في الجامعة حدثنا أنه «كان يرأس قسم العلوم السياسية (وقتها 1972–1974) الأستاذ الدكتور إبراهيم صقر... وهو – مع خالص تقديري له – ذو نزعة ناصرية مع مسحة يسارية(!)... أبديت له رغبتي في أن أضيف إلى مقررات القسم مقرراً جديداً وهو (الفكر السياسي الإسلامي) وأن ألتزم شخصياً بتدريسه فوافق على الفور. إذ لاحظت أن القسم يدرس مقرر (النظرية السياسية political theory)... دون التفاتة في رصد النظرية السياسية عند ابن خلدون وأبو يعلى الفراء والجويني وابن قيم الجوزية وابن تيمية والماوردي وعبدالقاهر البغدادي وابن حزم وغيرهم من المعاصرين أمثال طارق البشري ومحمد عمارة والشهيد سيد قطب والشهيد عبدالقادر عودة وغيرهم». في الكلام أعلاه، كان من المفترض أن يتقدم اسم سيد قطب واسم عبدالقادر على اسمي البشري وعمارة، لأنهما كانا متقدمين عليهما في السن وفي الكتابة والتأليف. لكنه أراد أن يوحي للقارئ بأن مكانة البشري وعمارة في نفسه تتقدم على مكانة قطب وعودة، وأنه لم يكن في تدريس المقرر حزبياً محصوراً في مؤلفات الإخوان المسلمين، بل كان منفتحاً. أراد أن يوحي بذلك، فخلّط تخليطاً مضحكاً. في العام المذكور لم يكن البشري كتب مؤلفاً ولا بحثاً ولا حتى مقالة صحفية، تناول فيها الفكر السياسي الإسلامي، ولا الفكر الإسلامي عامة في أي جانب من جوانبه في ماضيه وحاضره، وفي العام المذكور كان قد صدر كتابه (الحركة السياسية في مصر 1945–1952)، وكان في ذلك الوقت يسارياً محسوباً على الحركة الشيوعية في مصر. وكذلك كان الكتاب. وفي المنتصف الثاني من عقد سبعينيات القرن الماضي كان البشرى يعيش مخاض تحول مكتوم استوى إلى اتجاه إسلامي، كانت ثمرته الأولى مقالاً نشر في شهر مارس عام 1979 في مجلة (العربي) بعنوان (رحلة التجديد في التشريع الإسلامي)، نشر بعد فصل الحكومة الكويتية عبدالله النفيسي من عمله في الجامعة، بسبب تأليفه كتاب (الكويت.. الرأي الآخر)، وفي العام نفسه الذي قبض عليه وعصابة 36 جهيمانياً، بتهمة دخوله السعودية من غير جوازات سفر، وتهريب كراسات جهيمان إليها. وفي أول الثمانينيات أفصح البشري عن اتجاهه الإسلامي أكثر فأكثر، واقترب من الإسلاميين والإخوان المسلمين كثيراً إلى حد تبني مفاهيمهم الأساسية، وفي الطبعة الثانية لكتابه (الحركة السياسية في مصر 1945–1952) الصادرة عن دار الشروق عام 1983، كتب مقدمة طويلة – المقدمة مؤرخة كتابتها في 5 أكتوبر عام 1981 – عدد صفحاتها 72 صفحة، وقد أراد – كما في عنوانها – أن تكون (تعقيباً ومراجعة) للكتاب الذي كتبه في ظل اتجاهه السياسي والفكري اليساري السابق. الجوانب التي راجع ما كتبه في المتن عنها جوانب ثلاثة هي: «الوجود الأجنبي اليهودي على رأس كثير من التنظيمات الماركسية في الأربعينيات» وإدراكه في ما بعد «الأبعاد الممتدة لهذا الوجود ووظيفته السياسية»، إشارته إلى الحزب الوطني الجديد مراراً في سياق أحداث الكتاب، من دون أن يفرد له قسماً مستقلاً كما صنع في غيره، وتسجيله لتاريخ الإخوان المسلمين ونظرته إلى فكرهم. وقد استغرقت مراجعته الأخيرة معظم صفحات المقدمة. ويهمنا هنا من هذه المراجعة الأخيرة قوله عن نفسه: إنه كان لا يفهم صميم الدعوة الإسلامية السياسية، أي صلة الدين الإسلامي بالسياسة وبنظام الحياة. ومن كان فهمه على هذا النحو، لا ينتظر منه أن يؤلف كتاباً عن الفكر السياسي الإسلامي. أما عمارة فإلى سنة 1975 لم يكن له مؤلف يتعرض فيه للفكر السياسي الإسلامي، وفي العام المذكور ناقش أطروحته للدكتوراه التي كان موضوعها: نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة، وموضوعها – كما تلحظون – يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي عند فرقة إسلامية واحدة. وإضافة إلى هذا كان عمارة في عقد السبعينيات وقبلها في المنتصف الأخير من عقد الستينيات محسوباً على الفكر القومي العربي اليساري، وهو في الأصل كان كادراً شيوعياً دينياً، اعتقل مع الشيوعيين عام 1959 وأفرج عنه وعنهم عام 1965. وكانت بوادر تحولاته في المنتصف الأول من الثمانينيات. الإسلاميون – وهم الجماعة التي ينتمي النفيسي إليها – كانوا معادين لعمارة ولكتبه، نظراً لكونه قومياً عربياً يُيُسْرِنْ الإسلام في قراءته له، ويروم علمنته على خطى علي عبدالرازق، وينتصر للمعتزلة، ولكونه مصنفاً ضمن الإسلام العقلاني المستنير. يصفى لنا من أعمال المعاصرين التي استعملها في تدريس المقرر الجديد (الفكر السياسي الإسلامي) كتب سيد قطب وكتاب عبدالقادر عودة (الإسلام وأوضاعنا السياسية) وكتب من لم يسمهم، وهم – بلاشك – كانوا من الإسلاميين الحركيين. ومن الملفت للنظر أن ثمة مؤلفات معتبرة تصلح أن تكون عمدة في تدريس المادة المشار إليها، بعضها ألفها أكاديميون قريبون من الإخوان المسلمين لم يدرجها في مراجع تلك المادة! فكتب سيد قطب وكتاب عبدالقادر عودة «وغيرهما»، يقدم تصوراً حزبياً مستحدثاً للفكر السياسي الإسلامي أتت به الجماعة الإسلامية في القارة الهندية وأتى به الإخوان المسلمون. وهذا التصور يمثل الإسلاميين – ومعهم النفيسي – أكثر مما يمثل الفكر السياسي الإسلامي. كتب الدكتور عادل رضا مقالاً هاجم فيه النفيسي بشدة، وكان عنوان المقال (المسكين عبدالله النفيسي)! وتحدث عن صلته الشخصية بالنفيسي، فقال: «أنا أعرف الدكتور عبدالله النفيسي، وجلست معه أكثر من مرة، وتناولنا الطعام معاً، وذهبت إلى منزله وصلينا معاً كذلك». وذكر أنه «كان ماركسياً في الستينيات، حتى أنه أطال شعره إلى كتفيه، وكان يضع صورة لتشي غيفارا على صدره دائماً، ويتمشى في الشارع بهذا الشكل، وذكر هو قصة مفادها أنه كان بدرجة من التعصب الماركسي إلى حد رفضه بيع سيارته إلى أحدهم فقط، لأنه اكتشف إنه إنسان غير شيوعي!». روايات النفيسي عن نفسه يجب أن تؤخذ بحيطة وحذر، ومن الغفلة تصديقه في كل ما يقوله عن نفسه وعن تاريخه. لم أجد في استقصائي عن حياته حين كتبت سيرته (عبدالله النفيسي: الرجل – الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية) أنه في مرحلة ما من حياته كان شيوعياً أو يسارياً أو حتى قومياً عربياً، بل كان عدواً للشيوعية واليسار ومحارباً لهما، وكذلك كان عدواً للقومية العربية، وبخاصة الناصرية، ومحارباً لها. لنفحص صحة ما قاله للدكتور عادل رضا عن نفسه. في العام (1961 – 1962)، وكان سنه يراوح بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، قرر فجأة أن يترك الدراسة في كلية بمدينة مانشستر، كانت تؤهله للدخول في كلية الطب بجامعة مانشستر، ويعود إلى الكويت، ليدرس الإسلام والشريعة الإسلامية في كلية الشريعة بجامعة الأزهر أو كلية الشريعة بجامعة دمشق. وقد روى هو هذه الحكاية كاملة في مقدمة كتابه (في السياسة الشرعية) الصادر عام 1984، ووضعها على لسان الناشر، ومؤخراً وضعها على لسانه في سيرته الذاتية (من أيام العمر الرياضي). وفي سلسلة مقالات نشرها بجريدة القبس في أواخر عام 1987، وكان عنوانها (الحركة الإسلامية، ثغرات في الطريق) حكى عن التقائه بالإسلاميين منذ عام 1962... وكان مكان اللقاء مسجد مانشستر. وفي العام الدراسي المذكور – كما حدثنا هو في سيرته الذاتية – كان يقتني دراجة هوائية (سيكل) مستعملاً، اشتراه من طالب نيجيري. أي أنه في ذلك العام، لا كان شيوعياً، ولا كان يملك سيارة. وفي مرحلتي بيروت (1963 – 1967) وكمبردج (1968 – 1972)، من الثابت لنا من خلال زملائه وعارفيه وأصدقائه ومن خلال كتاباته باسمه الصريح أو المستعار، أنه كان إسلامياً معادياً للشيوعية وللقومية ومعادياً للعلمانية في أي اتجاه وأي مستوى من مستوياتها. بلغني في أثناء استقصائي عن حياته السياسية والعقائدية، أنه قد زار الاتحاد السوفيتي (لا أذكر الآن، إن كان قيل لي إن الزيارة كانت في الستينيات أم في المنتصف الأول من السبعينيات)، وكان في عز عداواته للاتحاد السوفيتي وللشيوعية، وبعد عودته من هذه الزيارة أسرّ لبعض خلطائه من اليساريين، بإعجابه بالأنموذج السوفيتي وكان هذا الإعجاب عرضياً وموقتاً. ولا ندري إن كان هذا الإعجاب صادقاً أو مزيفاً، فلربما أراد به التودد لخلطائه من المحازبين للاتحاد السوفيتي، فعبدالله في لقاءاته الشخصية الخاصة ببعض الناس المؤثرين يلجأ إلى تودد وتملق عقائدهم المذهبية وأهل طائفتهم، لكسبهم إلى صفه. وفي أواخر السبعينيات الميلادية تحالف تارة مع مجموعة الطليعة (اليسار القومي في الكويت) وتارة مع التجمع الوطني (القوميون الناصريون الكويتيون)، وكان مجرد تحالف سياسي، لكنه آنذاك كان إسلامياً وفي الوقت نفسه ملتصقاً بالجماعة السلفية المحتسبة بقيادة جهيمان العتيبي! إعجابه العارض والموقت السري بالأنموذج السوفيتي وتحالفه السياسي العابر مع مجموعة الطليعة والتجمع الوطني، كان الحد الأقصى الذي وصل إليه في اقترابه من اليسار. وكما قلت عنه في سيرته الذاتية التي كتبتها: «عنايته بمواجهة فكر حركة التحرير العربية وفكر الأحزاب الشيوعية جعلته – وبشكل معكوس – أسيراً للأبعاد المنهجية والثورية لمدارس العقيدة الماركسية المختلفة. وكان أثر هذه الناحية فيه قوياً على مستوى علمي وآخر نظري، وقد برز هذا التأثير في أواخر السبعينيات». وقد قلت عنه في هذه السيرة: إنه استلهم تجربة ريجيس دوبريه، الشيوعي الفوضوي المتطرف صاحب كتاب (ثورة في الثورة)... ف«تخيل... وهو يتأبط كتابه النضالي (الكويت... الرأي الآخر)، أن يكون هو ريجيس دوبريه! ويكون جهيمان العتيبي تشي غيفارا!». لاحظت أن البعض يعتمد على مقال الدكتور عادل رضا، المشار إليه آنفاً، في استعراض تحولات النفيسي، لذا رأيت أن أنبه إلى أن المقال غير دقيق في معلوماته سواء في المعلومة التي أفضى بها إليه النفيسي أو في معلومات أخر، أعتمد فيها هو على نفسه. المقال الذي يتضمن رصداً دقيقاً لتحولات النفيسي هو مقال خليل علي حيدر، وهو بعنوان: (تحولات المنظرين: النفيسي أنموذجاً). في سيرته الذاتية التي كتبتها، حاولت إزالة التوهم، وإيهامه هو بأنه كان ماركسيا، لكن فيما يظهر أن في محاولتي هذه قد أخْفقت، لعله ليس هو الذي يريد أن يغتصب ماضيه ليكون فيه ماركسياً بل جمهوره الإسلامي يريد له أيضا مثل هذا الماضي المغتصب! * باحث وكاتب سعودي